تمهيد

بعث الرسل عليهم الصلاة والسلام ليذكّروا بآيات الله وليعلّموا الناس وليزكّوا الأنفس، فالتعليم والتذكير والتزكية هي أهم مهمات الرسل، انظر مصداق ذلك في دعوة إبراهيم لذريته:

{ رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } [البقرة: 129].

وانظر الاستجابة لهذه الدعوة والمنّة على هذه الأمة في قوله تعالى:

{ كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ } [البقرة: 151].

ولقد قال موسى لفرعون:

{ فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى * وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى } [النازعات: 18-19].

وقال تعالى:

{ وَسَيُجَنَّبُهَا الأَتْقَى * الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى } [الليل: 17-18].

وقال:

{ قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا } [الشمس: 9-10].

فتزكية النفس من مهمات الرسل، وهي هدف للمتقين، وعليها مدار النجاة عند الله عز وجل.

والتزكية في اللغة تأتي على معان: منها التطهير، ومنها النمو وهي كذلك في الاصطلاح، فزكاة النفس تطهيرها من أمراض وآفات، وتحققها بمقامات، وتخلقها بأسماء وصفات.

فالتزكية في النهاية: تطهرٌ وتحقق وتخلق، ولذلك وسائله المشروعة، وماهيتها وثمراتها الشرعية، ويظهر آثار ذلك على السلوك، في التعامل مع الله عز وجل ومع الخلق، وفي ضبط الجوارح وفقاً لأوامر الله.

* * *

إن تزكية القلوب والنفوس: إنما تكون بالعبادات فإذا أُدِّيت العبادة على كمال وتمام فعندئذ يتحقق القلب بمعان تكون النفس بها مزكاة، ويكون لذلك آثاره وثمراته على الجوارح كلها كاللسان والعين والأذن وبقية الأعضاء، وأظهر ثمرات النفس المزكاة حسن الأدب والمعاملة مع الله والناس: مع الله قياماً بحقوقه بما في ذلك بذل النفس جهاداً في سبيله، ومع الناس على حسب الدائرة وعلى مقتضى المقام وعلى ضوء التكليف الرباني.

* * *

وإذن فالتزكية لها وسائل من مثل الصلاة والإِنفاق والصوم والحج والذكر والفكر وتلاوة القرآن والتأمل والمحاسبة وتذكر الموت، إذا أُديت هذه على كمالها وتمامها.

ومن آثار ذلك أن يتحقق القلب بالتوحيد، والإِخلاص، والصبر، والشكر، والخوف، والرجاء، والحلم، والصدق مع الله، والمحبة له، ويتخلى عما يقابل ذلك من رياء، وعجب، وغرور، وغضب للنفس، أو للشيطان، وبذلك تصبح النفس مزكاة فتظهر ثمرات ذلك في ضبط الجوارح على أمر الله في العلاقة مع الأسرة والجوار والمجتمع والناس.

{ أَلَمْ تَرَى كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ * تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا} [إبراهيم: 24-25].

* * *

إنّ المربين في عصرنا يواجهون حالات خطيرة:

فالقلب قسا، وأمراضه من حسد وعجب أصبحت متفشية، وحسن التعامل ضعف، والجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا بد أن تتأثر بذلك، لذلك كان لا بد للذين يسعون إلى تجديد الإِسلام أن يفكروا في إحياء المعاني القلبية للعبادات، وفي تحلية النفس بأخلاق العبودية، وتخليتها من النزعات الحيوانية والشيطانية.

وإذا كان الأثر المباشر لموت القلوب فقدان المعاني القلبية الإِيمانية: من صبر وشكر وخوف من الله... وهي أشياء لا بد منها لصلاح الحياة، وإذ كان من الآثار المباشرة لهذا الموت وجود الحسد والعجب والغرور وهي أشياء خطيرة جداً على الحياة، فلقد أصبح التركيز على هذه المعاني واجباً على الذين يريدون إصلاح الحياة الفردية والجماعية.

* * *

آداب المتعلم والمعلم

بيان وظائف المرشد المعلم

الباب الأول

آداب المتعلم والمعلم

أما المتعلم فآدابه ووظائفه كثيرة ولكن تنظيم تفريقها بثمان وظائف:

الوظيفة الأولى: تقديم طهارة النفس عن رذائل الأخلاق ومذموم الأوصاف إذ العلم عبادة القلب وصلاة السر وقربة الباطن إلى الله تعالى؛ وكما لا تصح الصلاة التي هي وظيفة الجوارح الظاهرة إلا بتطهير الظاهر عن الأحداث والأخباث فكذلك لا تصح عبادة الباطن وعمارة القلب بالعلم إلا بعد طهارته عن خبائث الأخلاق وأنجاس الأوصاف.

الوظيفة الثانية: أن يقلل علائقه من الاشتغال بالدنيا فإن العلائق شاغلة وصارفة { مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ } [ الأحزاب: 4 ]. ومهما توزعت الفكرة قصرّت عن درك الحقائق ولذلك قيل:" العلم لا يعطيك بعضه حتى تعطيه كلك، فإذا أعطيته كلك فأنت من إعطائه إياك بعضه على خطر"، والفكرة المتوزعة على أمور متفرقة كجدولٍ تفرّق ماؤه فنشّفت الأرض بعضه واختطف الهواء بعضه فلا يبقى منه ما يجتمع ويبلغ المزروع.

الوظيفة الثالثة: أن لا يتكبر على العالم ولا يتأمّر على المعلم ويذعن لنصيحته إذعان المريض الجاهل للطبيب المشفق الحاذق. وينبغي أن يتواضع لمعلمه ويطلب الثواب والشرف بخدمته.

فلا ينبغي لطالب العلم أن يتكبر على المعلم، ومن تكبره على المعلم أن يستنكف عن الاستفادة إلا من المرموقين المشهورين وهو عين الحماقة فإن العلم سبب النجاة والسعادة، ومن يطلب مهربا من سبعٍ ضار يفترسه لم يفرق بين أن يرشده إلى الهرب مشهور أو خامل، فالحكمة ضالة المؤمن يغتنمها حيث يظفر بها ويتقلد المنة لمن ساقها إليه كائنا من كان.

فلا ينال العلم إلا بالتواضع وإلقاء السمع قال الله تعالى { إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ } [ق: 37 ] ومعنى كونه ذا قلب أن يكون قابلا للعلم فهماً، ثم لا تعينه القدرة على الفهم حتى يلقي السمع وهو شهيد، حاضر القلب ليستقبل كل ما ألقي إليه بحسن الإِصغاء والضراعة والشكر والفرح وقبول المنّة.

الوظيفة الرابعة: أن يتحرز الخائض في العلم في مبدأ الأمر عن الإِصغاء إلى اختلاف الناس، سواء كان ما خاض فيه من علوم الدنيا أو من علوم الآخرة: فإن ذلك يدهش عقله ويحيّر ذهنه ويُفتِّر رأيه ويُيْئسه عن الادراك والاطلاع، بل ينبغي أن يتقن أولا الطريق الحميدة الواحدة المرضية، ثم بعد ذلك يصغي إلى المذاهب.

الوظيفة الخامسة: أن لا يدع طالب العلم فناً من العلوم المحمودة ولا نوعاً من أنواعه إلا وينظر فيه نظراً يطّلع به على مقصده وغايته، ثم إن ساعده العمر طلب التبحّر فيه وإلا اشتغل بالأهم منه واستوفاه، فإن العلوم متعاونة وبعضها مرتبط ببعض، ويستفيد منه في حال الانفكاك عن عداوة ذلك العلم بسبب جهله، فإن الناس أعداء ما جهلوا قال تعالى: { وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ } [الأحقاف: 11 ].

الوظيفة السادسة: أن لا يخوض في كل فنون العلم دفعة بل يراعي الترتيب ويبتدئ بالأهم. فإن العمر إذا كان لا يتسع لجميع العلوم غالباً فالحزم أن يأخذ من كل شيء أحسنه، وعلى الجملة فأشرف العلوم وغايتها معرفة الله عز وجل وهو بحر لا يدرك منتهى غوره، وأقصى درجات البشر فيه رتبة الأنبياء ثم الأولياء ثم الذين يلونهم.

الوظيفة السابعة: أن لا يخوض في فن حتى يستوفى الفن الذي قبله؛ فإن العلوم مرتبة ترتيباً ضرورياً وبعضها طريق إلى بعض، والموفق من راعى ذلك الترتيب والتدريج. وليكن قصده في كل علم يتحراه الترقي إلى ما هو فوقه.

الوظيفة الثامنة: أن يكون قصد المتعلم في الحال تحلية باطنه وتجميله بالفضيلة وفي المآل القرب من الله سبحانه والترقي إلى جوار الملأ الأعلى من الملائكة والمقربين، ولا يقصد به الرياسة والمال والجاه ومماراة السفهاء ومباهاة الأقران، ومع هذا فلا ينبغي له أن ينظر بعين الحقارة إلى سائر العلوم، أعني علم الفتاوى، وعلم النحو واللغة المتعلّقين بالكتاب والسنة وغير ذلك من ضروب العلوم التي هي فرض كفاية.

بيان وظائف المرشد المعلم

الوظيفة الأولى: الشفقة على المتعلمين وأن يُجريهم مجرى بنيه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنما أنا لكم مثل الوالد لولده" [أخرجه أبو داود والنسائي وابن ماجه وابن حبان]، بأن يقصد إنقاذهم من نار الآخرة وهو أهم من إنقاذ الوالدين ولدهما من نار الدنيا، ولذلك صار حق المعلم أعظم من حق الوالدين: فإن الوالد سبب الوجود الحاضر والحياة الفانية والمعلم سبب الحياة الباقية.

الوظيفة الثانية: أن يقتدي بصاحب الشرع صلوات الله عليه وسلامه فلا يطلب على إفادة العلم أجراً ولا يقصد به جزاء ولا شكراً بل يعلّم لوجه الله تعالى وطالباً للتقرب إليه ولا يرى لنفسه منة عليهم وإن كانت المنة لازمة عليهم بل يرى الفضل لهم إذ هذبوا قلوبهم.

الوظيفة الثالثة: أن لا يدع من نصح المتعلم شيئاً وذلك كأن يمنعه من التصدّي لرتبة قبل استحقاقها والتشاغل بعلم خَفيّ قبل الفراغ من الجليِّ ثم ينبهه على أن الغرض بطلب العلوم القرب إلى الله تعالى دون الرياسة والمباهاة والمنافسة، ويقدم تقبيح ذلك في نفسه بأقصى ما يمكن فليس ما يصلحه العالم الفاجر بأكثر مما يفسده.

الوظيفة الرابعة: وهي من دقائق صناعة التعليم أن يزجر المتعلم عن سوء الأخلاق بطريق التعريض ما أمكن ولا يصرح. وبطريق الرحمة لا بطريق التوبيخ، فإن التصريح يهتك حجاب الهيبة ويورث الجرأة على الهجوم بالخلاف ويهيج الحرص على الإِصرار.

الوظيفة الخامسة: أن المتكفل ببعض العلوم ينبغي أن لا يقبِّحَ في نفس المتعلم العلوم التي وراءه.

الوظيفة السادسة: أن يقتصر بالمتعلم على قدر فهمه فلا يلقي إليه ما لا يبلغه عقله فينفره أو يخبط عليه عقله، اقتداء في ذلك بسيد البشر صلى الله عليه وسلم. فليبثّ إليه الحقيقة إذا علم أنه يستقل بفهمها، وقال ابن مسعود كما أخرج مسلم: "ما أحدٌ يحدثُ قوماً بحديثٍ لا تبلغه عقولهم إلا كان فتنة على بعضهم".

الوظيفة السابعة: أن المتعلم القاصر ينبغي أن يُلقى إليه الجلي اللائق به ولا يُذكر له أنّ وراء هذا تدقيقاً وهو يدخره عنه فإن ذلك يفتر رغبته في الجلي ويشوش عليه قلبه ويوهم إليه البخل به عنه إذ يظن كل أحد أنه أهل لكل علم دقيق. فما من أحد إلا وهو راض عن الله سبحانه في كمال عقله وأشدهم حماقة وأضعفهم عقلا هو أفرحهم بكمال عقله.

الوظيفة الثامنة: أن يكون المعلم عاملاً بعلمه فلا يكذِّبُ قوله فعله، لأنّ العلم يُدركُ بالبصائر والعمل يدرك بالأبصار وأرباب الأبصار أكثر. فإذا خالف العملُ العلمَ منع الرشد، وكل من تناول شيئاً وقال للناس لا تتناولوه فإنه سم مهلك سخر الناس به واتهموه وزاد حرصهم على ما نُهوا عنه فيقولون: لولا أنه أطيب الأشياء وألذها لما كان يستأثرُ به.

وقال الله تعالى: { أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ } [البقرة: 44]، ولذلك كان وزر العالم في معاصيه أكثر من وزر الجاهل إذ يزل بزلته عالم كثير ويقتدون به.

الباب الثاني

أهم وسائل التزكية

الفصل الأول في الصلاة

الفصل الثاني في الزكاة والإِنفاق

الفصل الثالث في الصوم

الفصل الرابع في الحج

الفصل الخامس في تلاوة القرآن

الفصل السادس في الذكر

الفصل السابع في التفكّر

الفصل الثامن في ذكر الموت وقصر الأمل

الفصل التاسع في المراقبة والمحاسبة والمجاهدة والمعاتبة

الفصل العاشر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والأمر بمجاهدة النفس

الفصل الحادي عشر في الخدمة و التواضع

الفصل الثاني عشر في معرفة مداخل الشيطان على النفس وقطع الطرق عليها

الفصل الثالث عشر في معرفة أمراض القلوب وصحتها وكيفية الخلاص من المرض والتحقق بالصحة

الفصل الأول

في الصلاة

الصلاة هي الوسيلة العظمى في تزكية النفس، وهي في الوقت نفسه علم وميزان على تزكية النفس، فهي وسيلة وغاية بآن واحد، فهي تعميق لمعاني العبودية والتوحيد والشكر، وهي ذكر وقيام وركوع وسجود وقعود، فهي إقامة للعبادة في الهيئات الرئيسة لوضع الجسد، وإقامتها قطع لدابر الكبر والتمرد على الله واعتراف لله بالربوبية والتدبير فإقامتها على كمالها وتمامها قطع لدابر العجب والغرور بل قطع لدابر المنكر كلّه والفحشاء كلّها:

{ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ } [العنكبوت: 45].

وإنما تكون الصلاة كذلك إذا أقيمت بأركانها وسننها وتحقق صاحبها بأدب الظاهر والباطن، ومن آداب الظاهر أداؤها كاملة بالجوارح، ومن آداب الباطن الخشوع فيها، والخشوع هو الذي يجعل للصلاة الدور الأكبر في التطهير، والدور الأكبر في التحقق والتخلّق، وتزكية النفس تدور حول هذا، وإذ كانت أفعال الصلاة الظاهرة لا تغيب عن مسلم يعيش في البيئة الإِسلامية، فسنقتصر ههنا على ذكر آداب الباطن وهو الذي يسّمى بعلم الخشوع.

إذ كان الخشوع هو أول علامات المفلحين:

{ قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ } [المؤمنون: 1 -2].

وإذ كان أهل الخشوع هم أهل البشارة من الله:

{ وَبَشِّرْ الْمُخْبِتِينَ * الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِ الصَّلاةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ } [الحج: 34-35] .

* * *

إن الخشوع هو المظهر الأرقى لصحة القلب فإذا أخرج الخشوع من القلب فقد خرب هذا القلب، فما ذهب الخشوع إلا وقد غُلِبَ القلب بأمراض خطيرة وأحوال شريرة كحب الدنيا والتنافس عليها، ومتى غلب القلب بالأمراض فَقَدَ التطلع إلى الآخرة، ومتى وصل إلى ذلك فلا صلاح للمسلمين، فحب الدنيا يعقبه التنافس عليها، والتنافس عليها لا يقوم به أمر دنيا ودين.

* * *

إن فقدان الخشوع علامة على فقدان القلب حياته وحيويته فالموعظة فيه لا تؤثر، والأهواء فيه غلاّبة، تصوّرْ بعد ذلك كيف يكون الحال؟ عندما تتغلب الأهواء ولا ينفع وعظ ولا تذكير فعندئذ تتغلب الشهوات ويقوم سوق التنافس على الجاه والغلبة والسيطرة والمال والشهوات، وهذه إذا سيطرت لا يصلح معها دنيا أو دين.

بيان الدواء النافع في حضور القلب

اعلم أن المؤمن لا بد أن يكون معظماً لله عز وجل وخائفاً منه وراجياً له ومستحيياً من تقصيره فلا ينفك عن هذه الأحوال، وإن كانت قوتها قوّة يقينه فانفكاكه عنها في الصلاة لا سبب له إلا تفرّق الفكر وتقسيم الخاطر وغيبة القلب عن المناجاة والغفلة عن الصلاة. ولا يلهي عن الصلاة إلا الخواطرُ الواردة الشاغلة، فالدواء في إحضار القلب هو دفع تلك الخواطر ولا يُدفع الشيء إلا بدفع سببه فلتعلم سببه، وسبب موارد الخواطر إما أن يكون أمراً خارجاً أو أمراً في ذاته باطناً.

الفصل الثاني

في الزكاة والإِنفاق

تشكّل الزكوات والإنفاق في سبيل الله الوسيلة الثانية في الأهمية في باب تزكية النفس، لأن النفس مجبولة على الشح، وهو رذيلة يجب تطهير النفس منها، قال تعالى: { وَأُحْضِرَتْ الأَنفُسُ الشُّحَّ } [النساء: 128] والإِنفاق في سبيل الله هو الذي يطهّر النفس من الشح فتزكو بذلك النفس، قال تعالى:

{ وَسَيُجَنَّبُهَا الأَتْقَى * الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى } [الليل: 17 - 18].

وإنما تؤدي الزكوات والإنفاق دوراً في تزكية النفس إذا لوحظ فيها أدب الظاهر والباطن، [وها نحن أولاء نقتصر على ذكر ذلك من كلام الغزالي في الآداب الباطنة أما الآداب الظاهرة فتنظر في قسم الفقه.

أداء الزكاة وشروطه الباطنة والظاهرة

اعلم أنه ينبغي لمؤدي الزكاة أن يراعي أربع أمور:

( الأول) النية: وهو أن ينوي بقلبه زكاة الفرض ويسنّ له تعيين الأموال. فإن كان له مال غائب فقال هذا عن مالي الغائب إن كان سالما وإلا فهو نافلة جاز. وإذا وكل بأداء الزكاة ونوى عند التوكيل أو وكل الوكيل بالنية كفاه لأنّ توكيله بالنية نية.

( الثاني) المبادرة عقيب الحول وفي زكاة الفطر لا يؤخرها عن يوم الفطر. ويدخل وقت وجوبها بغروب الشمس من آخر يوم من شهر رمضان. ووقت تعجيلها شهر رمضان كله. وَمَنْ أَخَّر زكاة ماله مع التمكن عصى.

( الثالث) أن لا يخرج بدلاً باعتبار القيمة بل يخرج المنصوص عليه.

( الرابع) أن لا ينقل الصدقة إلى بلد آخر فإن أعين المساكين في كل بلدة تمتد إلى أموالها، وفي النقل تخييب للظنون. فإن فعل ذلك أجزأه في قول ولكن الخروج عن شبهة الخلاف أولى فليخرج زكاة كل مال في تلك البلدة. ثم لا بأس أن يصرف إلى الغرباء في تلك البلدة.

( الخامس) أن يقسم ماله بعدد الأصناف الموجودين في بلده.

وعليه يدل ظاهر قوله تعالى: { إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ } [التوبة: 60] الآية وقد عدم من الثمانية أربع أصناف في أكثر البلاد: وهم المؤلفة قلوبهم والغزاة والمكاتبون والعاملون على الزكاة. ويوجد في جميع البلاد أربعة أصناف: الفقراء والمساكين والغارمون والمسافرون - أعني أبناء السبيل.

بيان دقائق الآداب الباطنة في الزكاة

اعلم أن على مريد طريق الآخرة بزكاته وظائف:

الوظيفة الأولى : فهم وجوب الزكاة ومعناها ووجه الامتحان فيها وسبب جعلها من مباني الإسلام مع أنها تصرفٌ مالي وليست من عبادة الأبدان وفيه ثلاثة معان:

الأول : أن التلفظ بكلمتي الشهادة التزام للتوحيد وشهادة بإفراد المعبود وشرط تمام الوفاء به أن لا يبقى للموحد محبوب سوى الواحد الفرد فإن المحبة لا تقبل الشركة، والتوحيد باللسان قليل الجدوى وإنما يُمتحن درجة المحب بمفارقة المحبوب، والأموال محبوبة عند الخلائق لأنها آلة تمتعهم بالدنيا وبسببها يأنسون بهذا العالم وينفرون من الموت مع أن فيه لقاء المحبوب، فامتحنوا بتصديق دعواهم في المحبوب واستنزلوا عن المال الذي هو مرموقهم ومعشوقهم. ولذلك قال الله تعالى { إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنْ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمْ الْجَنَّةَ } وذلك بالجهاد وهو مسامحة بالمهجة شوقاً إلى لقاء الله عز وجل والمسامحة بالمال أهون. ولما فهم هذا المعنى في بذل الأموال انقسم الناس إلى ثلاثة أقسام.

قسم صدّقوا التوحيد ووفوا بعهدهم ونزلوا عن جميع أموالهم فلم يدّخروا ديناراً ولا درهماً فأبوا أن يتعرضوا لوجوب الزكاة عليهم حتى قيل لبعضهم: كم يجب من الزكاة في مائتي درهم؟ فقال: خمسة دراهم، وأما نحن فيجب علينا بذل الجميع.

الفصل الثالث

في الصوم

يأتي الصوم في الدرجة الثالثة من الأهمية في تزكية النفس، فمن الشهوات العاتية التي يمكن أن تحرف الإنسانَ شهوتا البطن والفرج، والصومُ تعويد النفس التحكم بهاتين الشهوتين، ولذلك كان عاملاً مهماً من عوامل تزكية النفس وإذا كان الصبر من أرقى مقامات النفس، فإن الصوم تعويد للنفس على الصبر ولذلك ورد في الحديث: (الصوم نصف الصبر) أخرجه الترمذي وابن ماجه وهو حديث حسن، وقد جعل الله الصوم وسيلة للتحقق بمقام التقوى، فقال تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } [البقرة: 183] والتقوى هي مطلب الله من العباد وهي تساوي تزكية النفس، قال تعالى: { وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا } [الشمس: 7 - 10] والصوم نافلة وفريضة، ولما كان الكلام في تزكية النفس فسنقتصر على آداب الصائم لأنه بذلك يؤدي الصوم دوره الأكبر في التزكية، وهاك كلام الغزالي في ذلك: قال رحمه الله:

أسرار الصوم وشروطه الباطنة

أعلم أن الصوم ثلاث درجات: صوم العموم، وصوم الخصوص، وصوم خصوص الخصوص. أما صوم العموم: فهو كَفُّ البطن والفرج عن قضاء الشهوة. وأما صوم الخصوص: فهو كف السمع والبصر واللسان واليد والرجل وسائر الجوارح عن الآثام. وأما صوم خصوص الخصوص، فصوم القلب عن الهمم الدنية والأفكار الدنيوية وكفه عما سوى الله عز وجل بالكلية، ويحصل الفطر المجازي في هذا الصوم بالفكر فيما سوى الله عز وجل واليوم الآخر وبالفكر في الدنيا إلا دنيا تُرادُ للدين، فإن ذلك من زاد الآخرة وليس من الدنيا. وهذه رتبة الأنبياء والصديقين والمقرّبين ولا نُطوّل النظر في تفصيلها قولاً ولكن في تحقيقها عملاً، فإنه إقبال بكنه الهمة على الله عز وجل وانصراف عن غير الله سبحانه وتلبس بمعنى قوله عز وجل: { قُلْ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ } [الأنعام: 91].

وأما صوم الخصوص: وهو صوم الصالحين فهو كف الجوارح عن الآثام وتمامه بستة أمور:

الأول: غض البصر وكفه عن الاتساع في النظر إلى كل ما يذم ويكره وإلى كل ما يشغل القلب ويلهي عن ذكر الله عز وجل قال صلى الله عليه وسلم: "النظرة سهم مسموم من سهام إبليس لعنه الله فمن تركها خوفاً من الله آتاه الله عز وجل إيماناً يجد حلاوته في قلبه" [أخرجه الحاكم وصحح إسناده].

الثاني: حفظ اللسان عن الهذيان والكذب والغيبة والنميمة والفحش والجفاء والخصومة والمراء، وإلزامه السكوت وشغله بذكر الله سبحانه وتلاوة القرآن فهذا صوم اللسان. وقد قال سفيان: الغيبة تفسد الصوم، رواه بشر بن الحارث عنه. وروى ليث عن مجاهد: خصلتان يفسدان الصيام الغيبة والكذب. وقال صلى الله عليه وسلم: "إنما الصوم جنة فإذا كان أحدكم صائماً فلا يرفثْ ولا يجهل وإِنِ امرؤٌ قاتله أو شاتمه فليقلْ إني صائم إني صائم". [متفق عليه].

الثالث: كف السمع عن الإِصغاء إلى كل مكروه لأن كل ما حرم قوله حرم الإِصغاء إليه ولذلك سوّى الله عز وجل بين المستمع وآكل السحت فقال تعالى: { سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ } [المائدة: 42] وقال عز وجل: { لَوْلا يَنْهَاهُمْ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمْ الإِثْمَ وَأَكْلِهِمْ السُّحْتَ } [المائدة: 63] فالسكوت على الغيبة حرام وقال تعالى: { إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ } [النساء: 140].

الرابع: كف بقية الجوارح عن الآثام من اليد والرجل عن المكاره، وكف البطن عن الشبهات عند الإِفطار. فلا معنى للصوم وهو الكف عن الطعام الحلال ثم الإفطار على الحرام، فمثال هذا الصائم مثال من يبني قصراً ويهدم مصراً فإن الطعام الحلال إنما يضر بكثرته لا بنوعه، فالصوم لتقليله. وتارك الاستكثار من الدواء خوفاً من ضرره إذا عدل إلى تناول السم كان سفيهاً. والحرام سم مهلك للدين. والحلال دواء ينفع قليله ويضر كثيره، وقصد الصوم تقليله. وقد قال صلى الله عليه وسلم: "كمْ من صائمٍ ليس له من صومه إلا الجوع والعطش". [أخرجه النسائي وابن ماجه] فقيل هو الذي يفطر على الحرام، وقيل هو الذي يمسك عن الطعام الحلال ويفطر على لحوم الناس بالغيبة وهو حرام، وقيل هو الذي لا يحفظ جوارحه عن الآثام.

الخامس: أن لا يستكثر من الطعام الحلال وقت الإِفطار بحيث يمتلئ جوفه فما من وعاء أبغض إلى الله عز وجل من بطن مُلئ من حلال. وكيف يستفاد من الصوم قهر عدّو الله وكسر الشهوة إِذا تدارك الصائم عند فطره ما فاته ضحوة نهاره وربما يزيد عليه في ألوان الطعام؟ حتى استمرت العادات بأن تدخر جميع الأطعمة لرمضان فيؤكل من الأطعمة فيه ما لا يؤكل في عدة أشهر. ومعلوم أن مقصود الصوم الخواء وكسر الهوى لتقوى النفس على التقوى.

السادس: أن يكون قلبه بعد الإِفطار معلقاً مضطرباً بين الخوف والرجاء إذ ليس يدري أَيقْبلُ صومه فهو من المقربين أو يرد فهو من الممقوتين؟ وليكن كذلك في آخر كل عبادة يفرغ منها، فقد روي عن الحسن بن أبي الحسن البصري أنه مرَّ بقوم وهم يضحكون فقال: إن الله عز وجل جعل شهر رمضان مضماراً لخلقه يستبقون فيه لطاعته فسبق قوم ففازوا وتخلف أقوام فخابوا فالعجب كل العجب للضاحك اللاعب في اليوم الذي فاز فيه السابقون وخاب فيه المبطلون.

قال أبو الدرداء: يا حبذا نوم الأكياس وفطرهم كيف لا يعيبون صوم الحمقى وسهرهم! ولذرة من ذوي يقين وتقوى أفضل وأرجح من أمثال الجبال عبادة من المغترين. ولذلك قال بعض العلماء كم من صائم مفطر وكم من مفطر صائم.

الفصل الرابع

في الحج

قال تعالى: { فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} [البقرة: 197] وقال تعالى: {وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ } [الحج: 32] فالحج تعويد للنفس على معان، من استسلام وتسليم، ومن بذل الجهد والمال في سبيل الله، ومن تعاون وتعارف، ومن القيام بشعائر العبودية، وكل ذلك له آثاره في تزكية النفس كما أنّه عَلمَ على التحقق بزكاة النفس.

ولكي يؤدي الحج ثمراته كاملة لا بدّ من مراعاة الآداب والأعمال القلبية فيه وهذا الذي ينصب عليه حديث هذا الكتاب، وهاك كلام الغزالي في ذلك: قال رحمه الله تحت عنوان (في الآداب الدقيقة والأعمال الباطنة للحج):

1 - بيان دقائق الآداب:

[ أ] أن تكون النفقة حلالاً وتكون اليد خالية من تجارة تشغل القلب وتفرّق الهمّ حتى يكون الهمّ مجرداً لله تعالى والقلب مطمئناً منصرفاً إلى ذكر الله تعالى وتعظيم شعائره.

[ ب] التوسع في الزاد وطيب النفس بالبذل والإِنفاق من غير تقتير ولا إسراف بل على اقتصاد. وأعني بالإِسراف التنعم بأطيب الأطعمة والترفّه بشرب أنواعها على عادة المترفين.

[ ج] ترك الرفث والفسوق الجدال كما نطق به القرآن. والرفث اسم جامع لكل لغو وخنى وفحش من الكلام ويدخل فيه مغازلة النساء ومداعبتهن والتحدّث بشأن الجماع ومقدّماته، فإن ذلك يهيّج داعية الجماع المحظور والداعي إلى المحظور محظور. والفسق اسم جامع لكل خروج عن طاعة الله عز وجل. والجدال هو المبالغة في الخصومة والمماراة بما يورث الضغائن ويفرق في الحال الهمة ويناقض حسن الخلق.

[ د] أن يحج ماشياً إن قدر عليه فذلك الأفضل، والتردد ماشياً من مكة إلى المواقف وإلى منى آكد منه في الطريق.

[ هـ] أن يكون رث الهيئة أشعث أغبر غير مستكثر من الزينة ولا مائل إلى أسباب التفاخر والتكاثر فيكتب في ديوان المتكبرين المترفهين ويخرج عن حزب الضعفاء والمساكين وخصوص الصالحين.

[ و] أن يتقرب بإراقة دم وإن لم يكن واجباً عليه ويجتهد أن يكون من سمين النعم ونفيسه، وليأكل منه إن كان تطوّعا ولا يأكل منه إن كان واجبا إلا بفتوى إمام.

[ ز] أن يكون طيب النفس بما أنفقه من نفقة وهدي وبما أصابه من خسران ومصيبة في مال أو بدن إن أصابه ذلك فإنّ ذلك من دلائل قبول حجّه.

[ 2 ] بيان الأعمال الباطنة ووجه الإِخلاص في النية وطريق الاعتبار بالمشاهد الشريفة وكيفية الافتكار فيها والتذكر لأسرارها ومعانيها من أول الحج إلى آخره.

اعلم أن أول الحج الفهم - أعني موقع الحج في الدين - ثم الشوق إليه ثم العزم عليه، ثم قطع العلائق المانعة منه، ثم شراء ثوب الإِحرام من الميقات بالتلبية، ثم دخول مكة، ثم استتمام الأفعال، وفي كل واحد من هذه الأمور تذكرة للمتذكر وعبرة للمعتبر وتنبيه للمريد الصادق وتعريف وإشارة للفَطِن. فلنرمز إلى مفاتحها حتى إذا انفتح بابها وعرفت أسبابها انكشف لكل حاجّ من أسرارها ما يقتضيه صفاء قلبه وطهارة باطنه وغزارة فهمه.

الفصل الخامس

في تلاوة القرآن

تلاوة القرآن مهذِّبةٌ للنفس من جوانب شتى، فهي تُعرَّف الانسان على المطلوب منه وتثير عنده المعاني المرادة من تزكية النفس، وتلاوة القرآن تنور القلب وتذكّره فهي تكمّل عمل الصلاة والزكاة والصوم والحج في التحقق بمقام العبودية لله عز وجل، وتلاوة القرآن تقتضي إحكاماً لأحكام التجويد والتزاماً يومياً بورد من القرآن.

وإنما يفعل القرآن فعله إذا رافقت تلاوته آداب الباطن في التأمل والخشوع والتدبر...

وإذ كانت هذه المعاني محل غفلة فإننا سننقل بعض كلام الغزالي فيها: قال رحمه الله: تحت عنوان:

أعمال الباطن في التلاوة وهي عشرة:

فهمُ أصلِ الكلام. ثم التعظيم. ثم حضور القلب. ثم التدبر. ثم التفهم. ثم التخلي عن موانع الفهم. ثم التخصيص. ثم التأثر. ثم الترقي. ثم التبري.

( فالأول) : فهم عظمة الكلام وعلّوه وفضل الله سبحانه وتعالى ولطفه بخلقه في نزوله عن عرش جلاله إلى درجة إفهام خلقه.

( الثاني) : التعظيم للمتكلم: فالقارئ عند البداية بتلاوة القرآن ينبغي أن يحضر في قلبه عظمة المتكلم ويعلم أن ما يقرؤه ليس من كلام البشر، وأنَّ في تلاوة كلام الله عز وجل غاية الخطر فإنه تعالى قال: { لا يَمَسُّهُ إِلا الْمُطَهَّرُونَ } [الواقعة: 79] وكما أن ظاهر جلد المصحف وورقه محروس عن ظاهر بشرة اللامس إلا إذا كان متطهراً، فباطن معناه أيضا بحكم عزه وجلاله محجوب عن باطن القلب إلا إذا كان متطهّراً عن كل رجس ومستنيراً بنور التعظيم والتوقير. وكما لا يصلح لِمَسِّ جلد المصحف كل يد فلا يصلح لتلاوة حروفه كل لسان ولا لنيل معانيه كل قلب.

( الثالث) حضور القلب وترك حديث النفس: قيل في تفسير: { يَا يَحْيَى خُذْ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ } [مريم: 12] أي بجد واجتهاد، وأخذه بالجد أن يكون متجرداً له عند قراءته منصرف الهمة إليه عن غيره، وقيل لبعضهم: إذا قرأت القرآن تحدّثُ نفسك بشيء؟ فقال: أو شيء أحب إليَّ من القرآن حتى أحدِّثَ به نفسي! وكان بعض السلف إذا قرأ آية لم يكن قلبه فيها أعادها ثانية وهذه الصفة تتولد عما قبلها من التعظيم فإن المعظم للكلام الذي يتلوه يستبشر به ويستأنس ولا يغفل عنه.

( الرابع) التدبر: وهو وراء حضور القلب فإنه قد لا يتفكر في غير القرآن ولكنه يقتصر على سماع القرآن من نفسه وهو لا يتدبره. والمقصود من القراءة التدبر. ولذلك سن الترتيل فيه، لأن الترتيل في الظاهر يساعد على التدبر بالباطن. قال علي رضي الله عنه: لا خيرَ في عبادة لا فقه فيها ولا في قراءة لا تدبر فيها. وإذا لم يتمكن من التدبر إلا بترديد فليردد إلا أن يكون خلف إمام.

( الخامس) التفهم: وهو أن يستوضح من كل آية ما يليق بها، إذ القرآن يشتمل على ذكر صفات الله عز وجل. وذكر أحوال الأنبياء عليهم السلام. وذكر أحوال المكذبين لهم وأنهم كيف أهلكوا. وذكر أوامره وزواجره، وذكر الجنة والنار.

( السادس) التخلي عن موانع الفهم فإن أكثر الناس منعوا عن فهم معاني القرآن لأسباب وحُجُبٍ أسدلها الشيطان على قلوبهم فعميت عليهم عجائب أسرار القرآن وحجب الفهم أربعة، أولها: أن يكون الفهم منصرفا إلى تحقيق الحروف بإخراجها، فهذا يكون تأمله مقصورا على مخارج الحروف فأنى تنكشف له المعاني؟ ثانيها: أن يكون مقلدا لمذهب سمعه بالتقليد وجمد عليه وثبت في نفسه التعصب له بمجرد الاتباع للمسموع من غير وصوله إليه ببصيرة ومشاهدة. فهذا شخص قيده معتقده عن أن يجاوزه فلا يمكنه أن يخطر بباله غير معتقده فصار نظره موقوفا على مسموعه.

( السابع) التخصيص وهو أَنْ يقدر انّه المقصود بكل خطاب في القرآن فإن سمع أمرا أو نهيا قدر أنه المنهي والمأمور وإنْ سمع وعداً أو وعيداً فكمثل ذلك، وإن سمع قصص الأولين والأنبياء علم أن السَمَرَ غير مقصود وإنما المقصود الاعتبار به، فما من قصةٍ في القرآن إلا وسياقها لفائدة في حق النبي صلى الله عليه وسلم وأمته. ولذلك قال تعالى: { مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ } [هود: 120] فليقدر العبد أن الله ثبت فؤاده بما يقصه عليه من أحوال الأنبياء وصبرهم على الإِيذاء وثباتهم في الدين نصرة لله تعالى.

( الثامن) التأثر وهو أن يتأثر قلبه بآثار مختلفة بحسب اختلاف الآيات فيكون له بحسب كل فهم حال ووجد يتصف به قلبه من الحزن والخوف والرجاء وغيره. ومهما تمت معرفته كانت الخشية أغلب الأحوال على قلبه فإن التضييق غالب على آيات القرآن فلا يرى ذكر المغفرة والرحمة إلا مقروناً بشروط يقصر العارف عن نيلها كقوله عز وجل: { وَإِنِّي لَغَفَّارٌ } [طه: 82] ثم أتبع ذلك بأربعة شروط: { لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى } [طه: 82] وقوله تعالى: { وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر: 1-3] ذكر أربعة شروط وحيث اقتصر ذكر شرطاً جامعاً فقال تعالى: {إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} [الأعراف: 56].

( التاسع) الترقي: وأعني به أن يترقى إلى أن يسمع الكلام من الله عز وجل لا من نفسه فدرجات القراءة ثلاث، أدناها: إن يقدر العبد كأنه يقرؤه على الله عز وجل واقفاً بين يديه وهو ناظر إليه ومستمع منه، فيكون حاله عند هذا التقدير السؤال والتملق والتضرع والابتهال. الثانية: أن يشهد بقلبه كأن الله عز وجل يراه ويخاطبه بألطافه ويناجيه بإنعامه وإحسانه فمقامه الحياء والتعظيم والإِصغاء والفهم. الثالثة: أن يرى في الكلام المتكلم وفي الكلمات الصفات فلا ينظر إلى نفسه ولا إلى قراءته ولا إلى تعلق الإِنعام به من حيث إنه منعم عليه بل يكون مقصورَ الهمّ على التكلم موقوف الفكر عليه كأنه مستغرق بمشاهدة المتكلم عن غيره. وهذه درجة المقربين وما قبله درجة أصحاب اليمين وما خرج عن هذا فهو درجات الغافلين.

( العاشر) التبري: وأعني به أن يتبرأ من حوله وقوته والالتفات إلى نفسه بعين الرضا والتزكية. فإذا تلا آيات الوعد والمدح للصالحين فلا يشهد نفسه عند ذلك بل يشهد الموقنين والصديقين فيها ويتشوّف إلى أن يُلْحِقَه الله عز وجل بهم، وإذا تلا آيات المقت وذم العصاة والمقصرين شهد على نفسه هناك وقدّر أنه المخاطب خوفاً وإشفاقاً. ولذلك كان ابن عمر رضي الله عنهما يقول: اللهم إني أستغفرك لظلمي وكفري، فقيل له: هذا الظلم فما بال الكفر؟ فتلا قوله عز وجل: { إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} [إبراهيم: 34].

الفصل السادس

في الذكر

قال الغزالي رحمه الله:

اعلم أن الناظرين بنور البصيرة علموا أنه لا نجاة إلا في لقاء الله تعالى وأنه لا سبيل إلى اللقاء إلا بأن يموت العبد محباً لله تعالى وعارفاً بالله سبحانه. وأن المحبة والأنس لا تحصل إلا من دوام ذكر المحبوب والمواظبة عليه. وأن المعرفة به لا تحصل إلا بدوام الفكر في مخلوقاته وفي صفاته وأفعاله. وليس في الوجود سوى الله تعالى وأفعاله. ولن يتيسر دوام الذكر والفكر إلا بوداع الدنيا وشهواتها والاجتزاء منها بقدر البلغة والضرورة وكل ذلك لا يتم إلا باستغراق أوقات الليل والنهار في وظائف الأذكار والأفكار. والنفس لما جُبلتْ عليه من السآمة والملال لا تصبر على فنٍ واحد من الأسباب المعينة على الذكر والفكر بل إذا رُدت إلى نمط واحد أظهرت الملال والاستثقال وأن الله تعالى لا يمل حتى تملوا. فمن ضرورة اللطف بها أن تروّح بالتنقل من فنّ إلى فن ومن نوع إلى نوع بحسب كل وقت لتغزر بالانتقال لذتها وتعظم باللذة رغبتها وتدوم بدوام الرغبة مواظبتها. فلذلك تقسم الأوراد قسمة مختلفة فالذكر والفكر ينبغي أن يستغرقا جميع الأوقات أو أكثرها فإن النفس بطبعها مائلة إلى ملاذ الدنيا. فإن صرف العبد شطر أوقاته إلى تدبيرات الدنيا وشهواتها المباحة مثلاً والشطر الآخر إلى العبادات رجح جانب الميل إلى الدنيا لموافقتها الطبع إذ يكون الوقت متساوياً، فأنى يتقاومان والطبع لأحدهما مرجّح إذ الظاهر والباطن يتساعدان على أمور الدنيا ويصفو في طلبها القلب ويتجرد.

الفصل السابع

في التفكّر

قال تعالى: { أَوَلَمْ يَنظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ } [الأعراف: 185].

وقال تعالى: { إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُولِي الأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} [آل عمران: 190 - 191] من النص الثاني ندرك أن كمال العقل لا يكون إلا باجتماع الذكر والفكر للإِنسان، فإذا ما عرفنا أنَّ كمال اللب هو كمال الإنسان أدركنا محل الذكر والفكر في تزكية النفس، ولذلك فقد حرص أهل السلوك إلى الله أن يجتمع للسالك في أول سيره ذكر مع فكر، كأنْ يتفكر في الأشياء وهو يسبّح الله أو يحمده أو يكبره أو يوحِّده، وقد عرض الغزالي في "إحيائه" صورة لكيفية التفكّر في خلق الله، فلو أن القارئ يحاول بعد أن يقرأ فقرة من فقرات هذا البحث أن يتأمّل ما ذكر مستصحباً مع الفكر التسبيح والتحميد والتكبير والتهليل فإنه سيرى آثار ذلك مباشرة على قلبه، فيدرك آثار التفكر على القلب والنفس.

إن الذكر والفكر يعمقان معرفة الله في القلب وهو البداية لكل زكاة فلذا عرض الغزالي لكيفية التفكر في خلق الله وأسهب فيها، قال رحمه الله:

بيان كيفية التفكر في خلق الله تعالى

اعلم أن كل ما في الوجود مما سوى الله تعالى فهو فعلُ الله وخلقهُ، وكل ذرة من الذرات من جوهر وعرض وصفة وموصوف فيها عجائب وغرائب تظهر بها حكمة الله وقدرته وجلاله وعظمته، وإحصاء ذلك غير ممكن لأنه لو كان البحر مداداً لذلك لنفد البحر قبل أن ينفد عشر عشيره.

وقد ورد القرآن بالحث على التفكر في هذه الآيات كما قال الله تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُولِي الأَلْبَابِ} [آل عمران: 190] وكما قال تعالى: {ومن آياته} من أول القرآن إلى آخره. فلنذكر كيفية التفكر في بعض الآيات.

( فَمِنْ آياته) الإِنسانُ المخلوق من النطفة - وأقربُ شيء إليك نَفْسُكَ - وفيكَ من العجائب الدالة على عظمة الله تعالى ما تنقضي الأعمار في الوقوف على عشر عشيره وأنت غافل عنه. فيا مَنْ هو غافلٌ عن نفسه وجاهلٌ بها كيف تطمع في معرفة غيرك؟ وقد أمرك الله تعالى بالتدبر في نفسك في كتابه العزيز فقال: {وفي أنفسكم أفلا تبصرون} وذكر أنك مخلوق من نطفة قذرة فقال: {قُتِلَ الإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ * مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ * مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ * ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ * ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ * ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ} [عبس: 17-22] وقال تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنتَشِرُونَ} [الروم: 20] وقال تعالى: {أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى * ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى} [القيامة: 37 - 38].

فتكرير ذكر النطفة في الكتاب العزيز ليس ليُسمعَ لفظه ويترك التفكر في معناه، فانظر الآن إلى النطفة - وهي قطرة من الماء قذرة لو تركت ساعة ليضربها الهواء فسدت وأنتنت - كيف أخرجها ربُّ الأرباب من الصُلْبِ والترائب وكيف جمع بين الذكر والأنثى وألقى الألفة والمحبة في قلوبهم، وكيف قادهم بسلسلة المحبة والشهوة إلى الاجتماع، وكيف استخرج النطفة من الرجل بحركة الوقاع، وكيف استجلب [البويضة] من أعماق العروق ثم كيف خلق المولود من النطفة وسقاه وغذاه حتى نما وربا وكبر، وكيف جعل النطفة وهي بيضاء مشرقة علقة حمراء، ثم كيف جعلها مضغة، ثم كيف قسم أجزاء النطفة وهي متساوية متشابهة إلى العظام، والأعصاب والعروق والأوتار واللحم؟ ثم كيف ركب الأعضاء الباطنة من القلب والمعدة والكبد والطحال والرئة والرحم والمثانة والأمعاء، كل واحد على شكل مخصوص ومقدار مخصوص لعمل مخصوص! ثم كيف قسّم كل عضو من هذه الأعضاء بأقسام آخر، فركّب العين من طبقات، لكل طبقة وصف مخصوص وهيئة مخصوصة لو فقدت طبقة منها أو زالت صفة من صفاتها تعطلت العين عن الإِبصار، فلو ذهبنا إلى أن نصف ما في آحاد هذه الأعضاء من العجائب والآيات لانقضى فيه الأعمار.

فانظر الآن إلى العظام وهي أجسام صلبة قوية كيف خلقها من نطفة سخيفة رقيقة، ثم جعلها قواماً للبدن وعماداً له، ثم قدرها بمقادير مختلفة وأشكال مختلفة فمنه صغير وكبير وطويل ومستدير ومجوف ومصمت وعريض ودقيق. ولما كان الإِنسان محتاجاً إلى الحركة بجملة بدنه وببعض أعضائه، مفتقراً للتردد في حاجاته، لم يجعل عظمه عظماً واحداً بل عظاماً كثيرة بينها مفاصل حتى تتيسر بها الحركة، وقدَّرَ شكل كل واحدةٍ منها على وفق الحركة المطلوبة بها، ثم وصل مفاصلها وربط بعضها ببعض بأوتار أَنْبَتَها من أحد طرفي العظم وألصقه بالعظم الآخر كالرباط له، ثم خلق في أحد طرفي العظم زوائد خارجة منه وفي الآخر حفراً غائصة فيه موافقة لشكل الزوائد لتدخل فيها وتنطبق عليها، فصار العبد إنْ أراد تحريك جزء من بدنه لم يمتنع عليه، ولولا المفاصل لتعذر عليه ذلك. ...

ثم انظر كيف خلق عظام الرأس وكيف جمعها وركبها، وقد ركّبها من خمسة وخمسين عظماً مختلفة الأشكال والصور فألف بعضها إلى بعض بحيث استوى به كرة الرأس.

ثم ركّب الرقبة على الظهر، وركب الظهر من أسفل الرقبة إلى منتهى عظم العجز من أربع وعشرين خرزة، وركّب عظم العجز من ثلاثة أجزاء مختلفة، فيتصل به من أسفله عظم العصعص، وهو أيضاً مؤلف من ثلاثة أجزاء.

ثم وصل عظام الظهر بعظام الصدر، وعظام الكتف وعظام اليدين، وعظام العانة، وعظام العجز، وعظام الفخدين، والساقين، وأصابع الرجلين.

وليس المقصود من ذكر أعداد العظام أن يُعرفَ عددها، فإن هذا علم قريب يعرفه الأطباء والمشرحون، إنما الغرض أن ينظر منها في مُدَبِّرها وخَالِقها أنه كيفَ قدَّرها ودبرها وخالف بين أشكالها وأقدارها، وخصصها بهذا العدد المخصوص لأنه لو زاد عليها واحداً لكان وبالاً على الإِنسان يحتاج إلى قلعه، ولو نقص منها واحداً لكان نقصاناً يحتاج إلى جبره، فالطبيب ينظر فيها ليعرف وجه العلاج في جبرها وأهل البصائر ينظرون فيها ليستدلوا بها على جلالة خالقها ومصورها، فشتان بين النظرين.

ثم انظر كيف خلق الله تعالى آلاتٍ لتحريك العظام وهي العضلات فخلق في بدن الإِنسان خمسمائة عضلة وتسعاً وعشرين عضلة - والعضلة مركبة من لحم وعصب ورباط وأغشية - وهي مختلفة المقادير والأشكال بحسب اختلاف مواضعها وقدر حاجاتها.

فارجع الآن إلى النطفة وتأمل حالها أولاً وما صارت إليه ثانياً، وتأمل أنه لو اجتمع الجن والإِنس على أن يخلقوا للنطفة سمعاً أو بصراً أو عقلاً أو قدرة أو علماً أو روحاً أو يخلقوا فيها عظماً أو عرقاً أو عصباً أو جلداً أو شعراً هل يقدرون على ذلك؟

وأنت ترى النطفة القذرة خلقها خالقها في الأصلاب والترائب، ثم أخرجها منها وشكّلها فأحسن تشكيلها وقدّرها فأحسن تقديرها وتصويرها. وقسّم أجزاءها المتشابهة إلى أجزاء مختلفة فأحكم العظام في أرجائها وحسن أشكال أعضائها وزيّن ظاهرها وباطنها ورتّب عروقها وأعصابها وجعلها مجرى لغذائها ليكون ذلك سبب بقائها، وجعلها سميعة بصيرة عالمة ناطقة وخلق لها الظهر أساساً لبدنها والبطن حاوياً لآلات غذائها والرأس جامعاً لحواسها، ففتح العين ورتّب طبقاتها وأحسن شكلها ولونها وهيئاتها، ثم حماها بالأجفان لتسترها وتحفظها وتصقلها وتدفع الأقذاء عنها، ثم أظهر في مقدار عدسة منها صورة السماوات مع اتساع أكنافها وتباعد أقطارها فهو ينظر إليها.

ثم شقّ أذنيه وأودعهما ماء مراّ ليحفظ سمعها ويدفع الهوام عنها وحوّطها بصدفة الأذن لتجمع الصوت فتردّه إلى صماخها ولتحسّ بدبيب الهوّام إليها، وجعل فيها تحريفات واعوجاجات لتكثر حركة ما يدب فيها ويطول طريقه فيتنبه من النوم صاحبها إذا قصده دابة في حال النوم. ثم رفع الأنف من وسط الوجه وأحسن شكله، وفتح منخريه وأودع فيه حاسة الشم ليستدل باستنشاق الروائح على مطاعمه وأغذيته، وليستنشق بمنفذ المنخرين روح الهواء غذاءً لقلبه وترويحاً لحرارة باطنه.

وفتح الفم وأودعه اللسان ناطقاً وترجماناً ومعرباً عما في القلب، وزين الفم بالأسنان لتكون آلة الطحن والكسر والقطع فأحكم أصولها وحدّد رؤوسها وبيّض لونها، ورتّب صفوفها متساوية الرؤوس متناسقة الترتيب كأنها الدر المنظوم، وخلق الشفتين وحسَّن لونها وشكلها لتنطبق على الفم فتسدّ منفذه وليتم بها حروف الكلام. وخلق الحنجرة وهيأها لخروج الصوت. وخلق للسان قدرة للحركات والتقطيعات ليقع الصوت في مخارج مختلفة تختلف بها الحروف ليتسع بها طريق النطق بكثرتها.

ثم خلق الحناجر مختلفة الأشكال في الضيق والسعة والخشونة والملاسة وصلابة الجوهر ورخاوته والطول والقصر، حتى اختلفت بسببها الأصوات، فلا يتشابه صوتان، بل يظهر بين كل صوتين فرق حتى يميز السامع بعض الناس عن بعض بمجرد الصوت في الظلمة. ثم زين الرأس بالشعر والأصداغ. وزين الوجه باللحية والحاجبين، وزين الحاجب برقة الشعر واستقواس الشكل. وزين العينين بالأهداب.

ثم خلق الأعضاء الباطنة وسخّر كل واحد لفعل مخصوص.

فسخر المعدة والكبد والطحال والمرارة والكلية، وجعل لكل وظائفه ثم خلق اليدين وطولهما لتمتدا إلى المقاصد، وعرَّض الكفّ، وقسم الأصابع الخمس، وقسم كل اصبع بثلاث أنامل، ووضع الأربعة في جانب والإِبهام في جانب لتدور الإِبهام على الجميع.

ثم أنظر مع كمال قدرته إلى تمام رحمته فإنه لما ضاق الرحم عن الصبي لما كبر كيف هداه السبيل حتى تنكس وتحرّك، وخرج من ذلك المضيق وطلب المنفذ كأنه عاقل بصير بما يحتاج إليه.

ثم لما خرج واحتاج إلى الغذاء كيف هداه إلى التقام الثدي؟ ثم لما كان بدنه سخيفاً لا يحتمل الأغذية الكثيفة كيف دبر له في خلق اللبن اللطيف واستخرجه من بين الفرث والدم سائغاً خالصاً، وكيف خلق الثديين وجمع فيهما اللبن، وأنبت منهما حلمتين على قدر ما ينطبق عليهما فم الصبي، ثم فتح في حلمة الثدي ثقباً ضيقاً جداً حتى لا يخرج اللبن منه إلا بعد المص تدريجاً، فإن الطفل لا يطيق منه إلا القليل، ثم كيف هداه للامتصاص حتى يستخرج من ذلك المضيق اللبن الكثير عند شدة الجوع؟

ثم انظر إلى عطفه ورحمته ورأفته كيف أخَّر خلقَ الأسنانِ إلى تمام الحولين لأنه في الحولين لا يتغذى إلا باللبن فيستغني عن السن.

ثم انظر كيف رزقه القدرة والتمييز والعقل والهداية تدريجاً حتى بلغ وتكامل، فصار مراهقاً ثم شاباً ثم كهلاً ثم شيخاً، إما كفوراً أو شكوراً مطيعاً أو عاصياً مؤمناً أو كافراً تصديقاً لقوله تعالى: {هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُوراً * إِنَّا خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيراً * إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً} [الإنسان: 1-3] فانظر إلى اللطف والكرم ثم إلى القدرة والحكمة تبهرك عجائب الحضرة الربانية.

والعجب كل العجب ممن يرى خطاً حسناً أو نقشاً حسناً على حائط فيستحسنه، فيصرف جميع همه إلى التفكر في النقاش والخطاط وأنه كيف نقشه وخطّه وكيف اقتدر عليه! ولا يزال يستعظمه في نفسه ويقول: ما أحذقه وما أكمل صنعته وأحسن قدرته! ثم ينظر إلى هذه العجائب في نفسه وفي غيره ثم يغفل عن صانعه ومصوره فلا تدهشه عظمته ولا يحيره جلاله وحكمته؟.

فهذه نبذة من عجائب بدنك التي لا يمكن استقصاؤها، فهو أقرب مجال لفكرك وأجلى شاهد على عظمة خالقك وأنت غافل عن ذلك، ولا تعرف من نفسك إلا أن تجوع فتأكل وتشبع فتنام، وتشتهي فتجامع، وتغضب فتقاتل. والبهائم كلها تشاركك في معرفة ذلك، وإنما خاصية الإِنسان معرفة الله تعالى بالنظر في ملكوت السماوات والأرض وعجائب الآفاق والأنفس، إذ بها يدخل العبد في زمرة الملائكة المقربين ويحشر في زمرة النبيين والصدّيقين مقرَّباً من حضرة رب العالمين.

الفصل الثامن

في ذكر الموت وقصر الأمل

إن مما يبطر النفس ويدفعها إلى الصراعات المشؤومة والشهوات المذمومة طول أملها، ونسيانها للموت، ولذلك كان مما تعالج به النفس تذكر الموت الذي هو أثر القهر الإِلهي، وقصر الأمل الذي هو أثر عن تذكر الموت، وبقدر ما يقصر الأمل ويتذكر الإِنسان الموت يكون عكوفه على القيام بحقوق الله أكثر، ويكون الإِخلاص في عمله أتم، ولا يظنن ظان أن قصر الأمل يحول دون إعمار الدنيا، فالأمر ليس كذلك بل عمارة الدنيا مع قصر الأمل تكون أقرب إلى العبادة، إن لم تكن عبادة خالصة، ففارق بين مَنْ يعمل بالسياسة قياماً بحق الله، وبين من يعمل فيها من أجل شهوة نفسه.

إن قصر الأمل وتذكر الموت ينقلان الإِنسان من الطور الثاني إلى الطور الأول، ومن ههنا وغيره يأخذ تذكر الموت وقصر الأمل أهميتها كوسيلتين من وسائل تزكية النفس، وهاك بعض كلام الغزالي في هذا وذاك.

قال الإمام الغزالي رحمه الله:

ذكر الموت

أما بعد، فجدير بمن الموت مصرعه، والتراب مضجعه، والدود أنيسه، ومنكر ونكير جليسه، والقبر مقره وبطن الأرض مستقره، والقيامة موعده، والجنة أو النار مورده، أن لا يكون له فكر إلا في الموت ولا ذكر إلا له، ولا استعداد إلا لأجله، ولا تدبير إلا فيه، ولا تطلع إلا إليه، ولا تعريج إلا عليه، ولا اهتمام إلا به، ولا حول إلا له، ولا انتظار وتربص إلا له، وحقيق بأن يعد نفسه من الموتى ويراها في أصحاب القبور، فإن كل ما هو آت قريب والبعيد ما ليس بآت، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الكَيِّسُ من دانَ نفسه وعمل لما بعد الموت" [أخرجه الترمذي وحسنه] ولن يتيسر الاستعداد للشيء إلا عند تجدد ذكره على القلب، ولا يتجدد ذكره إلا عند التذاكر بالإِصغاء إلى المذكرات له والنظر في المنبهات عليه، ليكون ذلك مُستحثاً على الاستعداد فقد قرب لما بعد الموت الرحيل فما بقي من العمر إلا القليل والخلق عنه غافلون {اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ} [الأنبياء: 1].

في ذكر الموت والترغيب في الإِكثار من ذكره

اعلم أن المنهمك في الدنيا المكِّبَ على غرورها المحبَّ لشهواتها يغفل قلبه لا محالة عن ذكر الموت فلا يذكره وإذا ذكِّر به كرهه ونفر منه، أولئك هم الذين قال الله فيهم: {قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [الجمعة: 8] ثم الناس: إما منهمكٌ، وإما تائب مبتدئ، أو عارف منته. أما المنهمك: فلا يذكر الموت، وإنْ ذكره فيذكره للتأسف على دنياه ويشتغل بمذمته، وهذا يزيده ذكر الموت من الله بُعداً. وأما التائب: فإنه يكثر من ذكر الموت لينبعث به من قلبه الخوف والخشية فيفي بتمام التوبة وربما يكره الموت خيفة من أن يختطفه قبل تمام التوبة وقبل إصلاح الزاد، وهو معذور في كراهة الموت ولا يدخل هذا تحت قوله صلى الله عليه وسلم: "من كره لقاء الله كره الله لقاءه". [متفق عليه] فإن هذا ليس يكره الموت ولقاء الله وإنما يخاف فوت لقاء الله لقصوره وتقصيره، وهو كالذي يتأخر عن لقاء الحبيب مشتغلاً بالاستعداد للقائه على وجهٍ يرضاه فلا يعد كارهاً للقائه. وعلامة هذا أن يكون دائم الاستعداد له لا شغل له سواه وإلا التحق بالمنهمك في الدنيا، وأما العارف: فإنه يذكر الموت دائماً لأنه موعدُ لقائه لحبيبه، والمحب لا ينسى قط موعد لقاء الحبيب، وهذا في غالب الأمر يستبطئ مجيء الموت ويحب مجيئه ليتخلص من دار العاصين وينتقل إلى جوار رب العالمين.

قصر الأمل

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن عمر: "إذا أصبحت فلا تحدِّث نفسك بالمساء وإذا أمسيتَ فلا تحدث نفسك بالصباح، وخُذْ من حياتك لموتك، ومن صحتك لسقمك، فإنك يا عبد الله لا تدري ما اسمك غداً". [أخرجه ابن حبان ورواه البخاري من قول ابن عمر في آخر حديث "كن في الدنيا كأنك غريب".

وروي أنه صلى الله عليه وسلم أخذ ثلاثة أعواد فغرز عوداً بين يديه، والآخر إلى جنبه، وأما الثالث فأبعده، فقال: (هل تدرون ما هذا؟)، قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: (هذا الإِنسان وهذا الأَجل وذاك الأمل يتعاطاه ابن آدم ويختلجه الأجل دون الأمل) وقال عليه الصلاة والسلام: (مثل ابن آدم وإلى جنبه تسع وتسعون منيةً إنْ أخطأته المنايا وقع في الهرم) قال ابن مسعود: هذا المرء وهذه الحتوف حوله شوارع إليه، والهرم وراء الحتوف، والأمل وراء الهرم، فهو يؤمل وهذه الحتوف شوارع إليه فأيها أمر به أخذه فإن أخطأته الحتوف قتله الهرم وهو ينتظر الأجل.

قال عبد الله: خط لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم خطاً مربعاً، وخط وسطه خطاً، وخط خطوطاً إلى جنب الخط، وخط خطاً خارجاً وقال: "أتدرون ما هذا؟" قلنا الله ورسوله أعلم، قال: "هذا الإِنسان - للخط الذي في الوسط - وهذا الأجل محيط به، وهذه الأعراض - للخطوط التي حوله - تنهشه إن أخطأه هذا نهشه هذا، وذاك الأمل" [أخرجه البخاري] - يعني الخط الخارجي.

وقال أنس: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يهرم ابن آدم ويبقى معه اثنان الحرص والأمل". [أخرجه مسلم].

بيان السبب في طول الأمل وعلاجه

اعلم أن طول الأمل له سببان، أحدهما: الجهل، والآخر: حب الدنيا.

أما حب الدنيا: فهو أنه إذا أَنِسَ بها وبشهواتها ولذاتها وعلائقها ثَقُلَ على قلبه مفارقتها، فامتنع قلبه من الفكر في الموت الذي هو سبب مفارقتها، وكل من كره شيئاً دفعه عن نفسه.

وأما الجهل: فهو أن الإِنسان قد يعوّل على شبابه فيستبعد قرب الموت مع الشباب، وليس يتفكر المسكين أن مشايخ بلده لو عُدُّوا لكانوا أقل من عُشْرِ رجال البلد، وإنما قلوا لأن الموت في الشباب أكثر فإلى أن يموت شيخ يموت ألف صبي وشاب. وقد يستبعد الموت لصحته ويستبعد الموت فجأة، ولا يدري أنّ ذلك غير بعيد، وإن كان ذلك بعيداً فالمرض فجأة غير بعيد، كل مرض فإنما يقع فجأة، وإذا مرض لم يكن الموت بعيداً.

وإذا عرفت أن سببه الجهل وحب الدنيا فعلاجه دفع سببه.

( أما الجهل) فيدفع بالفكر الصافي من القلب الحاضر وبسماع الحكمة البالغة من القلوب الطاهرة.

( وأما حب الدنيا) فالعلاج في إخراجه من القلب شديد، وهو الداء العضال الذي أعيا الأولين والآخرين علاجه، ولا علاج له إلا الإِيمان باليوم الآخر وبما فيه من عظيم العقاب وجزيل الثواب، ومهما حصل له اليقين بذلك ارتحل عن قلبه حب الدنيا، فإن حب الخطير هو الذي يمحو عن القلب حب الحقير، فإذا رأى حقارة الدنيا ونفاسة الآخرة استنكف أن يلتفت إلى الدنيا كلها وإن أعطي ملك الأرض من المشرق إلى المغرب، كيف وليس عنده من الدنيا إلا قدر يسير مكدّر منغّص، فكيف يفرح بها أو يترسّخ في قلب حبها مع الإِيمان بالآخرة؟ ولا علاج في تقرير الموت في القلب مثل النظر إلى من مات من الأقران والأشكال وأنهم كيف جاءهم الموت في وقت لم يحتسبوا. أما من كان مستعداً فقد فاز فوزاً عظيماً، وأما من كان مغروراً بطول الأمل فقد خسر خسراناً مبيناً.

الفصل التاسع

في المراقبة والمحاسبة والمجاهدة والمعاتبة

إن النفس والقلب يحتاجان إلى تعاهد يومي، بل إلى تعاهد بين الآن والآن، وما لم يتعاهد الإنسان نفسه يومياً أو آنياً يجدها قد شردت كثيراً، كما يجد القلب قد قسا وغفل، ومن ههنا اعتمد أهل السير إلى الله المشارطة والمراقبة والمحاسبة والمجاهدة والمعاتبة، وسائل من وسائلِ تزكية النفس، وها نحن ننقل لك بعضاً من كلام الغزالي في هذا الموضوع.

قال رحمه الله:

المراقبة والمحاسبة

قال الله تعالى: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} [الأنبياء: 47]، وقال تعالى: {وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} [الكهف: 49] وقال تعالى {يَوْمَ يَبْعَثُهُمْ اللَّهُ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [المجادلة: 6] وقال تعالى: {يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ * فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه} [الزلزلة: 6 -8] وقال تعالى: {ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} [البقرة: 281] وقال تعالى: {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمْ اللَّهُ نَفْسَهُ} [آل عمران: 30] { وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ} [البقرة: 235] فعرف أربابُ البصائر من جملة العباد أن الله تعالى لهم بالمرصاد، وأنهم سيناقشون في الحساب ويُطالبون بمثاقيل الذر من الخطرات واللحظات، وتحققوا أنه لا ينجيهم من هذه الأخطار إلا لزوم المحاسبة وصدق المراقبة ومطالبة النفس في الأنفاس والحركات ومحاسبتها في الخطرات واللحظات، فمن حاسب نفسه قبل أن يحاسب خفَّ في القيامة حسابه وحضر عند السؤال جوابه وحَسُنَ منقلبه ومآبه، ومَنْ لم يحاسب نفسه دامت حسراته وطالت في عرصات القيامة وقفاته وقادته إلى الخزي والمقت سيئاته، فلما انكشف لهم ذلك علموا أنه لا ينجيهم منه إلا طاعة الله وقد أمرهم بالصبر والمرابطة فقال عز من قائل: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا } [آل عمران: 200] فرابطوا أنفسهم أولا بالمشارطة، ثم بالمراقبة، ثم بالمحاسبة، ثم بالمعاقبة، ثم بالمجاهدة، ثم بالمعاتبة. فكانت لهم في المرابطة ست مقامات.

بيان حقيقة المحاسبة بعد العمل

اعلم أن العبد كما يكون له وقت في أول النهار يشارط فيه نفسه على سبيل التوصية بالحق فينبغي أن يكون له في آخر النهار ساعة يطالب فيها النفس ويحاسبها على جميع حركاتها وسكناتها، كما يفعل التجار في الدنيا مع الشركاء في آخر كل سنة أو شهر أو يوم حرصاً منهم على الدنيا، وخوفاً من أن يفوتهم منها ما لو فاتهم لكانت الخسارة لهم في فواته! ولو حصل ذلك لهم فلا يبقى إلا أياماً قلائل، فكيف لا يحاسب العاقل نفسه.

المجاهدة

وهو أنه إذا حاسب نفسه فرآها قد قارفت معصية فينبغي أن يعاقبها بالعقوبات التي مضت، وإن رآها تتوانى بحكم الكسل في شيء من الفضائل أو ورد من الأوراد فينبغي أن يؤدبها بتثقيل الأوراد عليها ويلزمها فنوناً من الوظائف جبراً لما فات منه وتداركاً لما فرط، فهكذا كان يعمل عمال الله تعالى، فقد عاقب عمر بن الخطاب نفسه حين فاتته صلاة العصر في جماعة بأن تصدق بأرض كانت له قيمتها مائتا ألف درهم، وكان ابن عمر إذا فاتته صلاة في جماعة أحيا تلك الليلة، وأخر ليلة صلاة المغرب حتى طلع كوكبان فأعتق رقبتين، كل ذلك مرابطة للنفس ومؤاخذة لها بما فيه نجاتها.

فإن قلت: إن كانت نفسي لا تطاوعني على المجاهدة والمواظبة على الأوراد فما سبيل معالجتها؟ فأقول: سبيلك في ذلك أن تسمعها ما ورد في الأخبار من فضل المجتهدين (1) . ومن أنفع أسباب العلاج أن تطلب صحبة عبدٍ من عباد الله يجتهد في العبادة فتلاحظ أقواله وتقتدي به، وكان بعضهم يقول: كنت إذا اعترتني فترة في العبادة نظرت إلى أحوال محمد بن واسع وإلى اجتهاده فعملت على ذلك أسبوعاً.

وقال أبو الدرداء: لولا ثلاث ما أحببت العيش يوماً واحداً: الظمأ لله بالهواجر، والسجود لله في جوف الليل، ومجالسة أقوام ينتقون أطايب الكلام كما يُنتقى أطايب التمر. وكانت ابنة الربيع بن خيثم تقول له: يا أبت ما لي أرى الناس ينامون وأنت لا تنام؟ فيقول يا ابنتاه إن أباك يخاف البيات. ولما رأت أم الربيع ما يلقى الربيع من البكاء والسهر نادته يا بني لعلك قتلت قتيلاً! قال نعم يا أماه قالت: فمن هو حتى نطلب أهله فيعفو عنك؟ فوالله لو يعلمون ما أنت فيه لرحموك وعفوا عنك، فيقول يا أماه هي نفسي.

توبيخ النفس ومعاتبتها

اعلم أن أعدى عدوك نفسك التي بين جنبيك، وقد خُلِقتْ أمّاره بالسوء ميالة إلى الشر فرارة من الخير، وأمرْتَ بتزكيتها وتقويمها وقَوْدِها بسلاسل القهر إلى عبادة ربها وخالقها، ومنعها عن شهواتها وفطامها عن لذاتها، فإن أهملتها جمحت وشردت ولم تظفر بها بعد ذلك، وإن لازمتها بالتوبيخ والمعاتبة والعذل والملامة كانت نفسك هي النفس اللوامة التي أقسم الله بها ورجوت أن تصير النفس المطمئنة المدعوة إلى أن تدخل في زمرة عباد الله راضية مرضية، فلا تغفلن ساعة عن تذكيرها ومعاتبتها ولا تشتغلن بوعظ غيرك ما لم تشتغل أولاً بوعظ نفسك.

_________________

(1) الاخبار الواردة في حق المجتهدين أخرجها أبو داود والنسائي وابن ماجه من حديث أبي هريرة بإسناد صحيح "رحم الله رجلاً قام من الليل فصلى وأيقظ امرأته".

قال تعالى: {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} [الذاريات: 55] وسبيلك أن تقبل عليها فتقرر عندها جهلها وغباوتها وأنها أبداً تغترّ بفطنتها وهدايتها، ويشتدّ أنفها واستنكافها إذا نسبت إلى الحمق فتقول لها: يا نفس ما أعظم جهلك تَدَّعينَ الحكمة والذكاء والفطنة وأنت أشدّ الناس غباوة وحمقاً! أما تعرفين ما بين يديك من الجنة والنار وأنك صائرة إلى إحداهما على القرب؟ فما لك تفرحين وتضحكين وتشتغلين باللهو وأنت مطلوبة لهذا الخطب الجسيم وعساك اليوم تختطفين أو غداً، فأراك تَرَيْنَ الموتَ بعيداً ويراه الله قريباً؟ أما تعلمين أنَّ كل ما هو آتٍ قريبٌ وأن البعيد ما ليس بآت؟ أما تعلمين أن الموت يأتي بغتة من غير تقديم رسول ومن غير مواعدة ومواطأة وأنه لا يأتي في شيء دون شيء، ولا في شتاء دون صيف، ولا في نهار دون ليل ولا في ليل دون نهار، ولا يأتي في الصبا دون الشباب، ولا في الشباب دون الصبا، بل كل نَفْسٍ من الأنفاس يمكن أن يكون فيه الموت فجأة فإن لم يَكن الموتُ فجأة فيكون المرض فجأة ثم يفضي إلى الموت. فما لك لا تستعدين للموت وهو أقرب إليك من كل قريب؟ أما تتدبرين، قوله تعالى: {اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ * مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ * لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ} [الأنبياء: 1-3] ويْحَكِ يا نفسُ ما أعجبَ نفاقك ودواعيك الباطلة فإنك تدَّعين الإِيمان بلسانك وأثر النفاق ظاهر عليك ألم يقل لكِ سيدكِ ومولاك: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} [هود: 6] وقال في أمر الآخرة: {وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلا مَا سَعَى} [النجم: 39] فقد تكفل لك بأمر الدنيا خاصة وصرفك عن السعي فيها فكذبته بأفعالك وأصبحتِ تتكالبين على طلبها تكالبَ المدهوشِ المستهتر، ووُكِل أمرُ الآخرة إلى سعيكِ فأعرضت عنها إعراض المغرور المستحقر! ما هذا من علامات الإِيمان؟ لو كان الإِيمان باللسان فَلِمَ كان المنافقون في الدرك الأسفل من النار؟

الفصل العاشر

الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

و الأمر بمجاهدة النفس

لاحظ الصلة بين قوله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا} [الشمس: 9].

وبين قوله تعالى: { وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ } [آل عمران: 104].

{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } [المائدة: 35] فالفلاح في الآيتين الأخيرتين تعلَّقَ بالدعوة إلى الخير وبالأمر بالمعروف وبالنهي عن المنكر وبالتقوى والعمل الصالح وبالجهاد مما يدّل على أن الفلاح المتعلّق بتزكية النفس يدخل فيه هذا كله.

إن الدعوة إلى الخير والمعروف تؤكدهما في النفس وذلك يزكيها، والنهي عن المنكر يقبّحه في النفس وذلك يزكيها، والجهاد تحرير للنفس من حب الحياة ومن حب الدنيا وبيع للنفس من ربها، وذلك أرقى ما تصل إليه النفس المزكاة، لذلك كانت الدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد من وسائل تزكية النفس.

إن تنظيم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعوة إلى الخير من واجبات العصر، وإن إطلاق الطاقات المسلمة في طرق الجهاد من واجبات العصر.

وهذان لا يتمان إلا إذا أصبحت هذه المعاني خلقاً للنفس.

وبدون أن تكون هذه المعاني خلقاً للنفس يكون بين النفس والزكاة بون شاسع.

الفصل الحادي عشر

في الخدمة والتواضع

الخدمة والتواضع وسيلتان من وسائل تزكية النفس وهما علامتان على أن النفس مزكاة، لذلك نَدَبنا الله ورسوله صلى الله عليه وسلم إليهما: "ومن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته" [متفق عليه].

وقال تعالى: {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ} [الحجر: 88].

والخدمة نوعان: خدمة خاصة وخدمة عامة، وكلاهما له أثره في تزكية النفس، فالخدمة العامة تقتضي صبراً وسعة صدرٍ واستعداداً للتلبية في كل حين، والخدمة الخاصة تقتضي تواضعاً وذلة للمؤمنين وعلى المؤمنين، ولذلك كانت الخدمة من أعظم وسائل التزكية لمن أداها بإخلاص وصبر عليها، وإذا كانت الخدمة مبناها على التواضع، والتواضع نفسه من وسائل تزكية النفس لما فيه من إبعادها عن الكبر والعُجْب فقد اخترنا أن ننقل بعض كلام الغزالي فيه.

قال رحمه الله:

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما زاد الله عبداً بعفو إلا عزاً، وما تواضع أحد لله إلا رفعه الله". [رواه مسلم].

وقال الفضيل: وقد سئل عن التواضع ما هو؟ فقال: أن تخضع للحق وتنقاد له ولو سمعته من صبي قبلته، ولو سمعته من أجهل الناس قبلته.

وقيل لعبد الملك بن مروان: أي الرجال أفضل؟ قال: من تواضع عن قدرة، وزهد عن رغبة وترك النصرة عن قوة.

وقال زياد النمري: الزاهد بغير تواضع كالشجرة التي لا تثمر. وقال مالك بن دينار: لو أن منادياً ينادي بباب المسجد ليخرج شركم رجلاً والله ما كان أحدٌ يسبقني إلى الباب إلا رجلاً بفضل قوة أو سعي قال، فلما بلغ ابن المبارك قوله قال: بهذا صار مالك مالكاً. وقال الفضيل: من أحب الرياسة لم يفلح أبداً.

وقال أبو يزيد: ما دام العبد يظن أن في الخلق من هو شر منه فهو متكبر، فقيل له: فمتى يكون متواضعاً؟ قال: إذا لم ير لنفسه مقاماً ولا حالاً.

وعن عمر بن شيبة قال: كنت بمكة بين الصفا والمروة فرأيت رجلاً راكباً بغلة وبين يديه غلمان وإذا هم يعنفون الناس، قال: ثم عدت بعد حين فدخلت بغداد فكنت على الجسر، فإذا أنا برجل حافٍ طويل الشعر قال: فجعلتُ أنظر إليه وأتأمله فقال لي: ما لك تنظر إليَّ ؟ فقلت له: شبهتك برجل رأيته بمكة، ووصفت له الصفة، فقال له: أنا ذلك الرجل، فقلت: ما فعل الله بك؟ فقال إني ترفعت في موضع يتواضع فيه الناس فوضعني الله حيث يترفع الناس. وقال المغيرة كنا نهاب إبراهيم النخعي هيبة الأمير وكان يقول إن زماناً صرت فيه فقيه الكوفة لزمان سوء.

وقال أبو بكر الصديق رضي الله عنه وجدنا الكرم في التقوى، والغنى في اليقين، والشرف في التواضع. نسأل الله الكريم حسن التوفيق.

الفصل الثاني عشر

في معرفة مداخل الشيطان على النفس

وقطع الطرق عليها

إن للشيطان دخلاً في التأثير على النفوس - إلاّ من عصمه الله تعالى - والشيطان يأتي النفوس من خلال غرائزها وشهواتها الحسية والمعنوية وهو خبير بنقاط الضعف لدى الإِنسان، لذلك كان من وسائل تحصين النفس، وبالتالي من وسائل تزكية النفس، معرفة مداخل الشيطان على الإِنسان، ولذلك جعلنا هذا الفصل ههنا، قال الغزالي رحمه الله:

بيان تفصيل مداخل الشيطان إلى القلب

اعلم أنّ مثال القلب مثال حصن والشيطان عدوّ يريد أن يدخل الحصن فيملكه ويستولي عليه، ولا يقدر على حفظ الحصن من العدوّ إلا بحراسة الحصن ومداخله ومواضع ثُلَمِهِ، ولا يقدر على حراسة أبوابه من لا يدري أبوابه فحماية القلب عن وسواس الشيطان واجبة وهو فرض عين على كل عبد مكلف، وما لا يُتَوصلُ إلى الواجب إلا به فهو أيضاً واجب، ولا يُتَوصَّلُ إلى دفع الشيطان إلا بمعرفة مداخله فصارتْ معرفة مداخله واجبة. ومداخل الشيطان وأبوابه صفات العبد وهي كثيرة، ولكنا نشير إلى الأبواب العظيمة الجارية مجرى الدروب التي لا تضيق عن كثرة جنود الشيطان.

فمن أبوابه العظيمة: الغضب والشهوة، فإنّ الغضب هو غول العقل، وإذا ضعف جند العقل هجم جند الشيطان ومهما غضب الإِنسان لعب الشيطان به كما يلعب الصبي بالكرة.

ومن أبوابه العظيمة الحسد والحرص فمهما كان العبد حريصاً على كل شيء أعماه حرصه وأصمه إذ قال صلى الله عليه وسلم "حبك لشيء يُعمي ويصم" [أخرجه الترمذي] ونور البصيرة هو الذي يعرف مداخل الشيطان فإذا غطّاه الحسد والحرص لم يبصر فحينئذ يجد الشيطان فرصة فيحسّن عند الحريص كل ما يوصله إلى شهوته وإن كان منكراً وفاحشاً.

ومن أبوابه العظيمة: الشبع من الطعام وإن كان حلالاً صافياً، فإنّ الشبع يقوّي الشهوات والشهوات أسلحة الشيطان.

ومن أبوابه: حب التزين من الأثاث والثياب والدار، فإن الشيطان إذا رأى ذلك غالباً على قلب الإِنسان باض فيه وفرخ، فلا يزال يدعوه إلى عمارة الدار وتزيين سقوفها وحيطانها وتوسيع أبنيتها ويدعوه إلى التزين بالثياب والدواب ويستسخره فيها طول عمره، وإذا أوقعه في ذلك فقد استغنى أن يعود إليه ثانية.

ومن أبوابه العظيمة: الطمع في الناس: لأنه إذا غلب الطمع على القلب لم يزل الشيطان يحبب إليه التصنع والتزين لمن طمع فيه بأنواع الرياء والتلبيس حتى يعود المطموع فيه كأنه معبوده فلا يزال يتفكر في حيلة للتودد والتحبب إليه ويدخل كل مدخل للوصول إلى ذلك. وأقل أحواله الثناء عليه بما ليس فيه والمداهنة له بترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

ومن أبوابه العظيمة: العجلة وترك التثبت في الأمور، قال صلى الله عليه وسلم: "العجلة من الشيطان والتأني من الله تعالى". [أخرجه الترمذي] وقال عز وجل: {خُلِقَ الإِنسَانُ مِنْ عَجَلٍ} [الأنبياء: 37] وقال تعالى: { وَكَانَ الإِنسَانُ عَجُولا } [الإسراء: 11] وقال لنبيه صلى الله عليه وسلم { وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ } [طه: 114] وهذا لأن الأعمال ينبغي أن تكون بعد التبصرة والمعرفة، والتبصرة تحتاج إلى تأمل وتمهل، والعجلة تمنع من ذلك، وعند الاستعجال يروّج الشيطان شره على الإِنسان من حيث لا يدري.

ومن أبوابه العظيمة: الدراهم والدنانير وسائر أصناف الأموال من العروض والدواب والعقار، فإن كل ما يزيد على قدر القوت والحاجة فهو مستقر الشيطان، فإن من معه قوته فهو فارغ القلب.

ومن أبوابه العظيمة: البخل وخوف الفقر، فإن ذلك هو الذي يمنع الإِنفاق والتصدق ويدعو إلى الادخار والكنز والعذاب الأليم وهو الموعود للمكاثرين كما نطق به القرآن العزيز.

ومن أبوابه العظيمة: التعصب للمذاهب والأهواء والحقد على الخصوم والنظر إليهم بعين الازدراء والاستحقار، وذلك مما يهلك العبّاد والفسّاق جميعاً فإن الطعن في الناس والاشتغال بذكر نقصهم صفة مجبولة في الطبع من الصفات السبعية، فإذا خيل إليه الشيطان أن ذلك هو الحق وكان موافقاً لطبعه غلبت حلاوته على قلبه فاشتغل به بكل همته، وهو بذلك فرحان مسرور يظن أنه يسعى في الدين وهو ساع في اتباع الشياطين.

ومن أبوابه حمل العوام الذين لم يمارسوا العلم ولم يتبحروا فيه على التفكر في ذات الله تعالى وصفاته وفي أمور لا يبلغها حدّ عقولهم حتى يشككهم في أصل الدين، أو يخيل إليهم في الله تعالى خيالات يتعالى الله عنها يصيرُ أحدهم بها كافراً أو مبتدعاً وهو به فرح مسرور مبتهج بما وقع في صدره، يظن ذلك هو المعرفة والبصيرة وأنه انكشف له ذلك بذكائه وزيادة عقله فأشدّ الناس حماقةً أقواهم اعتقاداً في عقل نفسه، وأثبت الناس عقلاً أشدهم اتهاماً لنفسه وأكثرهم سؤالاً من العلماء. قالت عائشة رضي الله عنها: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الشيطان يأتي أحدكم فيقول من خلقك؟ فيقول: الله تبارك وتعالى فيقول: من خلق الله؟ فإذا وجد أحدكم ذلك فليقل آمنت بالله ورسوله فإن ذلك يذهب عنه". [متفق عليه].

ومن أبوابه سوء الظن بالمسلمين قال الله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنْ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ } [الحجرات: 12].

الفصل الثالث عشر

في معرفة أمراض القلوب وصحتها

وكيفية الخلاص من المرض والتحقق بالصحة

تزكية النفس تتألف من شقين: تخلية وتحلية، أو نقول: هي: تخلُّقٌ وتحقُّقٌ وتطهيرٌ، وعلى هذا فمعرفة زكاة النفس وسيلة من وسائل تزكيتها لأنه بلا معرفة لا تتم التزكية، فالعلم يسبق العمل عادة، فكثيراً ما تكون الوسائل غايات، والغايات وسائل، من خلال نوعٍ من النظر، ومن ههنا اخترنا من كلام الغزالي في علامات أمراض القلوب وصحتها ما سنذكره لك بعد أن عرّفناك على حكمة ذكره هنا.

قال رحمه الله:

بيان علامات أمراض القلوب وعلامات عودها إلى الصحة

اعلم أنّ كل عضو من أعضاء البدن خُلق لفعلٍ خاص به، وإنما مرضه أن يتعذر عليه فعله الذي خُلقَ له حتى لا يصدر منه أصلا أو يصدر منه مع نوعٍ من الاضطراب. فمرض اليد أن يتعذر عليها البطشُ. ومرض العين أن يتعذر عليها الإبصار. وكذلك مرض القلب أن يتعذر عليه فعله الخاص به الذي خُلق لأجله، وهو العلم والحكمة والمعرفة وحب الله تعالى وعبادته والتلذذ بذكره وإيثاره ذلك على كل شهوة سواه، والاستعانة بجميع الشهوات والأعضاء عليه. قال الله تعالى: { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلا لِيَعْبُدُونِي } [الذاريات: 56] ففي كل عضو فائدة، وفائدة القلب: الحكمة والمعرفة. وهي خاصية النفس التي للآدمي، وبها يتميز عن البهائم، فإنه لم يتميز عنها بالقوة على الأكل والوِقاع والإِبصار أو غيرها، بل بمعرفة الأشياء على ما هي عليه. وأصلُ الأشياء ومُوجِدُها ومخترعها هو الله عز وجل الذي جعلها أشياء. فلو عرف كل شيء ولم يعرف الله عز وجل فكأنه لم يعرف شيئاً. وعلامة المعرفة: المحبة، فمن عرف الله تعالى أحبه، وعلامة المحبة أن لا يؤثر عليه الدنيا ولا غيرها من المحبوبات كما قال الله تعالى: { قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ } إلى قوله تعالى: { أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ } [ التوبة: 24] فمن عنده شيءٌ أحب إليه من الله فقلبه مريض، كما أنّ معدة صار الطينُ أحب إليها من الخبز والماء أو سقطت شهوتها عن الخبز والماء فهي مريضة. فهذه علامات المرض وبهذا يعرف أنّ القلوب كلها مريضة إلا ما شاء الله.

بيان الطريق الذي يعرف به الإنسان عيوب نفسه

اعلم أنّ الله عز وجل إذا أراد بعبد خيراً بصَّره بعيوبِ نفسه، فمن كانت بصيرته نافذة لم تخف عليه عيوبه، فإذا عرف العيوب أمكنه العلاج، ولكن أكثر الخلق جاهلون بعيوب أنفسهم يرى أحدهم القذى في عينِ أخيه ولا يرى الجذع في عين نفسه. فمن أراد أن يعرف عيوب نفسه فله أربعة طرق:

الأول: أن يجلس بين يدي شيخ بصير بعيوب النفس مطلعٍ على خفايا الآفات فيعرفه أستاذه وشيخه عيوبَ نفسه ويعرفه طريق علاجه. وهذا قد عز في الزمان وجوده.

الثاني: أن يطلب صديقاً صدوقاً بصيراً متديناً فينصبه رقيباً على نفسه ليلاحظ أحواله وأفعاله، فما كره من أخلاقه وأفعاله وعيوبه الباطنة والظاهرة ينبهه عليه. فهكذا كان يفعل الأكياس والأكابر من أئمة الدين.

كان عمر رضي الله عنه يقول: رحم الله امرءاً أهدى إليَّ عيوبي. وكان يسأل سلمان عن عيوبه فلما قدم عليه قال له: ما الذي بلغك عني مما تكرهه؟ فاستعفى، فألحَّ عليه فقال: بلغني أنك جمعت بين إدامين على مائدة، وأن لك حلتين حلة بالنهار وحلة بالليل، قال: وهل بلغكَ غيرُ هذا؟ قال: لا، قال: أما هذان فقد كُفِيتهما. وكان يسأل حذيفة ويقول له: أنت صاحب سر رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنافقين، فهل ترى عليَّ شيئاً من آثار النفاق؟ فهو على جلالة قدره وعلوِّ منصبه هكذا كانتْ تهمته لنفسه رضي الله عنه!

فكل من كان أوفر عقلاً وأعلى منصباً كان أقلَّ إعجاباً وأعظمَ اتهاماً لنفسه، إلا أن هذا أيضاً قد عزَّ فقلَّ في الأصدقاء من يترك المداهنة فَيُخْبِرُ بالعيب.

الطريق الثالث: أن يستفيد معرفة عيوب نفسه من ألسنة أعدائه فإن عين السخط تبدي المساوي. ولعل انتفاع الإِنسان بعدوٍ مشاحن يذكِّرهُ عيوبه أكثر من انتفاعه بصديقٍ مداهنٍ يثني عليه ويمدحه ويخفي عنه عيوبه، إلا أن الطبع مجبول على تكذيب العدوّ وحملِ ما يقولهُ على الحسد، ولكن البصير لا يخلو عن الانتفاع بقول أعدائه فإن مساويه لا بدّ وأن تنتشر على ألسنتهم.

الطريق الرابع: أن يخالط الناس فكل ما رآه مذموماً فيما بين الخلق فليطالب نفسه به وينسبها إليه، فإن المؤمن مرآة المؤمن، فيرى من عيوبِ غيره عيوبَ نفسه ويعلم أن الطباع متقاربة في اتباع الهوى. فما يتصف به واحد من الأقران لا ينفك القرين الآخر عن أصله أو عن أعظم منه أو عن شيء منه، فليتفقد نفسه ويطهرها من كل ما يذمه من غيره وناهيك بهذا تأديباً، فلو ترك الناس كلهم ما يكرهونه من غيرهم لاستغنوا عن المؤدب.

Free Web Hosting