تبصير العباد بتحقيق بعض مسائل الجهاد

للشيخ / سعد الدين بن محمد الكبي
مدير معهد الإمام البخاري للشريعة الإسلامية

الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد،
فإن الجهاد ذروة سنام الإسلام، وباب عظيم من أبواب الجنة، إلا أنّ له شروطاً وأحكاماً يجب توفرها حتى يكون شرعياً يحقق الغاية التي شرعه الله عز وجل من أجلها .
وقد أخطأ بعض المستعجلين طريق الجهاد، فاستخدموه استخداماً منكراً، وسبب ذلك يعود إلى سوء الفهم، والتصدر قبل التأهل، فوقعوا فيما لا يحبه الله ويرضاه، فكان مثلهم كمثل من يحج في رجب أو شعبان، أو يصوم يوم الفطر ويوم النحر، فيقع في الإثم ويكون مأزوراً لا مأجوراً، وإن ظنَّ نفسه أنه في أعلى الدرجات، إذ العبرة في امتثال أحكام الشرع والسير فيه على مراد الشارع سبحانه لا على مراد النفوس والهوى .

الهدف من الجهاد

الهدف من الجهاد إقامة الدين، وتحقيق شرع الله في البلاد، وتطبيقه على العباد، لا مجرد سفك الدماء وزهق الأرواح .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية:
" أصل ذلك أن تعلم أن جميع الولايات في الإسلام مقصودها أن يكون الدين كله لله، وأن تكون كلمة الله هي العليا، فإن الله سبحانه وتعالى إنما خلق الخلق لذلك، وبه أنزل الكتب، وبه أرسل الرسل، وعليه جاهد الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنون، قال تعالى : (( وما خلقت الجنَّ والإنس إلا ليعبدون )) . ثم قال : وهذا الذي يقاتل عليه الخلق، كما قال تعالى : (( وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله )) ".
وفي الصحيحين عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال : سُئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الرجل يقاتل شجاعة، ويقاتل حمية، ويقاتل رياءً، فأي ذلك في سبيل الله؟ فقال: ( من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله ) [ الفتاوى 28/ 61 ـ 62 ].
قلنا: تأمل قوله: " لتكون " فإن اللام تعليلية أي من أجل ذلك يقاتلون.

مسألة

وقد يؤخذ بعضهم بالنصوص التي تبين فضلَ القتل والشهادة في سبيل الله، فيعتبر ذلك كافياً لإقامة الجهاد. والجواب :
أن الشهادة مطلب فردي في الجهاد المشروع، وأما الجماعة فتراد للبقاء والدوام لإقامة الشرع، وقد دلَّ على ذلك قوله صلى الله عليه وسلم في بدر: ( اللهم إن تهلك هذه العصابة فلن تعبد في الأرض ) . ولم يعتبرها فرصة للشهادة الجماعية، أو كونها أقرب طريق إلى الجنة .

من الذي يحق له إعلان الجهاد؟

وليس الجهاد أمراً فردياً يحق للأفراد أن يمارسوه باختيارهم كما يمارس أحدهم صوم النافلة أو العمرة، فيشرع فيهما متى يريد، وإنما هو أمر يتعلق بكافة الأمة ويتوقف عليه مصيرهم، ولهذا لم يكن لأي أحدٍ أن يعلنه أو يشرع فيه على رأيه ومزاجه، ولا قياسه واجتهاده، وإنما هو للإمام الذي يتعلق به هذا الأمر ويتحمل عواقبه . ولذلك ذكر الفقهاء أن الجهاد يكون فرضاً على الأعيان في ثلاث حالات، فذكروا منها : إذا استنفر الإمام قوماً لزمهم النفير، لقوله صلى الله عليه وسلم ( وإذا استنفرتم فانفروا ) .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية :
" الجهاد فرض على الكفاية، إلا أن يتعين فيكون فرضاً على الأعيان مثل أن يقصد العدو بلداً، أو مثل أن يستنفر الإمام أحداً ". [ الفتاوى 28 / 80 ].
وإذا غاب الإمام وجب أن يرجع في هذا الأمر إلى أهل الحل والعقد في البلد، ومن أبرزهم طلاب العلم والدعاة إلى الله بعد التشاور وسؤال أهل العلم الذين هم ورثة الأنبياء ـ بعد توصيف الواقع الحقيقي لهم.
أما أن يعلن الجهاد قومٌ لا يعرفون بعلم، ولا رجعوا إلى طلاب العلم، فهذا محض اعتداء ووضع الأمور في غير مواضعها.
وقد قال تعالى : (( وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم )) . فوجب الرجوع إلى أهل العلم في النوازل خاصة كما يرجع إليهم في فروع الشريعة كالطلاق وغيره.
إلا أن هؤلاء لم يرجعوا إلى أهل العلم لسببين رئيسيين :
الأول : أنهم متشبعون بمذهب الخوارج، وليس من الضروري أن يكفِّروا مرتكب الكبيرة ليُنسبوا إلى الخوارج،بل يكفي أنهم لا يرون إلا السيف في إنكار المنكر دون النظر إلى المصـالح والمفاسد، وهذا أصل من أصول الخوارج.
الثاني : أنهم حكموا على أهل العلم بالتخاذل، لأنهم لم يوافقوهم على أفكارهم وأحكامهم وتصرفاتهم فقالوا عنهم :
علماء حيض ونفاس، فهم يرجعون إليهم للسؤال عن الحيض والنفاس، لكنهم لا يرجعون إليهم في المسائل النوازل، وهذا يدل على أنهم قوم متبعون لأهواء أنفسهم يوالون ويعادون عليها.

يجب الجهاد مع القدرة على ذلك

والجهاد واجب مع القدرة عليه، قال شيخ الإسلام :
"ومن كان عاجزاً عن إقامة الدين بالسلطان والجهاد، ففعل ما يقدر عليه من النصيحة بقلبه والدعاء للأمة، ومحبة الخير، وفعل ما يقدر عليه من الخير، لم يُكَلَّف ما يعجز عنه " . [ الفتاوى 28/ 396 ].
قلنا : وهذا يطّرد مع قاعدة أهل السنة :
لا تكليف إلا بمقدور عليه، بخلاف قاعدة أهل البدعة وهي : إمكان التكليف بما لا يطاق.
فالمسلمون وهم في حالة الضعف، وغياب الدولة، وتفرق الكلمة، وقلة العدد، وفقد السلاح، ليس بمقدورهم قتال المشركين، ولا يكلف الله نفساً إلا ما آتاها.
ومن أمثلة عدم التكليف بما لا يطاق في الجهاد :
1ـ أن الشرع أوجب المصابرة على الواحد مقابل الاثنين، وهم يوجبون مصابرة الواحد مقـابل الألف ـ وهم في حالة الهجوم والمبادأة ـ وهذا يتنافى مع سماحة الشريعة وسهولة التكليف.
2ـ أن الشرع أوجب الهجرة على المستضعفين الذين لا يستطيعون تطبيق دينهم في حالة الضعف، وجعلها ـ أي الهجرة ـ مستحبة في حال الاستضعاف مع التمكن من إقامة الدين.
[ راجع في ذلك : الفتاوى ( 18 / 281 ) و ( 28 / 240 ) والمغني ( 9 / 236 و 237 ) ].
فلو كان القتال واجباً وجوباً مطرداً في كل المراحل والحالات والأزمنة والأمكنة، لأوجب على المستضعفين القتال أو استحبه لا الهجرة.
وبذلك أفتى شيخ الإسلام أهل ماردين ـ وهي أقرب البلدان في القديم لواقعنا ـ فقال :
" المقيم بها إن كان عاجزاً عن إقامة دينه وجبت عليه الهجرة، وإلا استحبت ولم تجب " .[ الفتاوى 28 / 240 ].
وهذا هدي النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه في مكة، فقد كانوا مستضعفين فيها، وكان الكفار يظلمونهم ويؤذونهم ويعاقبونهم على الإيمان بالله ورسوله، فهاجر منهم طائفة مثل عثمان بن عفان، وعبد الرحمن بن عوف، والزبير بن العوام، وعبد الله بن مسعود، وجعفر بن أبي طالب وغيرهم.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية :
"كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في أول الأمر مأموراً أن يجاهد الكفار بلسانه لا بيده، فيدعوهم ويعظهم ويجادلهم بالتي هي أحسن.
وكان مأموراً بالكف عن قتالهم لعجزه وعجز المسلمين عن ذلك.
ثم لما هاجر إلى المدينة وصار له بها أعوان، أُذن له في الجهاد، ثم لما قووا كتب عليهم القتال، ولم يكتب عليهم قتال من سالمهم، لأنهم لم يكونوا يطيقون قتال جميع الكفار" .[ الجواب الصحيح 1 / 74 ].
إلا أن هؤلاء يمنعون من التعليم والتربية، والدعوة إلى الله ـ وهو من جهاد اللسان ـ لأنهم يعتبرون أن آية السيف نسخت كل مرحلة فليس ثمَّ إلاَّ الجهاد.
والجواب :
أن آية السيف نسخت كل مرحلة عندما وصل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مرحلة قيام الدولة حيث أصبح للمسلمين جيش وكيان مستقل، وأصبحوا في عزة ومنعة، عندها أمرهم الله عز وجل ـ وهم في هذه الحالة ـ أن لا يكتفوا بالجهاد الدفاعي الذي هو صد العدوان لقوله تعالى : (( فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم )) ـ الذي كان في المرحلة الوسط بين المرحلة الأولى وهي كف الأيدي، وبين المرحلة الأخيرة وهي قتال المشركين كافة دون استثناء ـ.
أما وبعد أن عاد المسلمون إلى الضعف ثانيةً، وليس لهم دولة ولا جيش، وعاد الدين غريباً، فلا شك أن الواجب عليهم كف الأيدي وإقامة الصلاة والاستمرار بالدعوة والتربية لإيجاد القاعدة العريضة التي تتبنى الإسلام وتلتزم به وتدعوا إليه، وذلك لأمور :
أولاً : أنّ حكم الشيء حكم مثله، فالحكم على المرحلة حكم مثلها من المراحل التي مرَّ بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإلا يلزم من ذلك التفريق بين المتماثلات والجمع بين المختلفات .
ثانياً : أنه لا تكليف إلا بمقدور عليه، فإذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم مأموراً بالكف عن القتال لعجزه وعجز المسلمين في تلك المرحلة، وجب أن يكون العجز علة للحكم، يوجد الحكم حيث يوجد العجز وينتفي بانتفائه كما تقرر في الأصول : أن الحكم يدور مع علته وجوداً وعدماً، فيوجد الحكم حيث توجد العلة وينتفي الحكم حيث تنتفي العلة.

لا بد من مراعاة قاعدة
تحقيق المصالح ودرء المفاسد في جهاد البدء

لقد فرّق الفقهاء بين جهاد الدفع وجهاد البدء والطلب، فأوجبوا الجهاد على كل من حضر إذا غُزي قوم في عقر دارهم، بل يتعداهم إلى الدول المجاورة إذا لم يكف أهل البلد، ولا يوازن فيها بين المصالح والمفاسد، إذ أن المفسدة في عدم الدفع متحققة، والمصلحة في الدفع خالصة.
وأما في جهاد البدء والطلب، فينبغي الموازنة بين المصالح وتحقيقها، والمفاسد ودرئها . وفي ذلك يقول شيخ الإسلام :
" فحيث كانت مفسدة الأمر والنهي أعظم من مصلحته، لم يكن مما أمر الله به، وإن كان قد تُرك واجب وفُعِلَ محرم، إذ المؤمن عليه أن يتقي الله في عباد الله وليس عليه هداهم " .[ الفتاوى العراقية 257 ].
وقال: " من يريد أن يأمر وينهى، إما بلسانه وإما بيده مطلقاً من غير فقه ولا حلم ولا صبر ولا نظر فيما يصلح من ذلك وما لا يصلح، وما يقدر عليه وما لا يقدر عليه، فيأتي بالأمر والنهي معتقداً أنه مطيع في ذلك لله ولرسوله، وهو معتد في حدوده، كما نصّب كثير من أهل البدع والأهواء نفسه للأمر والنهي، كالخوارج والمعتزلة وغيرهم ممن غلط فيما آتاه الله من الأمر والنهي والجهاد وغير ذلك. وكان فساده أعظم من صلاحه . ثم قال : وجماع ذلك داخل في القاعدة العامة فيما إذا تعارضت المصالح والمفاسد والحسنات والسيئات، أو تزاحمت، فإنه يجب ترجيح الراجح منها فيما إذا ازدحمت المصالح والمفاسد، وتعارضت المصالح والمفاسد، فإن الأمر والنهي وإن كان متضمناً تحصيل مصلحة ودفع مفسدة، فينظر في المعارض له، فإن كان الذي يفوت من المصالح أو يحصل من المفاسد أكثر لم يكن مأموراً به، بل يكون محرماً إذا كانت مفسدته أكثر من مصلحته " . [ الفتاوى العراقية 259 ـ 261 ].
ويقول الإمام ابن القيم رحمه الله :
" النبي صلى الله عليه وسلم شرع لأمته إيجاب إنكار المنكر ليحصل ـ بإنكاره ـ من المعروف ما يحبه الله ورسوله، فإذا كان إنكار المنكر يستلزم ما هو أنكر منه وأبغض إلى الله ورسوله فإنه لا يسوغ إنكاره، وإن كان الله يبغضه ويمقت أهله، وهذا كالإنكار على الملوك والولاة بالخروج عليهم، فأنه أساس كل شر وفتنة إلى آخر الدهر" . ثم قال :
"ومن تأمل ما جرى على الإسلام في الفتن الكبار والصغار رآها من إضاعة هذا الأصل وعدم الصبر على المنكر، فطلب إزالته فتولد منه ما هو أكبر منه، فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يرى بمكة أكبر المنكرات ولا يستطيع تغييرها، بل لمَّا فتح الله مكة وصارت دار إسلام، عزم على تغيير البيت وردِّه على قواعد إبراهيم، ومنعه من ذلك ـ مع قدرته عليه ـ خشية وقوع ما هو أعظم منه من عدم احتمال قريش لذلك لقرب عهدهم بالإسلام، وكونهم حديثي عهد بكفر، ولهذا لم يأذن في الإنكار على الأمراء باليد، لما يترتب عليه من وقوع ما هو أعظم منه كما وجد سواء" [ إعلام الموقعين 3 / 4 ].

المشاركة في هذه الأعمال حرام

والنتيجة التي ينبغي أن يتوصل إليها كل أخٍ مسلم غيور على الدعوة الإسلامية في هذا البلد، حريص على المسلمين وأعراضهم، أن يمتنع من المشاركة في هذا العمل الأرعن الذي يقوده أناس لا يفقهون الشرع ولا يعرفون الواقع، وقد كان أمثالهم سبباً في توريط المسلمين في عدد من الدول التي لم يجنوا منها إلاَّ إراقة الدماء والاعتداء على الأعراض وإنهاء الدعوة إلى الله.
وعلى الشباب المسلم أن يرتبطوا بكبار علماء هذه الأمة، وأن يرجعوا إليهم ويسألوهم عن حكم الشرع في كل عمل، لا سيما في النوازل التي هي محض مسؤولياتهم لاستقرائهم الشريعة وفهمهم مقاصدها، وقد أمر الله بالرد إليهم في النوازل خاصةً فقال: (( وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به ولو ردّوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم )) وعلى هذا كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فقد كان أحدهم لا يقطع أمراً حتى يرجع إلى العالم منهم، كما فعل أبو موسى الأشعري رضي الله عنه عندما رأى قوماً حِلَقاً في المسجد يعدّون التسبيح والتحميد والتكبير بالحصى فأنكره في نفسه، فأتى إلى دار عبد الله بن مسعود رضي الله عنه فقصّ عليه ما رأى، فقال له ابن مسعود رضي الله عنه: " فماذا قلت لهم؟" قال: " ما قلت لهم شيئاً انتظار رأيك أو انتظار أمرك " [ انظر سنن الدارمي ( / 68 ـ 69 ) وهو أثر صحيح ].
وختاماً نقول : ليحذر العبد مسالك أهل الظلم والجهل، الذين يسلكون مسالك العلماء، فترى أحدهم أنه في أعلى الدرجات وإنما هو يعلم ظاهراً من الحياة الدنيا، ولم يحم حول العلم الموروث عن سيد ولد آدم، وقد تعدى على الأعراض والأموال بكثرة القيل والقال .
فرحم الله عبداً نطق بعلم أو سكت بحلم، وعَبَدَ ربه قبل أن يبغته الأجل، اللهم فوفّق وارحم.


Free Web Hosting