الفصل الأول

تعريف الكفالة - مشروعيتها وأدلتها - حكمة تشريعها

المبحث الأول: في تعريف الكفالة:

أ-الكفالة في اللغة: هي بمعنى الالتزام، تقول: تكلفت بالمال التزمت به وألزمت نفسي به. أو هي بمعنى الضم، ومنه قوله تعالى: "وكفلها زكريا" أي ضمها إلى نفسه، وقوله عليه الصلاة والسلام:"أنا وكافل اليتيم كهاتين في الجنة" أي ضامّ اليتيم إلى نفسه.

ب-الكفالة في الشرع: عرّفها الشافعية بأنها: التزام حق ثابت في ذمة الغير أو إحضار من عليه الدين أو عين مضمونة. وقد يطلق على العقد الذي يحصل به ذلك.

وعرفها الحنفية بأنها: ضم ذمة الكفيل إلى ذمة الأصيل في المطالبة.

المبحث الثاني: مشروعيتها ودليلها:

الكفالة مشروعة في الإسلام، ولقد استدل العلماء على مشروعيتها بالكتاب والسنة والإجماع.

أ-أما الدليل من القرآن الكريم: فقوله تعالى حكاية عن يوسف عليه السلام:"ولمن جاء به حمل بعير وأنا به زعيم" قال ابن عباس: الزعيم الكفيل.

ب-وأما الدليل من السنة فأحاديث منها:

1 ً-عن سلمة بن الأكوع قال:" كنا جلوساً عند النبي صلى الله عليه وسلم إذ أتي بجنازة فقالوا: صل عليها فقال: هل عليه دين؟ قالوا: لا، قال: فهل ترك شيئاً؟ قالوا: لا، فصلى عليه. ثم أتي بجنازة أخرى، فقالوا: يا رسول الله صل عليها، قال: هل عليه دين؟ قيل: نعم، قال: فهل ترك شيئاً؟ قالوا: ثلاثة دنانير، فصلى عليها، ثم أتي بالثالثة فقالوا: صل عليها، قال: هل ترك شيئاً؟ قالوا: لا، قال: فهل عليه دين؟ قالوا: ثلاثة دنانير، قال: صلوا على صاحبكم، فقال أبو قتادة: صلّ عليه يا رسول الله وعليّ دينه، فصلى عليه" رواه البخاري.

والحكمة في ترك النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة على من عليه دين تحريض الناس على قضاء الديون في حياتهم، والتوصل إلى البراءة لئلا تفوتهم صلاة النبي صلى الله عليه وسلم.

2 ً-وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:" الزعيم غارم"، رواه أبو داود والترمذي قال الترمذي: حديث الحسن.

3 ً-وروي أنه صلى الله عليه وسلم:" تحمل عن رجل عشرة دنانير" رواه الحاكم.

ج-وأما الدليل من الإجماع: أجمع المسلمون على جواز الضمان في الجملة، وإنما اختلفوا في فروع.

المبحث الثالث: حكمة مشروعيتها:

الحكمة من مشروعيتها حاجة الناس إليها، فإنه قد لا يطمئن البائع إلى المشتري فيحتاج إلى من يكفله بالثمن، أو لا يطمئن المشتري إلى البائع، فيحتاج إلى من يكفله في المبيع. وهي عقد وثيقة وغرامة، شرعت لدفع الحاجة، وهو وصول المكفول له إلى إحياء حقه، وأكثر ما يكون أولها ملامة وأوسطها ندامة وآخرها غرامة.

* * *

الفصل الثاني

أركان الكفالة

ذهب الحنفية-على طريقتهم في العقد-إلى أن الكفالة ليس لها إلا ركن واحد وهو الصيغة، وهي مؤلفة من الإيجاب والقبول، والإيجاب من الكفيل، والقبول من الطالب أي المكفول له.

ذهب الشافعية إلى أن الكفالة لها خمسة أركان: الكفيل- المكفول له- المكفول عنه- المكفول به- الصيغة.

المبحث الأول: الكفيل وشروطه:

الكفيل: هو الضامن الذي يلتزم بأداء الحق، ويشترط فيه: أن يكون أهلاً للتبرع، وذلك بأن يكون بالغاً عاقلاً حراً رشيداً.

فلا تصح الكفالة من مجنون لأنه ليس أهلاً له، كما إنه لا تصح من صبي، لأن الكفالة تصرف مالي فلا يصح من هؤلاء.

وقالت الحنفية إن الكفالة عقد تبرع، فلا تنعقد ممن ليس من أهل التبرع، لكن قالوا: إن الأب والوصي لو استدان ديناً في نفقة اليتيم، وأمر اليتيم أن يضمن المال عنه جاز، ولو أمره أن يكفل عنه النفس لم يجز، لأن ضمان الدين قد لزمه من غير شرط، فالشرط لا يزيده إلا تأكداً، فلم يكن متبرعاً، فأما ضمان النفس- وهو تسليم نفس الأب أو الوصي- فلم يكن عليه، فكان متبرعاً فيه فلم يجز.

- لا يصح للمريض مرضاً مخوفاً أن يكفل بأكثر من ثلث ماله، لأنه لا يملك التبرع بأكثر منه.

- ولا يصح من المحجور عليه بسفه أن يكفل عند الشافعية لأنه ليس من أهل التصرف.

وأما إن كان محجوراً عليه بفلس فإنه يصح أن يكفل مالاً في ذمته، كما يصح له أن يشتري في ذمته، فإذا ضمن يطالب بما ضمنه إذا انفك عنه الحجر وأيسر.

المبحث الثاني: المكفول له:

المكفول له: هو مستحق الدين

ذهب الشافعية والحنفية إلى اشتراط أن يكون المكفول له معروفاً- وهذا في الأصح عندهم- وذلك لأن الناس يتفاوتون في استيفاء الدين تشديداً وتسهيلاً.

واشترط الحنفية أن يكون حاضراً مجلس العقد، إذا لم يقبل عنه حاضر.

وذهب الشافعية إلى عدم حضوره، فضلاً عن أنهم لم يشترطوا قبوله ورضاه في الأصح عندهم.

المبحث الثالث: المكفول عنه:

المكفول عنه: هو المدين، ويعبر عنه تارة بالأصيل.

ذهب أبو حنيفة إلى أن المكفول عنه يشترط فيه شرطان:

أحدهما: أن يكون قادراً على تسليم المكفول به إما بنفسه أو بوكيله. وهذا عند أبي حنيفة، وعلى هذا فلا تصح الكفالة بالدين عن ميت مفلس.

وجه قول أبي حنيفة أن وفاء الدين عبارة عن الفعل، والميت عاجز عن الفعل، فكانت هذه كفالة بدين ساقط، فلا تصح، كما إذا كفل على إنسان بدين ولا دين عليه، وإذا مات فهو قادر بنائبه، وكذا إذا مات عن كفيل، لأنه قائم مقامه في قضاء دينه. وذهب صاحباه أبو يوسف ومحمد إلى أنها تصح.

ثانيهما: أن يكون معلوماً بأن يكفل ما على فلان، فأما إذا قال: ما على أحد من الناس، فإنه لا يجوز لأن المضمون عليه مجهول، ولأن الكفالة جوازها بالعرف، والكفالة على هذا الوجه غير معروفة.

وذهب الشافعية إلى عدم اشتراط رضا المضمون عنه في المال قطعاً، لأن قضاء دين الغير بغير إذنه جائز فالتزامه أولى، وكما يصح الضمان عن الميت اتفاقاً وإن لم يخلف وفاء. وأيضاً لا يشترط معرفته في الأصح، قياساً على رضاه، إذ ليس ثَمَّ معاملة.

وعند الشافعية قول ثانٍ: أنه يشترط معرفته، ليعرف هل هو موسر أو ممن يبادر إلى قضاء دينه، أو يستحق اصطناع المعروف أو لا، وردّ على هذا القول بأن اصطناع المعروف لأهله ولغير أهله معروف.

المبحث الرابع: المكفول به:

المكفول: هو ما وقع عليه الضمان من دين أو عين.

اشترط الشافعية فيه شروطاً:

الشرط الأول: أن يكون حقاً ثابتاً حال العقد، فلا يصح ضمان ما لم يجب، سواء أجرى سبب وجوبه كنفقة ما بعد اليوم للزوجة وخادمها، أم لم يجر كضمان ما سيقرضه لفلان، لأن الضمان وثيقة بالحق، فلا يسبقه كالشهادة. ويكفي في ثبوت الحق اعتراف الضامن لا ثبوته على المضمون عنه، فلو قال شخص: لزيد على عمرو مائة دينار، وأنا ضامنه فأنكر عمرو فلزيد مطالبة القائل في الأصح.

فائدة: واستثني من لزوم الحق على مذهب الشافعي ضمان الدرك بعد قبض الثمن- وهو أن يضمن للمشتري الثمن إذا خرج المبيع مستحقاً- واشترط أن يكون بعد قبض الثمن لأنه إنما يضمن ما دخل في يد البائع، ولا يدخل الثمن في ضمانه إلا بقبضه. وإنما أجازوه وإن لم يكن له حق ثابت، لأن الحاجة قد تدعو إلى معاملة الغريب، ويخاف أن يخرج ما يبيعه مستحقاً ولا يظفر به، فاحتيج إلى التوثق به، ويسمى ضمان الدرك أيضاً ضمان العهدة، لالتزام الضامن ما في عهدة البائع ردّه، والعهدة في الحقيقة عبارة عن الصك المكتوب فيه الثمن، ولكن الفقهاء يستعملونه في الثمن لأنه مكتوب في العهدة مجازاً تسمية للحال باسم المحل.

وذهب الحنابلة إلى جواز الكفالة فيما سيجب، واستدلوا على ذلك بقوله تعالى: "ولمن جاء به حمل بعير وأنا به زعيم" قالوا: وقد سلموا ضمان ما يلقيه في البحر قبل وجوبه بقوله: ألق متاعك في البحر وعليّ ضمانه.

الشرط الثاني: أن يكون الدين لازماً: أي مأمون السقوط بالفسخ أو الانفساخ، ولو كان اللزوم مآلاً، وذلك كمهر قبل دخول أو موت، وثمن مبيع قبل قبض ودين سلم. وعلى هذا يصح ضمان الثمن للبائع في زمن الخيار، إذا كان الخيار للمشتري وحده، لأنه حينئذ يملك البائع الثمن، فيصح ضمانه بخلاف ما إذا كان الخيار للبائع أولهما، فإنه لا يصح لأنه ليس مالكاً للثمن حتى يضمن له.

الشرط الثالث: أن يكون معلوماً، جنساً وقدراً وصفة وعيناً، وهذا في المذهب الجديد للشافعي، لأنه إثبات مال في الذمة لآدمي بعقد فأشبه البيع والإجارة، فلا يصح ضمان المجهول، ولا غير المعين، كضمنت أحد الدينين.

وفي القديم لا يشترط ذلك، لأن معرفته متيسرة-.

وذهب الحنفية والحنابلة إلى جواز ضمان المجهول لقول الله جلّ شأنه: { وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ } [يوسف: 72]. أجاز الله تعالى عزّ شأنه الكفالة بحمل البعير مع أن الحمل يحتمل الزيادة والنقصان والله عزّ وجلّ أعلم.

الشرط الرابع: أن يكون الحق قابلاً للتبرع به، أي ينقل لغير من هو له بغير عوض، فلا تصح الكفالة بالقود وحدّ القذف وحق الشفعة.

المبحث الخامس: الصيغة:

أ- اللفظ الدال على الالتزام:

اشتراط الشافعية في الضمان والكفالة أن يكون هناك لفظ دال على الالتزام:

سواء أكان صريحاً أم كناية، كقوله: ضمنت دينك على فلان، أو تحملته أو تقلدته أو تكفلت به أو تكفلت ببدن فلان، أو أنا بالمال أو بإحضار فلان ضامن أو كفيل أو زعيم أو حميل. ومن ألفاظ الكفالة: خلّ عن فلان والدين الذي عليه عندي، أو دين فلان إليّ وما أشبه ذلك.

وأما إن كان هناك لفظ ليس فيه التزام فلا تصح، فلو قال أؤدي المال أو أحضر الشخص فهو وعد بالالتزام، لا يلزم الوفاء به، لأن الصيغة لا تشعر بالالتزام. إلا إن صحب ذلك قرينة دالة على الالتزام.

واشترط الحنفية قبول كل لفظ يدل على القبول والرضا، كأن يقول صاحب الحق: رضيت أو قبلت أو هويت وما أشبه ذلك.

هذا ويقوم مقام اللفظ ما يدل عليه من الكتابة ومن إشارة الأخرس المفهمة.

ب- التعليق والتنجيز في الصيغة:

ذهب الشافعية في الأصح عندهم إلى أنه لا يجوز تعليق الصيغة بشرط، كأن يقول في التعليق على شرط سواء أكان ذلك في ضمان المال أو كفالة البدن، إن قدم فلان فقد ضمنت ما على فلان أو تكفلت ببدنه، لأن ذلك عقد فلا يقبل التعليق كالبيع.

والقول الثاني عندهم أنه يجوز التعليق فيه، لأنه لا يشترط القبول فيه فأشبه الطلاق.

وهناك قول ثالث عندهم وهو أنه يمتنع تعليق الضمان بالمال دون الكفالة في البدن، لأن الكفالة بالبدن مبنية على الحاجة.

وأما التوقيت في الكفالة فإن كانت بالمال فلا يصح لأن المقصود منها الأداء، وأما الكفالة بالبدن فالأصح عند الشافعية أنه لا يجوز توقيتها كأن يقول: أنا كفيل بزيد إلى شهر وبعده أنا بريء.

والقول الثاني عندهم أنه يجوز توقيتها، لأنه قد يكون له غرض في تسليمه في هذه المدة.

وذهب الحنفية إلى جواز التعليق بشرط في الكفالة سواء أكانت بالمال أو بالنفس إذا كان الشرط ملائماً، -والشرط الملائم: هو أن يكون سبباً للوجوب- مثال ذلك: إن استحق المبيع فعليّ الثمن، أو أن يكون ممكناً من الاستيفاء، كإن قدم زيد وهو مكفول عنه فعلي ما عليه من الدين، أو أن يكون سبباً لتعذر الاستيفاء منه، كإن غاب زيد فعليّ ما عليه من الدين.

ودليلهم في التعليق بالشرط قوله تعالى: "ولمن جاء به حمل بعير وأنابه زعيم" فإنه علق الكفالة بالشرط، وذلك الشرط سبب لوجوب الحمل، وشريعة من قبلنا عندهم شرع لنا ما لم تنسخ.

ولا يصح التعليق عندهم بنزول المطر أو هبوب الريح، ولا يصح هذا التعليق لأنه شرط غير ملائم.

الفصل الثالث

أحكام الكفالة بالنفس

الكفالة إما أن تكون بمال أو ببدن ونفس، وتسمى كفالة الوجه، ولكل منهما أحكام تتعلق بها. وإليك بيان ذلك. مبتدأ بكفالة البدن والنفس.

المبحث الأول: معناها وحكمها وصيغتها:

أ- معنى الكفالة بالبدن هي: أن يلتزم الكفيل إحضار المكفول إلى المكفول له.

ب- وأما حكمها: ذهب أصحاب المذاهب الأربعة إلى صحتها، للحاجة إليها، لقوله تعالى: { لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقًا مِنْ اللَّهِ لَتَأْتُنَّني بِهِ إِلا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ } [يوسف: 66].

ولقوله عليه الصلاة والسلام: "الزعيم غارم" فلم يفصل الحديث بين الكفالة بالنفس أو بالمال، فيقتضي ذلك شرعيتها.

- والحاجة داعية إليها، ضرورة إحياء حقوق العباد، وقد أمكن العمل بموجبها بأن يعلمه مكانه فيخلي بينه وبينه، إذا التخلية تسليم، أو يوافقه إذا دعاه، أو يكرهه بالحضور إلى مجلس الحاكم، والتزامه لذلك ورضا خصمه به دليل على قدرته فتصح، وإن لم يقدر عليه استعان بأعوان القاضي، فكانت مفيدة.

- والصحابة رضي الله عنهم أجازوا الكفالة بالنفس، وضمنت أم كلثوم ابنة علي وزوجة عمر بنفس عليّ حين جرى بينه وبين عمر رضي الله عنهم خصومة.

ج- وأما صيغة الكفالة : فالأصل فيها أن يقول تكفلت بنفسه أو بدنه، فلو قال: تكلفت بجسمه وروحه صح ذلك أيضاً، ويقوم مقام ذلك الكفالة بجزء شائع منه. وكذلك كل جزء لا يبقى الشخص بدونه كالكبد والقلب والرأس والدماغ، وأما ما يبقى الشخص بدونه كاليد والرجل فلا يكفي. هذا هو مذهب الشافعي في ذلك، وكذلك هو مذهب الحنابلة ، إلا أنهم ذكروا في الجزء الذي يبقى الشخص بدونه وجهين:

أحدهما: تصح الكفالة، وهو قول أبي الخطاب، لأنه لا يمكنه إحضار هذه الأعضاء على صفتها إلا بإحضار البدن كله فأشبه الكفالة (1) بوجهه ورأسه، ولأنه حكم يتعلق بالجملة فيثبت حكمه إذا أضيف إلى البعض كالطلاق والعتاق.

________________

(1) ذكر بعض ما يتجزأ كذكر كله.

والثاني: لا يصح لأنه يمكن إحضاره بدون الجملة مع بقائها.

واشترط الحنفية إلى أن يكون الجزء عند إطلاق الجزء شائعاً كالشافعية، ولكنهم اشترطوا فيما عدا ذلك من الأجزاء أن يكون مما يعبر به من أعضائه عن جميع البدن. كالرأس والوجه والرقبة والعنق والجسد والبدن.

المبحث الثاني: كفالة بدن من عليه مال وكفالة بدن من عليه عقوبة:

آ- في كفالة بدن من عليه مال: إذا تكفل بإحضار من عليه مال، فلا يشترط العلم بمقدار المال، لأنها تكفل بالبدن لا بالمال. بل يشترط أن يكون مما يصح (1) ضمانه.

ب- في كفالة بدن من عليه عقوبة.

العقوبة إما أن تكون حقاً لآدمي كقصاص وحد قذف وتعزير، وإما أن تكون حقاً لله تعالى، كحد الخمر وحد الزنا وحدّ السرقة.

فإن كانت العقوبة حقاً لآدمي فالمذهب عند الشافعية صحتها، لأنه حق لازم فأشبه المال.

وفي قول عندهم أنها لا تصح، لأن العقوبة مبنية على الدفع فتقطع الذرائع المؤدية إلى توسيعها.

والمذهب عندهم أيضاً أنها تمنع في حدود الله تعالى، لأنها يسعى في دفعها ما أمكن.

وذهب الحنفية إلى جواز الكفالة بالبدن، في القصاص وفي حد السرقة والقذف إذا بذلها وتبرع بها المدعى عليه، فإن لم يبذلها لا يجبر عليها عند أبي حنيفة، وقال الصاحبان يجبر، قال في البدائع: "ويجوز الكفالة بنفس من عليه القصاص في النفس وما دونها، وبحد القذف والسرقة إذا بذلها المطلوب فأعطاه بها كفيلاً بلا خلاف بين أصحابنا وهو الصحيح، لأنها كفالة بمضمون على الأصيل مقدور الاستيفاء من الكفيل فتصح، كالكفالة بتسليم نفس من عليه الدين.

وذهبت الحنابلة إلى عدم صحة الكفالة ببدن من عليه حدّ، سواء أكان حقاً لله تعالى كحد الزنا والسرقة، أم كان لآدمي كحد القذف والقصاص.

واحتجوا على ذلك بأمور منها:

1- ما روي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا كفالة في حد".

2- أن الكفالة استيثاق والحدود مبناها على الإسقاط والدرء بالشبهات، فلا يدخل فيها الاستيثاق.

3- أنه حق لا يجوز استيفاؤه من الكفيل إذا تعذر عليه إحضار المكفول به، فلم تصح

_______________________

(1) وهو الدين الثابت أو ما يؤول إلى اللزوم.

الكفالة بمن هو عليه كحد الزنا.

المبحث الثالث: فيما يتعلق بالكفيل في البدن من أحكام:

إذا صحت الكفالة بالبدن تعلق بالكفيل الأحكام التالية:

أولاً: إذا شرط الكفيل تسليم المكفول في وقت معين، لزمه إحضاره فيه إذا طالب الطالب بإحضاره في ذلك الوقت، وفاء بما التزمه، كالدين المؤجل إذا حلّ، فإن أحضره فذاك، لأنه وفى ما عليه، وإن لم يحضره حبسه الحاكم لامتناعه عن إيفاء حق مستحق، ولكن لا يحبسه أول مرة لعله لم يدر لماذا دعي.

ثانياً: لو غاب المكفول بنفسه أمهله الحاكم مدة ذهابه وإيابه، فإن مضت ولم يحضره، يحبسه لتحقق امتناعه عن إيفاء الحق.

ثالثاً: ذهب الشافعية إلى أنه إذا عين الكفيل مكاناً لتسليم المكفول تعين تبعاً لشرطه، وإن لم يعين مكاناً فمكان الكفالة مكان التسليم كما في السلم فيهما، فإن لم يكن موضع الكفالة صالحاً للتسليم حمل على أقرب مكان صالح للتسليم.

وذهب الحنابلة إلى أنه إذا عين في الكفالة تسليمه في مكان فأحضره في غيره لم يبرأ من الكفالة، لأنه سلم ما شرط تسليمه في مكان في غيره فلم يبرأ، كما لو أحضر المسلم في غير هذا الموضع الذي شرطه، ولأنه قد سلم في موضع لا يقدر على إثبات الحجة فيه لغيبة شهوده أو غير ذلك، وقد يهرب منه ولا يقدر على إمساكه.

وإن وقعت الكفالة مطلقة فهم كالشافعية في ذلك.

وذهب الحنفية إلى أن المطلوب هو تسليم المكفول إلى الطالب، وهو التخلية بينه وبين المكفول بنفسه في موضع يقدر على إحضاره مجلس القضاء، لأن التسليم في مثل هذا الموضع محصل للمقصود من العقد، وهو إمكان استيفاء الحق بالمرافقة إلى القاضي، فإذا حصل ينتهي حكمه، فيخرج عن الكفالة، ولو سلمه في صحراء أو برّية لا يخرج، لأنه لم يحصل المقصود، ولو سلم في السوق أو في المصر يخرج، سواء أطلق الكفالة أو قيدها بالتسليم في مجلس القاضي، أما إذا أطلق فظاهر، لأنه يتقيد بمكان يقدر على إحضاره مجلس القاضي بدلالة الغرض، وكذا إذا قيد، لأن التسليم في هذه الأمكنة تسليم في مجلس القاضي بواسطة.

رابعاً: يبرأ الكفيل إذا سلم المكفول إلى المكفول له في المكان المعين -على الاختلاف في هذا المكان- شريطة أن لا يكون هناك حائل يمنع المكفول له من الوصول إلى حقه، كأن يكون هناك متغلب يمنع المكفول له عنه، فإن أحضره مع وجود الحائل لم يبرأ الكفيل، لعدم الانتفاع بتسليمه.

وكذلك يبرأ الكفيل إذا حضر المكفول به وقال: سلمت نفسي عن جهة الكفيل، كما يبرأ الضامن للمال بأداء الأصيل الدين.

ولو سلم المكفول به نفسه عن الكفيل فأبى أن يقبله قال الماوردي: إن أشهد المكفول أنه قد سلم نفسه عن كفالة فلان برئ الكفيل منها. قال الخطيب: وقياس ما تقدم أنه يتعين الرفع إلى الحاكم ثم الإشهاد. هذا ولا يكفي مجرد حضور المكفول من غير أن يقول: سلمت نفسي عن فلان لأنه لم يسلمه إليه ولا أحد من جهته.

خامساً: يبرأ الكفيل بموت المكفول بنفسه، لأن الكفالة بمضمون على الأصيل، وقد سقط الضمان عنه فيسقط عن الكفيل.

سادساً: إذا قال الكفيل للمكفول له: كفلت نفس فلان، فإن لم أحضره في وقت كذا فعلي الألف التي عليه. ثم لم يحضره.

فذهب الحنفية والحنابلة إلى أنه عليه الألف، وتبقى الكفالة كما هي، لأنه لا منافاة بين الكفالتين ولاحتمال أن يكون عليه حق آخر غير الألف.

حتى ولو قال المكفول له: لا حق لي قبل المكفول به، فعلى الكفيل تسليمه، لاحتمال أنه وصي أو وكيل.

وذهب الشافعية في هذه المسألة إلى بطلان الكفالة، لأنه قد اشترط شرطاً ينافي مقتضاها، وذلك بناء على أنه لا يغرم عند الإطلاق.

سابعاً: إذا أبرأ الطالب الكفيل من الكفالة بالنفس خرج عن الكفالة، لأن حكم الكفالة بالنفس حق المطالبة بتسليم النفس، وقد أسقط المطالبة عنه بالإبراء، فينتهي الحق ضرورة، ولا يكون هذا الإبراء للأصيل، لأنه أسقط المطالبة عنه دون الأصيل، ولو أبرأ الأصيل برئاً جميعاً، لأن الكفالة بمضمون على الأصيل، وقد سقط الضمان عنه فيسقط عن الكفيل.

ثامناً: في الكفالة بالنفس هل يشترط رضا المكفول؟

ذهب الشافعية في الأصح إلى أن الكفالة بالنفس لا تصح إلا برضا المكفول الذي يعتبر إذنه، أو الولي حيث لا يعتبر، بناء على أن الكفيل لا يغرم المال عند العجز، فلا فائدة لها إلا حضور المكفول، وهو لا يلزمه الحضور مع الكفيل إذا لم يكن راضياً بكفالته إياه.

وذهب الحنفية إلى أنه لا يشترط رضا المكفول، فتجوز الكفالة بأمر المكفول عنه وبغير أمره، لأنه التزام المطالبة، وهو تصرف في حق نفسه، وفيه نفع للطالب ولا ضرر فيه على المطلوب بثبوت الرجوع إليه، إذ هو عند أمره وقد رضي به لقوله عليه الصلاة والسلام الزعيم غارم.

وذهب الحنابلة في ذلك إلى وجهين: أحدهما كالشافعية والثاني كالحنفية.

وأما رضا المكفول له: ذهب الشافعية في الأصح والحنابلة صح والحنابلة إلى أنه لا يشترط، كما لا يشترط رضا المضمون له، لأنها وثيقة له لا قبض فيها فصحت من غير رضاه فيها كالشهادة. ولأنها التزام حق له من غير عوض، فلم يعتبر رضاه فيها كالنذر.

- وذهب الحنفية إلى أنه لا تصح الكفالة إلا برضا المكفول له في المجلس عند أبي حنيفة وفي قول للحنفية : يجوز إذا بلغه فأجاز، ولم يشترط في رواية عنه الإجازة، بل الكفالة على هذا نافذة وإن كان المكفول له غائباً.

هذا وقد استثنى جمهور الحنفية من اشتراط رضا المكفول له مسألة واحدة، وهي أن يقول المريض المليء (1) لوارثه: تكفل عني بما عليّ من الدين فيتكفل به مع غيبة الغرماء، فإنها تصح، لأنها في الحقيقة وصية، ولهذا تصح وإن لم يسم المكفول لهم.

* * *

الفصل الرابع

أحكام الكفالة بالمال

المبحث الأول: تعريف الكفالة بالمال وحكمها وصيغتها:

أ- تعريف الكفالة بالمال: هو أن يضمن الإنسان عن آخر ديناً في ذمته.

ب- حكم الكفالة بالمال: فهي جائزة، وقد ثبت حكمها بالسنة، وقد أجمع عليها أصحاب الصدر الأول وفقهاء الأمصار.

ج- صيغة الكفالة بالمال: فهي أن يقول تكفلت عن فلان بألف، أو تكفلت بما يدركك في هذا البيع، أو أي لفظ يدل على الالتزام.

المبحث الثاني: في شروط الكفالة بالمال:

انظر شروط الكفالة.

المبحث الثالث: فيما يتحمل الكفيل في المال ومن يطالب المكفول له:

1- ذهب أبو حنيفة ومالك والشافعي وكثير من أهل العلم إلى أنه إذا ضمن شخص دين آخر وجب هذا الدين في ذمة الضامن ولا يبرأ المضمون عنه بالضمان.

2- إذا قال الكفيل: تكفلت بما لك عليه، فما الذي يضمنه في ذلك؟

ذكر الحنفية أنه إذا قال ذلك فلا يخلو الأمر من حالتين:

إحداهما: أن يكون هناك بينة على مقدار معين كألف مثلاً، فهنا يقع عليه الضمان بهذا المقدار، لأن الثابت بالبينة كالثابت معاينة، فيتحقق بها ما عليه.

الثانية: أن لا تقام بينة على مقدار الدين، فالقول عند ذلك قول الكفيل مع يمينه في مقدار ما يعترف به، لأنه منكر للزيادة.

وفي هذه الحال لو اعترف المكفول عنه بأكثر من ذلك لم يصدق على كفيله، لأنه إقرار على الغير ولا ولاية له عليه.

إلا أنه يصدق في حق نفسه لولايته عليها.

3- إذا قضى الكفيل الدين هل يرجع به على المكفول؟

لاشك أنه إذا قبض المكفول له حقه من المضمون عنه برئ الضامن من الضمان، لأنه وثيقة بحق، فانحلت بقبض الحق كالرهن.

وإذا قبض المكفول له حقه من الكفيل برئ المضمون عنه من الحق الذي عليه للمكفول له، لأنه استوفى حقه من الوثيقة فبرئ من عليه الدين، كما لو قضى الدين من ثمن الرهن.

بقي السؤال أنه إذا قضى الكفيل الدين فهل يرجع به على المكفول؟

للجواب عن هذا نقول: إنه لا يخلو الأمر من حالتين:

الحالة الأولى أن يكون الضمان بإذن المكفول، والثانية أن يكون بغير إذنه.

آ- فإن كان الضمان والكفالة بإذن المضمون عنه ففي هذه الحالة وجهان :

الوجه الأول: ذهب أبو حنيفة إذا كان القضاء بإذن من المكفول، ففي هذا يرجع الكفيل على المكفول، لأنه أذن له بالضمان والقضاء. واشترط أبو حنيفة في هذا أن يقول: اضمن عني أو أنفذ عني، وأما لو قال: اضمن هذا الدين، أو أنفذ هذا الدين ولم يقل عني لم يرجع عليه، إلا أن يكون بينهما خلطة مثل أن يودع أحدهما الآخر، أو يستقرض أحدهما من الآخر. أو يكون ذا قرابة أو مصاهرة. وقال بعض الحنفية يرجع، لأنه وجد القضاء بناء على الأمر، فلا بدّ من اعتبار الأمر فيه.

الوجه الثاني: ذهب المالكية والشافعية في الأصح والحنابلة إلى إنه إذا كان يضمن عنه بأمره، ويقضي عنه بغير أمره، إلى أنه يرجع عليه، لأنه أذن في سبب الأداء.

ب- وأما إذا كان الضمان بغير إذن من المضمون عنه فلا يخلو الأمر أيضاً من وجهين:

أحدهما: ذهب أبو حنيفة والشافعية إلى أنه إذا كان القضاء بغير إذن من المضمون عنه. فلا يرجع الضامن، لأنه متبرع بأدائه والمتبرع لا يرجع.

وذهب مالك وأحمد في إحدى الروايتين عنه أنه يرجع بما أدى.

ووجه هذا القول أنه قضاء مبرئ من دين واجب، فكان من ضمان من هو عليه، كالحاكم إذا قضاه عنه عند امتناعه.

الثاني: أن يكون الضمان بغير إذنه والقضاء بإذنه.

ذهب الشافعية في الأصح عندهم أنه إذا ضمن بغير إذن وقضى بإذن، لا يرجع على المضمون عنه، لأن وجوب الأداء بسبب الضمان ولم يأذن فيه.

المبحث الخامس: براءة الكفيل وبراءة الأصيل:

آ- براءة الكفيل: إذا أبرأ صاحب الحق الكفيل من الدين فهل يبرأ الأصيل؟

ذهب الحنفية والشافعية والحنابلة إلى أن براءة الكفيل لا تقتضي براءة الأصيل، لأن إبراء الكفيل إسقاط وثيقة من غير قبض، فلم يبرأ به من عليه الدين كفسخ الرهن.

ب- براءة الأصيل : وأما إذا أبرئ الأصيل فقد برئت ذمة الضامن، لأنه تبع، ولأنه وثيقة، فإذا برئ الأصل زالت الوثيقة كالرهن، دون خلاف.

المبحث السادس: فيما يرجع به الكفيل على الأصيل إذا أدى عنه:

ذهب أبو حنيفة إلى أنه إذا أدى الكفيل عن الأصيل ما ضمنه عنه، وكان قد ضمن بأمره، رجع عليه بما أدى عنه، وأما إذا أدى خلافه بأن كان الدين المكفول به جيداً فأدى رديئاً أو بالعكس يرجع بالمال المكفول به لا بما أدى، لأنه ملك الدين بالوفاء، فنزل منزلة الطالب، كما إذا ملكه بالهبة أو بالإرث، بأن مات الطالب والكفيل وارثه، أو وهبه له حال حياته.

- وذهب الشافعية في الأصح عندهم إلى أنه لا يرجع إلا بما عزم لأنه الذي بذله.

قال الخطيب الشربيني أو صالح عن مائة بثوب قيمته خمسون فالأصح أنه لا يرجع إلا بما عزم، لأنه الذي بذله، والثاني يرجع بالصحاح والمائة لحصول براءة الذمة، والنقصان جرى من رب المال مسامحة للضامن".

- وذهب الحنابلة إلى أنه يرجع على المضمون عنه بأقل الأمرين مما قضى أو قدر الدين.

المبحث السابع: في المضمون عنه إذا دفع الدين إلى الكفيل فهل يملك استرجاعه؟

ذهب الحنفية إلى أنه من كفل عن رجل بألف عليه بأمره، فقضى المكفول عنه الألف إلى الكفيل قبل أن يدفعها الكفيل إلى صاحب الحق، فليس له أن يرجع فيها، لأنه تعلق بها حق القابض على احتمال قضائه الدين، فلا تجوز المطالبة ما بقي هذا الاحتمال، وذلك كمن عجل زكاته ودفعها إلى الساعي، لأن الدفع كان لغرض، وهو أن يصير زكاة بعد الحول.

وكمن اشترى شيئاً بشرط الخيار ونقد الثمن قبل مضي مدة الخيار، ثم أراد أن يسترد قبل نقض البيع، فليس له ذلك، لأن الدفع كان لغرض وهو أن يصير ثمناً عند مضي زمن الخيار، فما دام هذا الاحتمال قائماً لا يستردّ، ولأنه ملكه بالقبض لأن المطلوب دفعه إليه على وجه القضاء، وأخذه الكفيل على وجه الاقتضاء، وذلك بأن قال له وقت الدفع: إني لا آمن أن يأخذ الطالب حقه منك فأنا أقضيك المال قبل أن تؤديه، هذا بخلاف ما إذا كان الدفع على وجه الرسالة، بأن قال الأصيل للكفيل: خذ هذا المال وادفعه إلى الطالب، حيث لا يصير المؤدى ملكاً للكفيل، بل هو أمانة في يده ولكن لا يكون للأصيل أن يسترده من يد الكفيل، لأنه تعلق بالمؤدى حق الطالب، وهو بالاسترداد يريد إبطاله، فلا يمكن منه ما لم يقض دينه كالمسألة الأولى.

ولأنه بالكفالة وجب للكفيل على المطلوب حق، كما وجب على الكفيل للطالب، ولهذا لو أخذ الكفيل من الأصيل رهناً به جاز، وكذا لو أبرأ الكفيل الأصيل من هذا الدين أو وهبه له قبل أن يدفع إلى الطالب جاز، حتى لو أدى بعد ذلك لا يرجع عليه، فيثبت بهذا أن للكفيل ديناً على الأصيل، إلا أنه ليس له أن يرجع عليه حتى يؤدي عنه، فصار نظير الدين المؤجل، فإنه بالاستعجال يملك فكذا هذا، ثم بالاسترداد يكون نقضاً لما تم من جهته فلا يمكن.

وذهب الشافعية في ذلك إلى قولين: أحدهما: أنه يملكه، لأن الرجوع عندهم يتعلق لسببين الضمان والغرم، وقد وجد أحدهما، فجاز تقديمه على الآخر، كإخراج الزكاة بعد النصاب وقبل الحول، وإخراج الكفارة قبل الحنث.

والثاني: لا يملك ما قبض، لأنه أخذه بدلاً عما يجب في الثاني فلا يملكه، كما لو دفع شيئاً عن بيع لم يعقد، فعلى هذا يجب ردّه، وإن تلف ضمنه، لأنه قبضه على وجه البدل، فيضمنه كالمقبوض على سوم الشراء.

فائدة: رتب الحنفية على قولهم بالتملك أنه إذا تاجر الكفيل بالمال وربح قبل أن يعطيه إلى الطالب، طاب له الربح، لأنه ملكه بالقبض، فكان الربح بدل ملكه، ولا يتصدق به سواء قضى الدين هو أو الأصيل، لأنه بالكفالة وجب له على الأصيل دين، إلا أنه تؤخر مطالبته حتى يدفع، فنزل منزلة الدين المؤجل فيملكه بالقبض.

إلا أن في هذا الربح نوع خبث إذا قضى الأصيل الدين عند أبي حنيفة وندب ردّه على المضمون عنه لو كان المقبوض مما يتعين، كالحنطة والشعير، وروي عنه أنه يتصدق به.

المبحث الثامن: في ضمان الدين الحالّ إلى أجل وضمان الدين المؤجل حاّلاً:

ذهب الشافعية والحنابلة إلى أنه إذا كان لرجل على غيره دين حاّل فضمنه عنه ضامن إلى أجل معلوم صح الضمان، وكان الدين معجلاً على المضمون عنه، ومؤجلاً على الضامن، لأن الضمان رفق ومعروف فكان على حسب الشرط.

وكذلك الحكم إذا كان الدين مؤجلاً إلى شهر فضمنه الضامن مؤجلاً إلى شهرين.

ودليلهم: ما روى ابن عباس أن رجلاً لزم غريماً له بعشرة دنانير، على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ما عندي شيء أعطيكه، فقال: والله لا أفارقك حتى تقضيني أو تأتيني بحميل، فجره إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: كم تستنظره؟ قال: شهراً، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فأنا أحمل، فجاء في الوقت الذي قال النبي صلى الله عليه وسلم، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: من أين أصبت هذا؟ قال: من معدن قال: لا خير فيها، وقضاها عنه. رواه ابن ماجه في سننه.

ولأنه ضمن مالاً بعقد مؤجلاً فكان مؤجلاً كالبيع.

هذا وقد ذكر ابن قدامة اعتراضاً على هذا القول ثم أجاب عنه، قال رحمه الله "فإن قيل فعندكم الدين الحاّل لا يتأجل، فكيف يتأجل على الضامن، أم كيف يثبت في ذمة الضامن على غير الوصف الذي يتصف به في ذمة المضمون عنه؟

قلنا: الحق يتأجل في ابتداء ثبوته إذا كان بعقد، وهذا ابتداء ثبوته في حق الضامن، فإنه لم يكن ثابتاً عليه حاّلاً، ويجوز أن يخالف ما في ذمة الضامن ما في ذمة المضمون عنه، بدليل ما لو مات المضمون عنهوالدين مؤجل، فإنه يصير حاّلاً بالنسبة إليه.

هذا ومذهب الحنفية في هذه المسألة أن يكون تأجيلاً في حقهما جميعاً لأن التأجيل في نفس العقد يجعل الأجل صفة للدين، والدين واحد، وهو على الأصيل فيصير مؤجلاً عليه ضرورة، بخلاف ما لو كان التأجيل بعد تمام العقد، لأنه التأجيل المتأخر عن العقد يؤخر المطالبة، وقد خصّ به الكفيل، فلا يتعدى إلى الأصيل.

المبحث التاسع: في موت الكفيل أو المكفول عنه والدين مؤجل:

ذهب الحنفية والشافعية والحنابلة في إحدى روايتين، إلى أنه إذا كان الدين مؤجلاً في حق كل من الكفيل والمكفول عنه، ثم مات أحدهما تعجل الدين في حقه، فإن مات الأصيل قبل الأجل حلّ الدين في ماله، وهو على الكفيل إلى أجله، وكذا لو مات الكفيل دون الأصيل يحلّ الدين في مال الكفيل، وهو على الأصيل إلى أجله، لأن المبطل للأجل وجد في حق أحدهما دون الآخر.

ثم إن كان الميت هو الأصيل فللضامن أن يطالب صاحب الدين بأخذ الدين من تركته أو إبرائه هو، لأن التركة قد تهلك فلا يجد مرجعاً إلا الغرم.

وإن كان الميت الضامن، وأخذ صاحب الدين حقه من التركة، لم يكن للوارث الرجوع على المكفول عنه الآذن في الضمان قبل حلول الأجل.

* * *

الفصل الخامس

بعض أحكام تتعلق بالكفالة

المبحث الأول: تعدد الكفلاء:

ذهب الحنفية إلى أنه يجوز أن يضمن الحق عن الرجل الواحد اثنان أو أكثر، سواء أضمن كل واحد منهم جميعه أو جزءاً.

فإذا كان على رجل ألف دينار مثلاً، فكفل عنه رجلان كل واحد منهما بجميعه على الانفراد، ثم كفل كل واحد من الرجلين عن صاحبه بما لزمه بالكفالة، لأن الكفالة عن الكفيل جائزة، كما تجوز عن الأصيل، فما أدى أحدهما رجع بنصفه على صاحبه، ثم يرجعان على الأصيل إن شاء، وإن شاء رجع هو بالكل على الأصيل، لأن ما عليهما مستويان، فلا ترجيح للبعض على البعض، إذا الكل كفالة، فيكون المؤدى شائعاً عنهما، فيرجع بنصفه على شريكه، إذ لا يؤدي إلى الدور، لأن قضيته الاستواء، وقد حصل برجوع أحدهما بنصفه، وليس لصاحبه أن ينقض الاستواء بالرجوع عليه مراعاة لما اقتضاه العقد، إذ الاستواء في السبب يوجب الاستواء في الحكم وهو الغرم.

فإن أبرأ الطالب أحدهما أخذ الآخر بالدين جميعه، لأن إبراء الكفيل لا يوجب براءة الأصيل، فبقي المال كله على الأصيل والآخر كفيل عنه بكله فيأخذه به.

- وذهب الحنابلة في هذه المسألة إلى أنه لا يجوز أن يضمن أحدهما الآخر في المال، لأن المال قد ثبت على كل واحد منهما بضمانه الأصلي.

المبحث الثاني: في الدين يكون على رجلين وكل واحد منهما كفيل عن صاحبه:

ذكر الحنفية إلى أنه إذا كان لرجل دين على اثنين، بأن اشتريا منه شيئاً، بمائة وتكفل كل واحد منهما عن صاحبه، فما أداه أحدهما لم يرجع به على شريكه حتى يزيد ما يؤديه على النصف، فيرجع بالزيادة، لأن كل واحد منهما في النصف أصيل، وفي النصف كفيل، فما يؤديه ينصرف إلى ما عليه أصالة، إذ لا معارضة بين ما عليه بطريق الأصالة وما عليه بطريق الكفالة، لأن الأول دين ومطالبة، والثاني مطالبة فقط، فلا يعارض الأول. وكذا سبب الأول وهو الشراء أقوى من سبب الثاني وهو الكفالة، ولهذا ينفذ الأول من المريض من جميع ماله وإن كان عليه دين، والثاني لا ينفذ إلا من الثلث بشرط أن لا يكون عليه دين، وإن كان عليه دين مستغرق لا ينفذ أصلاً، فكان آكد فلا يعارضه الضعيف.

المبحث الثالث: كفالة اثنين بإحضار واحد، وفي كفالة واحد لاثنين:

1- ذكر الحنابلة أنه إذا تكفل اثنان بواحد صح، فإن سلم المكفول به نفسه برئ كفيلاه، لأنه أتى بما يلزم الكفيلين، وهو إحضار نفسه، فبرئت ذمتهما، كما لو قضى الدين.

وإن أحضره أحد الكفيلين لم يبرأ الآخر، لأن إحدى الوثيقتين انحلت من غير استيفاء، فلم تنحل الأخرى، كما لو أبرأ أحدهما أو انفك أحد الرهنين من غير قضاء الحق.

وفارق ما إذا سلم المكفول به نفسه، لأنه أصل لهما، فإذا برئ الأصل مما تكفل به عنه برئ فرعاه، وكل واحد من الكفيلين ليس بفرع للآخر، فلم يبرأ ببراءته، ولذلك لو أبرئ المكفول به برئ كفيلاه، ولو أبرئ أحد الكفيلين برئ وحده دون صاحبه.

ب- وذكر الحنابلة أيضاً أنه لو تكفل واحد لاثنين فأبرأه أحدهما أو أحضره عند أحدهما لم يبرأ من الآخر، لأن عقد الواحد مع الاثنين بمنزلة العقدين، فقد التزم إحضاره عند كل واحد منهما، فإذا أحضر عند واحد برئ منه، وبقي حق الآخر، كما لو كان في عقدين، وكما لو ضمن ديناً لرجلين فوفى أحدهما حقه.

المبحث الرابع: ضمان الأعيان:

ذهب الشافعية إلى أنه يصح ضمان ردّ كل عين ممن هي في يده مضمونة عليه، كمغصوبة ومستعارة ومستامة ومبيع لم يقبض، ويبرأ الضامن بردّها للمضمون له، ويبرأ بتلفها فلا يلزمه قيمتها، كما لو مات المكفول ببدنه لا يلزم الكفيل الدين.

ولو ضمن قيمة العين إن تلفت لم يصح، لعدم ثبوت القيمة.

قالوا: ومحل ضمان العين إذا أذن فيه واضع اليد، أو كان الضامن قادراً على انتزاعه منه.

وأما إذا لم تكن العين مضمونة على يد من هي بيده كالوديعة والمال في يد الشريك والوكيل والوصي، فلا يصح ضمانها، لأن الواجب فيها التخلية دون الردّ.

ذهب الحنفية في الأعيان غير المضمونة إلى أنه لا يصح ضمانها، كما ذهب إليه الشافعية.

وأما الأعيان المضمونة فقد قسموها إلى قسمين: مضمون بنفسه كالمغصوب والمقبوض بالبيع الفاسد والمقبوض على سوم الشراء، ومضمون بغيره كالمبيع قبل القبض والرهن، فتصح الكفالة بالنوع الأول، لأنه كفالة بمضمون بنفسه، ألا ترى أنه يجب ردّ عينه حال قيامه، وردّ مثله أو قيمته حال هلاكه، فيصير مضموناً على الكفيل على هذا الوجه أيضاً، ولا تصح بالنوع الثاني، لأن المبيع قبل القبض مضمون بالثمن لا بنفسه، ألا ترى أنه إذا هلك في يد البائع لا يجب عليه شيء، ولكن يسقط الثمن عن المشتري، وكذا الرهن غير مضمون بنفسه بل بالدين، ألا ترى أنه إذا هلك لا يجب على المرتهن شيء ولكن يسقط الدين على الراهن بقدره.

أما ضمان تسليم المبيع لا ضمان عين المبيع وضمان تسليم الرهن لا ضمان عين الرهن فجائز عندهم.

فائدة: رتب الحنفية على هذه المسألة مسألة أخرى وهي ما إذا استأجر دابة للحمل عليها، فإن كانت الكفالة في الدابة بعينها لم يصح، وإن كانت الكفالة في الحمل فقط جاز.

ويؤخذ من هذه المسألة أنه يصح ضمان الثمن عن المشتري، لأنه دين كسائر الديون، ولا يصح الضمان عن البائع بالمبيع لما ذكرناه.

الفصل السادس

انتهاء الكفالة

المبحث الأول: انتهاء كفالة النفس:

تنتهي الكفالة بالنفس بواحد من ثلاثة أمور:

أحدها: تسليم النفس إلى المطالب بها.

فائدة: إذا حبس القاضي الكفيل ثم ثبت عنده عجزه بشهادة الشهود أو غيرها، أطلقه وأنظره إلى حال القدرة على إحضاره، لأنه بمنزلة المفلس، لكن لا يحول بين الطالب والكفيل، بل للطالب أن يلازمه، ولا يحول الطالب أيضاً بينه وبين أشغاله، ولا يمنعه من الكسب وغيره.

الثاني: الإبراء وذلك أن يبرئ صاحب الحق الكفيل من الكفالة بالنفس، لأن مقتضى الكفالة ثبوت حق المطالبة بتسليم النفس، فإذا أسقط حق المطالبة بالإبراء فينتهي الحق ضرورة.

الثالث: موت المكفول بنفسه، فإذا مات بطلت الكفالة، لأنه بموته برئ هو بنفسه، وبراءته توجب براءة الكفيل لأنه أصيل والكفيل تبع، فإذا عجز عن تسليم نفسه والحضور بالموت سقط عنه، فكذا عن التبع.

وتنتهي أيضاً بموت الكفيل، لأنه لا يتحقق التسليم منه، وورثته لا يقومون مقامه، لأنهم يخلفونه فيما له لا فيما عليه، وماله لا يصلح لإيفاء هذا الحق، وهو إحضار المكفول به، بخلاف الكفيل بالمال إذا مات، لأن ماله صالح لذلك، وحكمه بعد موته ممكن فيوفى من ماله، ثم يرجع الورثة على المكفول له إن كانت الكفالة بأمره، وإلا فلا شيء لهم، كما إذا أدّى هو بنفسه حال حياته.

وإذا مات الطالب -المكفول له- فلا تسقط الكفالة، ويخلف الطالب وصيه أو وارثه، فلا يبطل حقه، إذ هم قائمون مقامه في استيفائه.

المبحث الثاني: في انتهاء كفالة المال:

إذا كانت الكفالة بالمال تنتهي بأحد أمرين:

أحدهما: أداء المال إلى الدائن أو ما هو في معنى الأداء، سواء أكان الأداء من الكفيل أو من الأصيل، لأن حق المطالبة وسيلة إلى الأداء، فإذا وجد الأداء فقد حصل المقصود، فينتهي حكم العقد. وما هو بمعنى الأداء الهبة، فإذا وهب الطالب المال من الكفيل أو من الأصيل انتهت الكفالة، لأن الهبة بمعنى الأداء.

وكذا إذا تصدق به على الكفيل أو على الأصيل، لأن الصدقة تمليك كالهبة، فكان هو وأداء المال سواء كالهبة.

ومثل ذلك أيضاً ما إذا مات صاحب الحق وورثه الكفيل أو الأصيل، لأن بالميراث يملك ما في ذمته، فإن كان الوارث هو الكفيل فقد ملك ما في ذمته فيبرأ، ويرجع على الأصيل بالدين، كما لو ملك بالأداء، وإن كان الوارث هو المكفول عنه برئ الكفيل، لأنه سقط الدين فكأنه وفاه.

ثانيهما: الإبراء وما هو في معناه، فإذا أبرأ الأصيل يبرأ الكفيل، لأن الدين على الأصيل لا على الكفيل، إنما عليه حق المطالبة، فكان إبراء الأصيل إسقاط الدين عن ذمته، فإذا سقط الدين عن ذمته يسقط حق المطالبة ضرورة، لأن المطالبة بالدين ولا دين بحال.

وأما إبراء الكفيل فإبراؤه عن المطالبة لا عن الدين، إذ لا دين عليه وليس من ضرورة إسقاط حق المطالبة عن الكفيل سقوط أصل الدين عن الأصيل، لكن يخرج عن الكفالة، لأن حكم الكفالة حق المطالبة عن الكفيل، فإذا سقط تنتهي، وقد مرّ هذا البحث في موضعه.

* * *

Free Web Hosting