الفَصْلُ الثَّالِث في تقسيمات الطلاق

المبحث الأول

تقسيمه إلى منجز ومعلق ومضاف:

ينقسم الطلاق باعتبار تقييد الصيغة وإطلاقها إلى منجز ومضاف ومعلق .

فالمنجز: هو الذي صدرت صيغته مطلقة غير معلقة على حصول أمر آخر ولا مضافة إلى زمن مستقبل مثل أن يقول لها: أنت طالق أو طلقتك.

حكم المنجز : وقوع الطلاق به بمجرد صدوره، لأن الشارع وضعه ليفيد أثره عقب صدوره ممن هو أهل لإيقاع الطلاق على امرأة هي محل لوقوعه بأن تكون زوجة حقيقة أو حكماً.

والمضاف: هو الذي صدرت صيغته مقيدة بوقت مستقبل قصد المطلق وقوع الطلاق فيه. بأن ربط حصوله بذلك الزمن بغير أداة من أدوات الشرط، كأن يقول الزوج لزوجته أنت طالق أول العام القادم أو أنت طالق غداً.

حكم المضاف : وقوع الطلاق به عند مجيء ذلك الوقت المضاف إليه لا قبله إذا كان الرجل أهلاً للطلاق عند صدور الصيغة منه، والمرأة محلاً لوقوع الطلاق عليها عند حلول ذلك الوقت، فلو قال أنت طالق في أول العام القادم ثم طلقها منجزاً فإذا جاء الزمن المضاف إليه وهي في العدة وقع عليها الطلاق المضاف فإذا كانت عدتها قد انتهت لا يقع عليه شيء.

وكذلك إذا أضاف الطلاق وهو أهل للطلاق ثم جاء الوقت المضاف إليه وهو مجنون وقع الطلاق لأن العبرة بأهليته عند التلفظ بالطلاق.

والمعلق: هو ما ربط فيه حصول الطلاق بأمر سيحصل في المستقبل بأن رتب وقوعه على حصول ذلك الأمر بأداة من أدوات الشرط أو ما في معناها، كإن وإذا وكلما ومتى ونحوها. كأن يقول لامرأته: إن سافرت في هذا اليوم فأنت طالق، أو متى حضر فلان لزيارتنا فأنت طالق، وكلما خرجت بدون إذني فأنت طالق.

والتعليق نوعان: تعليق لفظاً ومعنى، وتعليق معنى فقط:

فالأول: وهو ما ربط فيه وقوع الطلاق بحصول أمر في المستقبل بأداة من أدوات الشرط سواء كان الأمر المعلق عليه اختيارياً يمكن فعله أو الامتناع عنه أو غير اختياري.

والاختياري قد يكون من أفعال الزوجة نحو: إن خرجت بدون إذني أو كلمت فلاناً فأنت طالق، وقد يكون من أفعال الزوج نحو: إن لم أسافر اليوم فأنت طالق، وقد يكون من فعل غيرهما. نحو إن لم يسافر أخوك اليوم فأنت طالق.

وغير الاختياري نحو: إن أمطرت السماء فأنت طالق، أو إن ولدت أنثى فأنت طالق، فإن كان المعلق عليه من فعل أحد الزوجين سمي تعليقاً ويسمى يميناً أيضاً لأنه يفيد ما يفيده اليمين من الحمل أو الامتناع عنه، وإن كان المعلق عليه من فعل غيرهما أو كان أمراً غير اختياري فهو تعليق بالاتفاق، ولكنهم اختلفوا في تسميته يميناً. فمن الفقهاء من يسميه يميناً لوجود الصورة وهي الشرط والجزاء، ومنهم من لا يسميه يميناً لأنه لا يفيد ما يفيده اليمين وهو الأشبه بالفقه.

والثاني: وهو التعليق في المعنى فقط وهو ما يفهم منه التعليق بدون ذكر أداة من أدواته نحو قول الزوج: عليّ الطلاق أو يلزمني الطلاق لا أفعل كذا، فإنه في معنى. إن فعلت كذا فزوجتي طالق، وكقوله: علي الطلاق لأسافرن اليوم فإنه في معنى إن لم أسافر اليوم فامرأتي طالق، فإذا لم يتحقق السفر في هذا اليوم وقع الطلاق، وهذا الذي يسمى بالحلف بالطلاق أو اليمين بالطلاق.

حكم التعليق : والتعليق بنوعيه يقع به الطلاق إن وقع المعلق عليه عند الحنفية بعد أن تتحقق شروط صحته بأن يكون المعلق عليه معد وما ممكن الحصول، فإن كان معدوماً مستحيل الوجود كان لغواً، كما إذا قال لها: إن جاء أبوك يجر أكفانه فأنت طالق، أو إن شربت ماء هذا البحر كله فأنت طالق.

وكذلك لو علقه على مشيئة الله تعالى، كأن يقول لها: أنت طالق إن شاء الله، لأن المعلق عليه أمر لا طريق إلى التحقق من وجوده فكان لذلك كالتعليق على المستحيل.

وأن يحصل المعلق عليه والمرأة محل للطلاق كأن تكون زوجة حقيقة أو حكماً وقد وافق الحنفية في ذلك جمهور الفقهاء.

المبحث الثاني

تقسيمه إلى الرجعي والبائن:

ينقسم الطلاق باعتبار إمكان الرجعة بعده من غير عقد جديد وعدم إمكانها إلى رجعي وبائن:

فالرجعي : هو الذي يملك الزوج بعد إيقاعه إعادة مطلقته في عدتها إلى الزوجية من غير حاجة إلى عقد جديد رضيت بذلك الزوجة أو لا.

والبائن : هو الذي لا يملك بعده الزوج إعادة الزوجية بالرجعة. وهو نوعان :

1- بائن بينونة صغرى. وهو الذي يستطيع إعادة المطلقة بعده بعقد جديد سواء كان ذلك في العدة أو بعدها.

2- بائن بينونة كبرى. وهو الذي لا يستطيع إعادتها إلا بعد تزوجها بزوج آخر ويدخل بها وينتهي زواجه بطلاق أو بموت.

ما يقع به كل من الرجعي والبائن:

مذهب الحنفية بكل لفظ صريح بعد الدخول الحقيقي إذا كان مجرداً عن وصفه بما يفيد البينونة كوصف الشدة أو القوة أو الطويلة أو البينونة أو تملكين بها نفسك ولم يكن على مال أو مكملاً للثلاث.

وكذلك كل لفظ من ألفاظ التي لا تفيد فصل الزوجية، كاعتدي واستبرئي رحمك وأنت واحدة إذا نوى بها الطلاق.

ويقع البائن بما سوى ذلك في الحالات الآتية:

1- إذا كان قبل الدخول بأي لفظ ولو بعد الخلوة الصحيحة وإن وجبت عليها العدة لأنها وجبت للاحتياط للمراجعة.

2- إذا كان بلفظ صريح موصوف بما يفيد البينونة كأنت طالق طلقة قوية أو شديدة أو بائنة أو تملكين بها نفسك أو أشد الطلاق أو مثل الجبل.

3- إذا كان في مقابلة عوض عن المرأة، لأنها لم تدفع العوض إلا لتخلص لها نفسها.

4- إذا كان مكملاً للثلاث سواء كان مفرقاً أو مجموعاً بتكراره في مجلس واحد أو مقترناً بالعدد لفظاً إو إشارة.

5- إذا كان بلفظ من ألفاظ الكناية التي تفيد الشدة أو القوة، كانت: بائن أو خلية أو برية أو بتة أو إلحقي بأهلك إذا نوى بها الطلاق.

وبهذا لا يكون مناط الرجعية أو البينونة كون اللفظ صريحاً أو كناية، لأن من الصريح ما يكون رجعياً وما يكون بائناً، وكذلك الكناية.

أحكام الطلاق الرجعي والبائن:

إذا كان عقد الزواج يترتب عليه جملة من الآثار. منها ملك الزوج الاستمتاع بزوجته، وثبوت التوارث بين الزوجين، وأن الزوج يملك تطليق زوجته ثلاث تطليقات فتبقى الزوجة حلالاً لزوجها مالم يستنفذ الطلقات الثلاث يجوز له أن يعقد عليها بعد طلاقها الأول والثاني.

فما أثر الطلاق في تلك الآثار ؟

لا شك أن تلك الآثار تتأثر بالطلاق غير أن الأثر يختلف باختلاف نوع الطلاق.

فالطلاق الرجعي لا يوثر في الرابطة الزوجية ما دامت العدة موجودة، فملك الاستمتاع باق للزوج فله معاشرتها معاشرة الأزواج ويكون ذلك رجعة له عند الحنفية، وإذا مات أحدهما ورثه الآخر ولا يحل مؤخر الصداق، لأن الزواج لم ينته بعد، فإذا انتهت العدة انتهى ملك الاستمتاع وحل مؤخر الصداق وانتهى سبب التوارث، لكن حل هذه المرأة باق يجوز لمطلقها أن يعقد عليها في أي وقت ما لم تتزوج غيره. غير أن الرجل يصبح بعدها لا يملك تطليقها إلا مرتين فقط بعد أن كان يملك ثلاثاً، وعلى ذلك لا يكون للطلاق الرجعي أثر إلا نقصان عدد الطلقات التي يملكها الزوج، وتحديد أمد الزوجية بمدة العدة بعد أن كانت دائمة غير محدودة، فإذا ما انتهت العدة بانت منه المرأة وانتهى ملكه ولا يجوز له قربانها إلا بعد عقد جديد، وهذا معنى قول الفقهاء : إن الطلاق الرجعي لا يزيل الملك ولا الحل ما دامت العدة قائمة.

أما الطلاق البائن بينونة صغرى فيظهر أثره في الأمور الآتية :

1- أنه يزيل ملك الاستمتاع. فلا يحل له منها شيء إلا إذا أعادها بعقد جديد، ومن هنا لا يزيل حل المرأة حيث لم يوجد سبب يحرمها عليه، فيجوز له العقد عليها في أي وقت في العدة أو بعدها، وهذا معنى قول الفقهاء : إن الطلاق البائن بينونة صغرى يزيل الملك لا الحل.

2- يحل به مؤخر الصداق المؤجل.

3- يمنع التوارث إذا مات أحدهما في أثناء العدة لانتهاء سبب الإرث وهو الزوجية إلا إذا كان الطلاق في مرض موت الزوج بقصد الفرار من ميراثها فإنها ترثه إذا مات قبل انقضائها.

4- ينقص به عدد الطلقات.

أما البائن بينونة كبرى فإنه يقطع الزوجية ولا يبقى لها أثر بعده إلا العدة وأحكامها، فيحل مؤخر الصداق ويمنع التوارث إلا إذا كان الطلاق بقصد الفرار من الميراث، وتحرم على المطلق تحريماً مؤقتاً فلا يحل له أن يعقد عليها إلا بعد أن تتزوج زوجاً آخر ويدخل بها ثم تنتهي هذه الزوجية بالموت أو الطلاق، وهذا معنى قولهم: إن البائن بينونة كبرى يزيل الأمرين الملك والحل معاً بمجرد وقوعه لكنه زوال مؤقت.

المبحث الثالث

الرجعة:

تعريف الرجعة : هي استدامة الزوجية القائمة بالقول أو بالفعل أثناء العدة. وإنما كانت الرجعة استدامة للزوجية، لأن الطلاق الرجعي لا يؤثر في عقد الزواج إلا بتحديده بمدة العدة، فإذا راجع الزوج زوجته فقد ألغى عمل الطلاق في هذا التحديد واستدام الزواج بعد أن كان على وشك الانتهاء.

من له حق الرجعة من الزوجين:

الرجعة حق أثبته الشارع للزوج وحده في فترة العدة إن شاء استعمله رضيت الزوجة أو لم ترض وإن شاء تركه، لقوله تعالى: { وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلاحًا } [البقرة: 228] بعد أمر النساء بالتربص مدة العدة، فقد جعل أزواج المطلقات أحق برجعتهن في مدة العدة إذا رأوا في الرجعة مصلحة، فإذا لم يجد الزوج فيها مصلحة تركها بلا مراجعة حتى تنتهي عدتها فتبين منه.

وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمر في قصة طلاق ابنه عبد الله لزوجته وهي حائض: "مره فليراجعها"، وإذا ثبت هذا الحق للزوج لا يملك إسقاطه بالقول أو التنازل عنه. كأن يقول بعد طلاقها: أسقطت حقي في الرجعة أو لا رجعة لي عليك، فإن فعل ذلك لا يسقط حقه وله مراجعتها بعد ذلك، لأن الشارع جعل الرجعة حكماً من أحكام الطلاق الرجعي وأثراً من آثاره بترتيبها عليه في قوله تعالى: { الطَّلاقُ مَرَّتَانِ فَإمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ } [البقرة: 229] فلو أسقطه المطلق كان مغيراً لما شرعه الله، ولا يملك أحد ذلك التغيير.

ما تتحقق به الرجعة:

تتحقق الرجعة بأحد أمرين، بالقول وما يقوم مقامه من الكتابة أو الإشارة، وبالفعل. أما الرجعة بالقول فتكون بالألفاظ الصريحة، وهي التي لا تحتمل غير الرجعة، نحو راجعت زوجتي أو أمسكتها أو رددتها إلى عصمتي، أو يقول مخاطباً لها راجعتك أو أمسكتك أو رددتك.

وهذه الألفاظ لا تحتاج إلى النية لصراحتها، وتتحقق الرجعة بهذه الألفاظ باتفاق الفقهاء :

ذهب الحنفية : إلى أنها تكون بلفظ من ألفاظ الكناية وهي التي تحتمل الرجعة وغيرها. كقوله لها: أنت امرأتي، أو أنت عندي كما كنت إذا نوى بها الرجعة أو دل الحال على إرادتها، لأن اللفظ الأول يحتمل أنها بمنزلة امرأته في الإكرام والمعزة، والثاني يحتمل الرجعة وأنها كما كانت قبل الطلاق في رعايته لها وعنايته بها.

ويقوم مقام اللفظ في تحقيق الرجعة الكتابة على الصورة التي بيناها في الطلاق وكذلك الإشارة من العاجز عن النطق كالأخرس.

وأما الرجعة بالفعل فتكون بكل فعل يوجب حرمة المصاهرة من المخالطة الجنسية ومقدماتها من اللمس والتقبيل بشهوة عند الحنفية لأن ذلك يدل على رغبته في بقاء الزوجية.

وزاد الحنفية الفعل من جانبها، فقالوا: إذا قبلته أو لمسته بشهوة وهو يعلم ولم يمنعها كان ذلك رجعة من غير خلاف بين أئمة المذهب .

أما إذ فعلت ذلك بدون علمه كأن فعلته وهو نائم أو خلسة فأبو حنيفة يعتبر ذلك رجعة، لأن فعل ذلك يوجب حرمة المصاهرة لا فرق بين الرجل والمرأة فتكون رجعة حيث لا فارق.

شروط صحة الرجعة:

لا تصح الرجعة إلا إذا توفر فيها الشروط الآتية:

1- أن تكون بعد طلاق رجعي في أثناء العدة، فإن كان الطلاق بائناً لا تصح، لأن البائن يزيل الملك فتملك نفسها. فلا يملك المطلق إعادتها إلا بعقد رضائي منهما، وإن كان رجعياً وانتهت العدة فلا تصح أيضاً لأن العدة إذا انتهت زالت رجعية الطلاق وأصبح بائناً فيقفل باب الرجعة.

2- أن تكون الرجعة منجزة غير معلقة ولا مضافة إلى زمن مستقبل لأنها استدمة النكاح فتكون شبيهة به، وكما لا يصح التعليق والإضافة في إنشائه لا يصح في استدامته، فلو قال لها: إن لم أتزوج في هذا الشهر فقد راجعتك، أو إن حضر أبوك فقد راجعتك لا تصح الرجعة، وكذلك لو قال لها: راجعتك في أول الشهر القادم.

3- يشترط الحنفية في الرجعة بالقول أن يكون المراجع أهلا لمباشرة عقد الزواج، فلا تصح من المجنون أو النائم أو المغمى عليه، وكذا السكران على التفضيل السابق عندهم، وتصح مع الإكراه أو الهزل، أما الرجعة بالفعل فلا يشترط فيها ذلك، فلو طلقها ثم جن أو أصابه عته أو سكر ثم فعل بها فعلا يوجب حرمة المصاهرة كان ذلك رجعة.

ولا يشترط في صحة الرجعة الإشهاد عليها عند جمهور الفقهاء منهم الحنفية، فتصح وإن لم يشهد عليها أحداً، لكنه يستحب الإشهاد لئلا تكون عرضة للإنكار من جانب الزوجة بعد انقضاء عدتها ولا يستطيع إثباتها، ودفعاً للتهمة عنه فيما إذا علم الناس بطلاقها ثم راجعها بدون إشهاد فإنه يكون عرضة للاتهام بأنه يعاشرها بغير زواج.

كما لا يشترط إعلام الزوجة بها وإن كان يندب إعلامها حتى لا تقع في محظور بأن تتزوج غيره بعد انتهاء عدتها أو يقع بينهما النزاع فيها بعدها.

المبحث الرابع

زواج التحليل:

قدمنا أن الطلاق البائن بينونة كبرى تحرم به المرأة على مطلقها تحريماً مؤقتاً حتى تتزوج زوجاً آخر ويدخل بها دخولاً حقيقياً لأن القرآن جعل زواجها بغيره غاية التحريم { فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجاً غيره } وجاءت السنة وبينت المراد من النكاح، وهو أنه ليس مجرد العقد، بل العقد الذي يتبعه دخول حقيقي فيما رواه البخاري وغيره عن عائشة رضي الله عنها قالت: جاءت امرأة رفاعة القرظي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: كنت عند رفاعة القرظي فأبت طلاقي فتزوجت بعده بعبد الرحمن بن الزبير وإنما معه مثل هدبة الثوب، فتبسم رسول الله وقال: "أتريدين أن ترجعي إلى رفاعة لا حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك"، ولأن ربط حلها بزواجها غيره قصد به الزجر عن الطلاق والتأني فيه، ولا يتحقق الزجر بمجرد العقد لأن النفس تقبله ولا تأنف منه، فكان لابد من الدخول الحقيقي.

وإذا كان الشارع شرط في الحل النكاح فلا يكون إلا النكاح الصحيح، فإذا كان العقد فاسداً لا تحل به ولو كان بعده دخول، وكذلك إذا كان صحيحاً ولم يكن معه دخول حتى ولو كان معه خلوة صحيحة.

والأصل في الزواج الصحيح أن يكون قائماً على الرغبة من الجانبين للعيش الدائم وتكوين الأسرة فلو قيد بوقت معين كان فاسداً.

ولكن الناس فهموا هذا الأمر على غير حقيقته. فظنوا أن زواج الزوج الثاني ليس مقصوداً لذاته، وإنما قصد به تحليل المرأة لزوجها الأول فكان ما يحدث كثيراً أن يقع هذا الزواج بقصد التحليل إما بمجرد النية والقصد عند العقد من غير أن يصدر منهما كلام يدل على ذلك القصد، وإما مع اشتراط أثناء العقد أو قبله. كأن يقول لها: تزوجتك على أن أحلك لمطلقك مما جعل الفقهاء يبحثون في هذا العقد من جهة صحته وأنه يحقق التحليل أو لا، وإليك إجمال آراء الفقهاء فيه:

ذهب المالكية والحنابلة إلى أن زواج التحليل فاسد لا فرق بين ما اشترط فيه التحليل في العقد أو قبله أو بعده وبين ما نوى فيه فقط بدون اشتراط، لما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ألا أخبركم بالتيس المستعار؟ قالوا بلى يا رسول الله، قال: "هو المحلل لعن الله المحلل والمحلل له"، فهذا يدل على أن عقد التحليل غير صحيح على أي وجه وقع لعدم التفصيل.

وهذا ما فهمه أصحاب رسول الله. فقد روى عن عمر أنه كان يقول: "لا أوتي بمحلل ولا بمحللة إلا رجمتهما بالحجارة" والرجم بالحجارة لا يكون إلا على الزنا.

وروى نافع عن ابن عمر أن رجلاً قال له: امرأة تزوجتها أحلها لزوجها لم يأمرني ولم تعلم قال: إلا نكاح رغبة إن أعجبتك أمسكتها وإن كرهتها فارقتها كنا نعد هذا سفاحاً على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ولأن زواج التحليل زواج مؤقت، وهو غير صحيح لأنه لا يحقق الأغراض التي من أجلها شرع الزواج.

وذهب الحنفية والشافعية إلى تفصيل في المسألة بين ما إذا كان التحليل مجرد نية لم يوجد ما يدل عليها أثناء العقد وبين ما إذا كان مشروطاً فيه.

فإن كان منوياً فقط صح العقد وأفاد الحل إذا تم على الوجه المرسوم شرعاً لعدم وجود ما يؤثر في العقد بالفساد.

أما إذا شرط فيه فذهب الشافعية إلى فساد العقد لوجود الشرط الفاسد الذي يقتضي فساد العقد.

وذهب أبو حنيفة إلى أن هذا الزواج صحيح، لأن هذا شرط فاسد، والزواج لا يفسد بالشروط الفاسدة، فيلغو الشرط وحده ويبقى العقد صحيحاً، ولكنه يكون مكروهاً لحديث "لعن الله المحلل والمحلل له".

وإذا كان العقد صحيحاً فللزوج الثاني البقاء مع زوجته لا يستطيع أحد جبره على مفارقتها، فإذا فارقها باختياره أو مات عنها وانتهت عدتها حلت للأول بهذا الزواج.

المبحث الخامس

طلاق المريض مرض الموت:

الطلاق حق للزوج يوقعه في أي وقت إذا وجد ما يقتضيه صحيحاً كان أو مريضاً ما دامت أهليته للتصرف موجودة، فإنه لا حجر عليه في ذلك.

فإن طلقها طلاقاً رجعياً ومات وهي في العدة ورثته بلا خلاف لقيام الزوجية حكماً وهي سبب للإرث يستوي في ذلك الطلاق في الصحة أو المرض.

وإذا طلقها طلاقاً بائناً بينونة صغرى أو كبرى انقطعت الزوجية فلا ميراث لها مات في العدة أو بعدها إذا كان الطلاق في حالة الصحة أو المرض العادي الذي لا يسلم إلى الموت.

أما إذا كان الطلاق في مرض الموت فأكثر الفقهاء على أنها ترثه لأنه يعتبر فاراً من ميراثها في هذه الحالة فيعامل بنقيض مقصوده، وليس في ذلك كتاب ولا سنة، وإنما كان من مواضع اجتهادات الصحابة رضوان الله عليهم.

تعريف مرض الموت : إن المرض الذي يغلب فيه الهلاك عادة ويتصل به الموت سواء أكان بسببه أم كان بسبب آخر.

واختلف الفقهاء في أماراته : فمن قائل: هو الذي يعجز صاحبه عن العمل، ومن قائل: هو الذي يلزم صاحبه الفراش، أو الذي لا يستطيع صاحبة المشي إلا بمعين غير ذلك، والمرجع في بيان ذلك الآن إلى رأي الأطباء بعد تقدم الطلب ووضوح التمييز بين الأمراض وأيها يقبل الشفاء وأيهما لا يقبلها.

وقد ألحق فقهاء الحنفية بالمريض مرض الموت في أحكامه كل من كان صحيحاً في حالة يغلب فيها الهلاك عادة كالمحكوم عليه بالإعدام ولا أمل في براءته وحجز لتنفيذ الحكم عليه إذا طلق زوجته بائناً وتوفي قبل تنفيذ الحكم عليه أو بعده قبل انتهاء عدة زوجته، ومن كان في معركة حربية ووقف في الصف الأول للقتال أو في موضع الخطر، أو كان في سفينة اجتاحها الأمواج من كل جانب، أو كان في بلد عمه الوباء القاتل إذا توفى في هذه الحالة.

يقول الحنفية : إن المريض مرض الموت ومن في حكمه إذا طلق زوجته طلاقاً بائناً ومات قبل أن تنتهي عدتها ورثته، لأنه يعتبر فاراً من ميراثها فيعامل بنقيض مقصوده كالقاتل لمورثه الذي حرمه الشارع من ميراثه، أما إذا توفيت هي في العدة فلا ميراث له منها لأنه فوت على نفسه الميراث بهذا الطلاق لكنهم اشترطوا لاعتباره فاراً فراراً موجباً للإرث شروطاً إذا تحققت ثبت لها الإرث، وإذا تخلفت كلها أو بعضها لم يكن فاراً فلا ميراث لها.

1- أن يكون الطلاق البائن بعد الدخول، فلو كان قبله فلا عدة عليها، وكذلك إذا طلقها بعد الخلوة الصحيحة فإنه وإن وجبت به العدة لكن وجوبها للاحتياط محافظة على الأنساب، والميراث حق مالي لا يثبت احتياطاً.

2- أن تكون الزوجة أهلاً للميراث من زوجها وقت طلاقها وتظل على ذلك إلى وفاته، فلو لو تكن أهلاً للميراث وقت الطلاق، كأن كانت كتابية ثم أسلمت في عدتها قبل موته فلا إرث حيث لا فرار، أو كانت أهلاً للميراث عند الطلاق ثم زالت تلك الأهلية. كأن كانت مسلمة عند الطلاق ثم ارتدت عن الإسلام فلا ميراث أيضاً وإن رجعت إليه قبل وفاته، لأنها بردتها أسقطت حقها في الميراث فلا يعود بإسلامها بعد ذلك، لأن الساقط لا يعود.

3- ألا تكون الزوجة راضية بهذا الطلاق، فلو تحقق رضاها بأن كانت هي التي سألته الطلاق أو افتدت نفسها منه بالمال لا ترث، لأن رضاءها بالفرقة ينفي مظنة فراره من ميراثها.

ولو أكرهت على طلب الطلاق فأبانها أو طلبت منه طلاقاً رجعياً فأبانها كان فاراً ولها الميراث ومثل ذلك لو قالت له: طلقني فأبانها لأنها طلبت مطلق الطلاق الذي ينصرف إلى الرجعي فهي لم ترض بالبائن.

4- ألا يكون الزوج مكرهاً على هذا الطلاق، لأنه مع الإكراه لا يتحقق رضاه به فلا يكون فاراً.

5- أن يموت في مرضه الذي أوقع الطلاق فيه وهي في العدة، فإذا انقضت عدتها قبل وفاته فلا ميراث لها لانعام سببه.

وكما يتحقق الفرار من الميراث من الزوج يتحقق أيضاً من المرأة، وحينئذ تعامل بنقيض مقصودها ويرثها الزوج إذا مات قبل انتهاء عدتها، كما إذا فسخ الزواج بسبب من جهتها وهي مريضة مرض الموت أو في حكم المريضة، بأن فعلت مع أحد أصوله أو فروعه ما يوجب حرمة المصاهرة أو كان الزوج فوض إليها الطلاق فأبانت نفسها في مرض موتها. لكنها لا ترثه إذا مات في عدتها لأنها فوتت على نفسها حق الميراث بقطع وصلة النكاح.

Free Web Hosting