الفَصْلُ الثَّالِث الظهار:

- الظهار لغةً مصدر ظاهر مأخوذ من الظهر. وهو قول الرجل لامرأته : أنت عليّ كظهر أمي.

وفي اصطلاح الفقهاء : تشبيه الرجل زوجته بامرأة محرمة عليه على التأبيد أو بجزء منها لا يحل له النظر إليه كالظهر والبطن والفخذ. كأن يقول لها : أنت عليّ كظهر أمي، أو كبطن أختي أو عمتي أو خالتي. يستوي في ذلك أن تكون المشبهة بها محرمة عليه بسبب النسب أو الرضاع أو المصاهرة كأن يقول لها: أنت علي كظهر امرأة أبي أو زوجة ابني وغيرها.

- ألفاظه: تتنوع ألفاظ الظهار إلى نوعين صريح وكناية.

فالصريح : ما لا يحتمل إلا الظهار، نحو أنت علي كظهر أمي أو كبطن عمتي وما شاكل ذلك، ويقع به الظهار سواء نوى به الظهار أو الطلاق أو الإيلاء أو ادعى أنه لم ينو به شيئاً.

والكناية: ما يحتمل الظهار وغيره كقوله: أنت علي كأمي، فإنه يحتمل المماثلة في التحريم أو الماثلة في الكرامة، فإذا نوى أيهما صدق فيما ادعاه منهما، فإن قال: نويت الظهار كان ظهاراً، وإن قال: أردت الطلاق فهو طلاق بائن لأنه تشبيه في الحرمة.

وإن لم ينو به شيئاً فليس بشيء عند الحنفية لاحتمال إرادة الكرامة.

شروطه: يشترط لصحة الظهار ليترتب عليه حكمه عند الحنفية .

أولاً: يشترط في الرجل، أن يكون زوجاً بالغاً عاقلاً مسلماً، أي من أهل الكفارة فلا يصح ظهار من الصبي والمجنون والذمي.

ثانياً: يشترط في المرأة المظاهر منها: أن تكون زوجة في زواج صحيح نافذ قائم حقيقة أو حكماً. فيصح الظهار من المعتدة من طلاق رجعي، ولا يصح من المعتدة من طلاق بائن ولا من كان زواجها فاسداً أو صحيحاً موقوفاً، لأن كلاً منهما حرام عليه بالفعل فلا يكون للظهار منهما معنى.

ثالثاً: يشترط في المرأة المشبه بها: أن تكون محرمة عليه تحريماً مؤبداً بالإتفاق، فلو كانت محرمة عليه مؤقتاً، كأخت زوجته أو عمتها، أو كانت محرمة عليه مؤبداً عند بعض الفقهاء دون الآخرين كأم المرأة التي زنى بها أو بنته من الزنى لم يكن التشبيه ظهاراً على الراجح عند الحنفية.

والمذاهب الأخرى تخالف في ذلك:

فالحنابلة ، لا تشترط التأبيد فلو شبهها بمحرمة عليه مؤقتاً كان ظهاراً.

والشافعية يقيدوه بألا يكون تحريمها طارئاً على المشبه كأم زوجته وزوجة ابنه فإن كان لم يكن ظهاراً.

حكم الظهار: كان العرب في جاهليتهم يظاهرون من نسائهم ويقصدون بذلك تحريم المرأة تحريماً مؤبداً، وما كانت المرأة تخلص من زوجها لتباح لغيره، بل كانت تصير بهذا الظهار كالمعلقة لا هي بذات زوج تستمتع بالحياة الزوجية ولا هي مطلقة تبحث لها عن زوج آخر.

فكان الظهار لوناً من ألوان الإيذاء الذي يلحقه الرجل بالمرأة، فلما جاء الاسلام لم يعرض له أول الأمر حتى ظاهر أوس بن الصامت بعد أن كبرت سنه وضاق خلقه - من زوجته خولة بنت مالك بن ثعلبة بسبب مراجعتها له في بعض ما أمرها به، ولما هدأت نفسه راودها عن نفسها فأبت عليه ذلك حتى يقضي الله ورسوله فيما وقع بينهما، وذهبت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبرته بما حدث من زوجها بعد أن كبرت سنه ووجود أولاد بينهما لا يستقر لهم قرار مع أحدهما، وكان رسول الله يقول لها: اتقي الله فإنه زوجك وابن عمك وقد كبر فأحسني إليه، فأخذت تجادله وتشكو إلى الله حالها وما صارت إليه فنزل عليه الوحي بآيات من أول سورة المجادلة وهي قوله تعالى: { قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ * الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلا اللائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنْ الْقَوْلِ وَزُورًا وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ * وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ * فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا ذَلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ } [المجادلة: 1-4].

فلما نزلت هذه الآيات قال لها الرسول: مُرِيْهِ فليعتق رقبة. فقالت لا يجد ذلك يا رسول الله، ثم قال مريه أن يصوم شهرين متتابعين، فقلت هو شيخ كبير لا يطيق الصوم، فقال: مريه ليطعم ستين مسكيناً، فقلت ما عنده شيء يا رسول الله، فقال: إنا سنعينه بعرق، فقلت وأنا أعينه بعرق أيضاً، فقال: اذهبي فأطعمي ستين مسكيناً وارجعي إلى ابن عمك" رواه أبو داود والعرق: ستون صاعاً من التمر.

وبهذا أبطل الإسلام ظهار الجاهلية وألغى أثره من التحريم المؤبد، فلم يجعله طلاقاً واعتبره منكراً من القول لأنه عبث بالحياة الزوجية وظلم للمرأة، وزور لأنه كذب. لهذا عاقبه على ذلك بحرمانه من الاستمتاع بها حتى يكفر عما ارتكبه من خطأ بعتق رقبة، فإن لم يجد فبصيام شهرين متتابعين، فإن لم يستطع فبإطعام ستين مسكيناً.

وقد اختلف الفقهاء في سبب وجوب الكفارة التي عبر عنها القرآن بقوله: { ثم يعودون لما قالوا }.

ذهب الحنفية إلى أنه العزم على مقاربتها ورجوعه عن الظهار. وتكون اللام بمعنى من أوفي وذلك لأن مقتضى الظهار تحريم قربان المرأة، فإذا عزم على قربانها يكون منه رجوعاً عما صدر منه من ظهار، فإذا رفع هذا التحريم وجب عليه التكفير.

ذهب المالكية إلى ما ذهب إليه الحنفية في قول، وفي قول آخر بأنه العزم على الوطء مع إرادة إمساك العصمة.

وذهب الشافعية إلى أنه إمساكها بعد ظهاره زمن إمكانه فرقة، لأن العود للقول مخالفته. يقال قال فلان قولاً ثم عاد فيه أي خالفه ونقضه وهو قريب من قولهم عاد في هبته ومقصود الظهار وصف المرأة بالتحريم وإمساكه يخالفه وهذا المذهب الجديد وفي القديم تأويلان العزم على الوطء، أو الوطء.

وعلى هذا يكون موجب الظهار تحريم قربان المرأة ولا يحل له قربانها إلا بعد التكفير بواحد من الأمور الثلاثة مرتبة، فإذا واقعها قبل التكفير كان عاصياً يجب عليه الاستغفار وعدم قربانها مرة أخرى قبل أن يكفر لما روى أن رجلاً ظاهر من امرأته ثم واقعها قبل أن يكفر وأخبر الرسول بما فعل فقال له: ما حملك على ما صنعت قال: رأيت بياض ساقها في القمر، فقال له الرسول " استغفر الله ولا تعد حتى تكفر " منتقى الأخبار.

واتفق الفقهاء على أنه يحرم منها المقاربة.

واختلف الفقهاء فبما دونه من المس والنظر بشهوة والتقبيل: فذهب الحنفية والمالكية إلى تحريم ذلك.

وذهب الشافعية والحنابلة إلى عدم تحريم ذلك.

تتمة: لو كرر الظهار قبل التفكير وجب عليه كفارة واحدة سواء صدر منه الظهار المكرر في مجلس واحد أو في مجالس متعددة، نوى به التأكيد أو الاستئناف أو لم ينوبه شيئاً منهما، لأن ما بعد الأول قول لم يحدث تحريماً للزوجة فلم يجب به كفارة ظهار كاليمين بالله تعالى، وإن ظاهر ثم كفر ثم ظاهر مرة ثانية وجبت عليه كفارة للظهار الثاني لأنه ظاهر بعد ما حلت له.

الباب الرابع

العدة:

أنواع العدة:

تحول العدة من نوع إلى نوع آخر.

ابتداء العدة وانتهاؤها.

فيما يجب على المعتدة:

ما يجب لها.

الفصَل الأول

- التعريف بالعدة وأسبابها وحكمة مشروعيتها:

- تعريف العدة:

العِدَّةُ : في اللغة : الإحصاء يقال: عددت الشيء عدة. أي أحصيته إحصاء، والجمع عدد، ويطلق العدة ويراد بها المعدود، ومنه قوله تعالى: { إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ } [التوبة: 36].

والعِدة في الشرع : أجل حدده الشارع للمرأة التي حصلت الفرقة بينها وبين زوجها بسبب من الأسباب تمتنع عن التزوج فيه بغير زوجها الأول.

ومعنى ذلك: أن المرأة التي فارقها زوجها يجب عليها أن تنتظر بدون زواج حتى تنقضي المدة المحددة شرعاً، فإن كانت المفارقة بالموت وجب عليها الانتظار مطلقاً دخل بها أو لم يدخل، وإن كانت المفارقة بالطلاق أو الفسخ وجب عليها الانتظار إذا كان ذلك بعد الدخول بها، فإذا انقضت المدة حل لها التزوج.

أما الرجل فلا يجب عليه الانتظار بعد مفارقة زوجته، فله التزوج بغيرها متى شاء، وبأي امرأة شاء إلا إذا كانت المرأة التي يريد التزوج بها محرمة عليه لمانع مؤقت بسبب زواجه السابق بمن طلقها، كمن طلق زوجته فلا يحل له التزوج بمن لا يحل له الجمع بينها وبين زوجته الأولى حتى تنقضي عدتها كأختها أو بنت أخيها أو بنت أختها أو عمتها أو خالتها لئلا يكون جامعاً بين محرمين.

وكمن كان متزوجاً بأربع نسوة فطلق إحداهن فلا يحل له التزوج بأي امرأة حتى تنقضي عدة من طلقها لئلا يكون جامعاً بين أكثر من أربع.

وهذا الانتظار وإن وجد فيه معنى العدة إلا أنه لا يسمى عدة اصطلاحاً.

وهذا في الطلاق الرجعي باتفاق الفقهاء لبقاء الزواج الأول حكماً.

وأما إذا كان الطلاق بائناً فالحكم كذلك عند الحنفية.

- سبب وجوبها:

تجب العدة بواحد من الأمور الآتية:

1- وفاة الزوج بعد زواج صحيح يستوي في ذلك ما إذا كانت الوفاة قبل الدخول أو بعده لقوله تعالى: { وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا } [البقرة: 234].

فإنه أوجب عليها أن تنتظر هذه المدة من غير تفرقة بين المدخول بها وغير المدخول بها.

2- حدوث مفارقة بعد زواج صحيح بطلاق أو فسخ بعد الدخول الحقيقي أو بعد الخلوة الصحيحة أو الفاسدة عند الحنفية .

فإذا حصلت المفارقة قبل الدخول وما ألحق به من الخلوة فلا تجب عليها العدة لقوله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمْ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا } [الأحزاب: 49].

فإنه صريح في عدم وجوب العدة على المطلقة قبل المسيس الشامل للدخول والخلوة، والفسخ يأخذ حكم الطلاق.

3- حدوث مفارقة ولو بالموت في نكاح فاسد أو بعد وطء بشبهة بعد الدخول الحقيقي فقط عند الحنفية ، لأن المقصود من وجوب العدة بعد المفارقة فيهما معرفة براءة الرحم وخلوه من الحمل، وهذا لا يكون إلا بعد الدخول الحقيقي، ولذلك لو كانت المفارقة بالموت تجب العدة بالحيض أو الأشهر لا عدة الوفاة.

- حكمه تشريع العدة:

1- التعرف على براءة الرحم لئلا تختلط الأنساب، لأنها لا تكون غالباً إلا في فرقة بعد الدخول وهذا أمر تُوحي به الفطرة، لذلك كانت العدة معروفة عند العرب قبل الإسلام، فلما جاء الإسلام أقرها بعد أن خلصها مما كان بها من أضرار تلحق المرأة.

2- التنويه بعظم شأن الزواج وإعلام الناسب أنه أمر له خطره يغاير سائر العقود لأنه عقد الحياة، فكما أنه لا ينعقد صحيحاً إلا بحضور شهود عند جماهير الفقهاء كذلك لا ينتهي بمجرد وجود الفرقة، بل لا بد فيه من انتظار المرأة المدخول بها قبل الفراق مدة كافية ليتروى فيها كل من الزوجين، أما الزوج فقد يوقع الطلاق في ثورة غضب أو تسرع من غير روية مما قد يوقعه في ندم على ما فعل، فجعل الشارع أمامه فسحة من الوقت يراجع فيها نفسه ليختار أوفق الأمرين له، تدارك ما وقع بإرجاع الحياة الزوجية، أو المضي بالطلاق إلى مصيره المحتوم.

فإذا ما رجح عنده الندم أمكنه أن يرجعها إلى الزوجية بدون عقد ولا مهر أثناء فترة التربص إن كان الطلاق رجعياً، أو بعقد ومهر جديدين أثناء العدة لا يزاحمه غيره في ذلك إن كان الطلاق بائن.

أما الزوجة المكلفة بالإنتظار فهي أحوج ما يكون إليه للتروي والتبصر في إنشاء زوجية أخرى لأن عصمتها بيد زوجها، فإذا تسرعت عقب الطلاق وأنشأت زوجية وظهر خطؤها عجزت عن مفارقة زوجها بخلاف الرجل فإنه يستطيع التخلص من الزواج غير الملائم بما ملكه الشارع من حق الطلاق.

3- تمكين الزوجة المتوفى عنها زوجها من إظهار التأثر لفقد زوجها بالمنع من التزين، وهذا ضرب من الوفاء له، إذ ليس من المروءة والاعتراف بالجميل تسرع المرأة بالزواج عقب وفاة زوجها ولو قبل دخوله بها، كما أن تعجلها بالزواج يسيء إلى أهل الزوج الذين ارتبطت بهم برباط المصاهرة، إذ كيف تنعم بحياة زوجية جديدة في الوقت الذي لا يزال أهل زوجها في حزن عليه.

الفَصْل الثّاني

أنواع العدة:

تتنوع العدة إلى ثلاثة أنواع:

1- عدة بالقروء.

2- عدة بالأشهر.

3- عدة بوضع الحمل.

وهذا التنوع باعتبار سبب الفرقة، وما تكون عليه المرأة عند حصول الفرقة، وصحة الزواج وفساده.

- النوع الأول: العدة بالقروء:

وتكون العدة بالقروء لمن فارقها زوجها بعد الدخول أو الخلوة بسبب من أسباب الفرقة غير الوفاة إذا كانت المرأة من ذوات الحيض ولم تكن حاملاً.

وهذا إذا كانت الفرقة بعد زواج صحيح، أما إذا كان فاسداً فإنها تعتمد بالقروء بعد الدخول الحقيقي وإن كانت بعد الوفاة.

والدليل على ذلك قوله تعالى: { وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ } [البقرة: 228]، فقد أوجبت الآية على المطلقة التربص ثلاثة قروء، والقروء جمع قرء، وهو يحتمل في الآية الحيض أو الطهر، لأنه لغة مشترك بينهما -كما قالوا- ومن هنا اختلف فقهاء الصحابة ومن بعدهم في المراد منها:

فذهب الحنفية والحنابلة إلى أن المراد بها الحيض.

وذهب المالكية والشافعية إلى أن المراد بها الطهر.

- النوع الثاني: العدة بالأشهر:

وتكون لمن فارقها زوجها بعد الدخول بسبب من أسباب الفرقة غير الوفاة وكانت لا تحيض لصغرها وإن بلغت بالسن ولم تر الحيض ولم تكن حاملاً أو لبلوغها سن اليأس.

كما تكون لمن توفي عنها زوجها بعد العقد الصحيح ولو قبل الدخول إذا لم تكن حاملاً صغيرة كانت أو كبيرة تحيض أو لا تحيض.

غير أن هذه العدة صنفان :

الصنف الأول: ثلاثة أشهر وهي بدل عن الحيض، والثاني أربعة أشهر وعشرة أيام وهي أصل وليست بدلاً عن غيرها.

والدليل على الأول قوله تعالى: { وَاللائِي يَئِسْنَ مِنْ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنْ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللائِي لَمْ يَحِضْنَ } [الطلاق: 4]. فهذه الآية جعلت العدة ثلاثة أشهر لنوعين من النساء. من بلغت سن اليأس، ومن لم تحض لصغرها.

وإنما جعلت ثلاثة أشهر لأنها قائمة مقام ثلاث حيضات حيث جعلت بدلا عنها بدليل أنها لو حاضت انتقلت عدتها إلى الحيض وألغي اعتبار الأشهر، ولأن الغالب في المرأة أنها تحيض كل شهر مرة فاعتبرت مدة الثلاث حيضات.

هذا هو مذهب الحنفية في المفارقة بعد الدخول أو الخلوة في النكاح الصحيح، وبعد الدخول أو الوفاة في النكاح الفاسد والوطء بشبهة.

الصنف الثاني: وهو الاعتداد بالأشهر التي هي أصل: يكون لمن توفي عنها زوجها بعد عقد صحيح ولو قبل الدخول إذا لم تكن حاملاً يستوي في ذلك ذوات الحيض وغيرها، وهذه تعتد أربعة أشهر وعشرة أيام، وهذه متفق عليها بين الفقهاء ولم يخالف فيها أحد صغيرة كانت أو كبيرة بالغاً كان زوجها أولا. لقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} [البقرة: 234] والحكمة في هذا التقدير: أن هذه المدة هي التي يتبين فيها كون المرأة حاملاً أو غير حامل، لأن الجنين يمر بعدة أطوار. أربعون يوماً نطفة، وأربعون علقة، وأربعون مضغة، ثم تنفخ فيه الروح، ولأن هذه المدة -كما قالوا- هي أقصى ما تتحمله الزوجة عادة في البعد عن زوجها.

والأشهر هنا كاملة بالأهلة إذا ابتدأت العدة من أول شهر، وتنتهي في نهاية اليوم العاشر بعد الأربعة، وإذا ابتدأت في أثناء الشهر يجري فيها الخلاف السابق.

فعند أبي حنفية تكون مائة وثلاثين يوماً.

أو في قول عند الحنفية يكمل الشهر الأول من الخامس وما بينهما بالأهلة.

النوع الثالث: العدة بوضع الحمل:

ذهب الحنفية إلى أن المرأة الحامل إذا انتهى زواجها بطلاق أو فسخ وفاة زوجها تعتد بوضع الحمل دون تقيد بزمن سواء كان الحمل من زواج صحيح أو فاسد أو مقاربة بشبهة لقوله تعالى: { وَأُوْلاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ } [الطلاق: 4]، وهي عامة في المطلقات والمتوفى عنهن أزواجهن وإن كان سياقها في المطلقات، لأنها نزلت بعد آية البقرة وهي قوله تعالى: { وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا } فتكون ناسخة لعمومها أو مخصصة لها.

ويؤيد ذلك ما أخرجه عبد الله بن أحمد في رواية المسند عن أبي ابن كعب قال: "قلت يا رسول الله. وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن" هي المطلقة ثلاثاً أم المتوفى عنها؟ قال: "هي المطلقة ثلاثاً والمتوفى عنها".

وروي عن ابن مسعود أنه قال: "نسخت سورة النساء القصرى كل عدة" "وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن" أجل كل حامل مطلقة أو متوفى عنها زوجها أن تضع حملها.

وكذلك روى عن أبي سعيد الخدري أنه قال: نزلت سورة النساء القصرى بعد التي في البقرة بسبع سنين، وروى البخاري عن المسور بن مخرمة أن سُبيعة الأسليمة نُفِست بعد وفاة زوجها بليال فجاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فاستأذنته أن تنكح فأذن لها فنكحت"، وفي لفظ أنها وضعت بعد وفاة زوجها بأربعين ليلة.

وعلى هذا لو وضعت حملها بعد وفاة زوجها بفترة وجيزة انتهت عدتها وحلت للأزواج، وليس عليها عدة وفاة بالأشهر، ومن هنا قال عمر رضي الله عنه: "لو وضعت وزوجها على سريره لانقضت عدتها وحل لها أن تتزوج".

ولكنهم شرطوا في الحمل الذي تنتهي العدة بولادته أو بإسقاطه أن يكون مستبين الخلقة كلها أو بعضها سواء ولد حياً أو ميتاً، فإذا لم يكن مستبين الخلقة بأن كان علقة أو مضغة غير مخلقة فلا تنتهي العدة بوضعه لأنه إذا لم يستبن خلقه لا يعلم كونه ولداً بل يحتمل أن يكون وأن لا يكون فيقع الشك، والعدة لا تنتهي إلا مع اليقين.

الفصل الثالث

تحول العدة من نوع إلى نوع آخر:

1- إذا وجبت العدة بالأشهر لغير وفاة بأن كانت صغيرة أو بلغت سن اليأس ثم جاءها الحيض قبل انقضاء الأشهر الثلاثة وجب عليها أن تستأنف عدة جديدة بثلاث حيضات عند الحنفية، لأن الاعتداد بالأشهر وجب عليها أولاً لأنها ليست من ذوات الحيض، فكانت الأشهر بدلاً عن الحيضات، وحيث وجد الأصل قبل أن يتم المقصود بالبدل سقط اعتبار البدل، وكانت داخلة تحت قوله تعالى: { والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء } الذي هو الأصل في العدة.

أما إذا جاءها الحيض بعد تمام الأشهر الثلاثة فلا يجب عليها الاعتداد بالحيض، لأن العدة تمت وحصل المقصود بالبدل قبل وجود الأصل، فلا يبطل حكمه كمن تيمم لعدم وجدان الماء وصلى ثم وجد الماء بعد انتهاء الوقت المحدد للصلاة فلا يجب عليه الوضوء وإعادة تلك الصلاة.

لكن يلاحظ هنا أن هذه المرأة أصبحت من ذوات الحيض، فلو وجبت عليها عدة بعد ذلك بأي سبب اعتدت بالحيض لا بالأشهر.

2- من كانت من ذوات الحيض فابتدأت عدتها به وحاضت مرة أو مرتين ثم بلغت سن اليأس تحولت عدتها إلى الأشهر عند الحنفية، فتستأنف عدة جديدة بثلاثة أشهر كاملة، لأن العدة إما بالقروء وهي ثلاثة، وإما بالأشهر وهي ثلاثة، ولكل منهما صنف، وحيث إنها لم تكمل العدة بالحيض وصارت آيسة فتعتد عدة الآيسة.

3- من طلقها زوجها طلاقاً رجعياً ثم مات وهي في العدة تحولت عدتها من عدة طلاق سواء كانت بالحيض أو بالأشهر إلى عدة الوفاة وهي أربعة أشهر وعشرة أيام تبدؤها من وقت الوفاة. يستوي في ذلك أن يكون زوجها طلقها في صحته أو مرضه الأخير، لأن المطلقة رجعياً زوجيتها باقية من كل وجه ما دامت العدة، ولذلك ترثه، وعلى الزوجة غير الحامل التي توفى زوجها الاعتداد بهذه العدة لقوله تعالى: { وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا } وهذه لا خلاف فيها بين الفقهاء.

فإن تبين أنه قصد بالطلاق الفرار من ميراثها بأن طلقها الثالثة في مرض موته بغير رضاها ثم مات وهي في العدة فإنها ترثه باتفاق الحنفية ولكن الخلاف بينهم في تحول عدتها.

فذهب أبو حنيفة إلى أن عدتها تتحول إلى أبعد الأجلين وهما عدة الوفاة وعدة الطلاق فأيتهما أطول فهي عدتها، فإن كانت عدة الطلاق بالأشهر اعتدت بأربعة أشهر وعشرة أيام من وقت الوفاة، وإن كانت بالحيض وحاضت ثلاث حيضات قبل أن تمضي أربعة أشهر وعشرة أيام من وقت الوفاة فعدتها تمام هذه المدة، وإن مضت المدة قبل أن تتم ثلاث حيضات لا تنتهي عدتها إلا بإكمال الحيضات الثلاث.

وإنما وجب عليها أطول العدتين لأنها باعتبار أنها مطلقة بائناً ليست بزوجة وقت الوفاة فلا تجب عليها عدة الوفاة، بل تجب عليها عدة الطلاق، وباعتبار أنها ورثت من مطلقها والميراث لا يكون إلا للزوجة اعتبر الزواج قائماً حكماً وقت الوفاة فتجب عليها عدة الوفاة، فمراعاة للاعتبارين وجب عليها عدة الطلاق والوفاة، وتتداخل العدتان لأن أقلهما داخل في أطولهما.

الفَصل الرَّابع

مبدأ العدة وانتهائها:

أما مبدأ العدة فيختلف باختلاف عقد الزواج السابق عليها، فإن كانت الفرقة بعد نكاح صحيح بموت الزوج ولو قبل الدخول أو بطلاق أو فسخ بعد الدخول فابتداء العدة بمجرد وقوع الفرقة وإن لم تعلم بها المرأة، فإذا وجد سبب الفرقة ولم تعلم به المرأة إلا بعد مدة احتسبت العدة من وقت حصول سببها لا من وقت علم المرأة بها، بل قد تنتهي العدة دون أن تعلم، وذلك لأن العدة مدة حددها الشارع بعد حصول سببها فتوجد دون توقف على العلم بها.

فلو ادعت المرأة على زوجها بأنه طلقها في وقت سابق عينته، فإما أن يصدقها الزوج في دعواها أو ينكر، فإن أنكرها وأقامت الزوجة البينة على دعواها وحكم لها القاضي بصحة دعواها احتسبت العدة من الوقت الذي أثبتته البينة لا من وقت الحكم، وإن لم تقم بينه رفضت دعواها.

وإن صدقها في دعواها وأقر بما ادعته أو أقر هو به ابتداء بدون دعوى منها فإن العدة تحتسب من الوقت الذي أسند الطلاق إليه لا من وقت الإقرار إذا لم يكن في إقراره أو تصديقه لها تهمة.

فإن كان في أحدهما تهمة احتسبت العدة من وقت الإقرار نفياً للتهمة.

ومن أمثلة ما فيه تهمة: أن يكون الزوج مريضاً مرض الموت، لأنه في هذه الحالة يحتمل أن يكون قد اتفق معها على ذلك لتصير أجنبية بانتهاء عدتها قبل وفاته ليصل إلى غرض لا يمكنه الوصول إليه مع قيام الزوجية كإقراره لها بدين حال مرضه مثلاً.

ومنها أن يكون تصديقه لها في دعواها وهو صحيح ليستطيع التزوج بمحرم لها لا يمكنه الجمع بينهما في العدة.

أما إذا كانت الفرقة بعد الزواج الفاسد فإن العدة تبدأ من وقت متاركته لها بإظهار عزمه على ترك قربانها أو وقت تفريق القاضي بينهما أو وقت موته مباشرة.

وعدة الوطء بشبهة تبدأ من آخر مقاربة لها عند زوال الشبهة بعلمه أنها غير زوجته وأنها لا تحل له، لأن سبب العدة هنا هو الوقاع بشبهة أنها زوجته حيث لا عقد هنا.

- انتهاء العدة:

تنتهي العدة إذا كانت بالأشهر بغروب شمس آخر يومٍ منها.

وإذا كانت بالقروء فعند من يفسرها بالحيض تنتهي بانقطاع دم الحيضة الثالثة إن انقطع لأكثر مدة الحيض وهو عشرة أيام، فإن انقطع قبل عشرة أيام فلا تنتهي العدة إلا إذا طهرت من الحيض إما بالاغتسال أو التيمم سواء صلت أو صارت الصلاة ديناً في ذمتها.

وإذا ادعت أنها حاضت ثلاث حيضات لا تصدق إلا إذا كانت المدة تحتمل ذلك، وأقلها عند أبي حنيفة ستون يوماً، وفي رواية عند الحنفية تسعة وثلاثون يوماً كما قدمناه.

وأما من يفسر القروء بالأطهار يعتبرون الطهر الذي وقع فيه الطلاق أحدها فإنها تنتهي عندهم برؤية الدم من الحيضة الثالثة بعد الفرقة، وأقل مدة تصدق فيها المرأة التي ادعت انتهاء عدتها ستة وعشرون يوماً ولحظتان مع ملاحظة أن اللحظة الأولى من العدة والثانية ليست منها، وهي رؤية الدم من الحيضة الثالثة، بل هي أمارة على الخروج من العدة.

وإن كانت العدة بوضع الحمل فتنتهي إذا كان الحمل واحداً ونزل أكثره عند الحنفية سواء نزل حياً أو ميتاً، وإن كان الحمل أكثر من واحد فلا تنتهي العدة إلا بنزول آخر التوائم، لأن الحمل اسم لجميع ما في البطن بإتفاق الحنفية.

Free Web Hosting