الفَصل الخامِس فيما يجب على المعتدة ويجب لها:

يجب على المعتدة أمران :

أولهما: البقاء في البيت الذي كانت تسكنه وقت الفرقة لا فرق بين معتدة الطلاق ومعتدة الوفاة عند الحنفية، فلو كانت وقت الفرقة غير موجودة فيه وجب عليها أن تعود إليه فوراً، لقوله تعالى: { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمْ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ } [الطلاق: 1].

فهذا نهي عن إخراجهن من بيوتهن وهو يقتضي تحريم خروجهن فيكون أمراً بضده وهو البقاء فيها وهو يفيد الوجوب.

فإذا كان الطلاق رجعياً فلا مانع من بقائها مع الزوج في مسكن واحد، لأن هذا الطلاق لا يحرمها على زوجها، ووجودها كذلك ربما كان سبيلاً إلى مراجعتها.

وإن كان بائناً بقيت في هذا المسكن مع مطلقها لكن في حجرة غير حجرته بشرط أن يكون ذا دين يأمن على نفسه من الوقوع في محرم معها، فإن لم يتوفر هذا الشرط أو لم يكن في المسكن غير حجرة واحدة تركه لها وسكن في مكان قريب منه.

والحكمة في إلزامها بالاعتداد في بيت مطلقها هي تمكن الزوج من مراقبتها وصيانتها في عدتها حتى تنتهي، وربما كان ذلك طريقاً إلى عودة الحياة الزوجية بينهما مرة أخرى فالقرب يحمل الرجل على إعادة التفكير فيما حدث، وقد ينتهي تفكيره إلى مراجعتها إن كان الطلاق رجعياً، أو العقد عليها في العدة إن كان بائناً.

وأما المتوفى عنها زوجها فإن وجودها في هذا المسكن الذي عاشت مع زوجها فيه يذكرها به وحياتها معه فيحملها ذلك على الوفاء له وتنفيذ ما أمرت به من التربص وترك الزينة.

ولا يجوز للمعتدة أن تخرج من منزل العدة إلا لعذر يبيح لها الخروج كخوفها على نفسها ومالها أو إخراجها منه لعدم قدرتها على دفع أجرته أو عرضته للانهدام وما شاكل ذلك، فإن خرجت منه لغير عذر كانت ناشزة فتسقط نفقتها إن كان لها نفقة أثناء العدة.

وللمعتدة من وفاة أن تخرج لكسب نفقتها وقضاء حوائجها لأنه لا نفقة لها في عدتها وليس لها زوج يقوم بشئونها.

وثانيهما: الإحداد وهو ترك الزينة بأنواعها طوال مدة العدة، ولكنه غير واجب على كل معتدة.

فالمعتدة من طلاق رجعي لا إحداد عليها بالاتفاق ، لأن زوجيتها قائمة بل يستحب لها التزين لأنه قد يكون طريقاً إلى تجديد رغبة زوجها فيها فيراجعها.

أما المعتدة من وفاة فيجب عليها الإحداد باتفاق الفقهاء ومنهم الحنفية فيجب عليها ترك التزين بملبس جرى العرف الناس بأنه من ملابس الزينة، ولا تقييد فيه بلون خاص لأن العرف يختلف فيه من زمن لآخر ومن بلد لغيره، وترك الحلي بكافة أشكاله، والطيب والادهان والكحل والحناء، ولا تكتحل إلا لضرورة، فإن كان يكفي في دفعها الاكتحال ليلاً اقتصرت عليه وإلا وقفت عند ما يدفعها، ولا فرق في ذلك بين الزوجة الكبيرة والصغيرة والحامل وغير حامل، أما ضرورات الحياة من الاستحمام والتنظيف وتسريح الشعر فليست ممنوعة منها.

وإنما وجب عليها ذلك لما ورد من الأحاديث: منها ما رواه أبو داود بسنده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد على ميت فوق ثلاث ليال إلا على زوج أربعة وعشرا"، ولأن في ترك الزينة قطعاً لأطماع الراغبين فيها حيث لا زوج يحميها ويمنع عنها هؤلاء، ولأن الزواج نعمة عظيمة وقد فاتت بوفاة زوج وفيّ حافظ عليها إلى آخر لحظة في حياته، وفوات النعم ووفاء الزوج يقتضيها ترك التزين إظهاراً للأسف على ما فات ومقابلة الوفاء بالوفاء، وفوق ذلك فهو أدب جميل تقره الفطرة السليمة ويحمده الناس.

والإحداد: لا يخلو من حق للشارع فيه حيث أمر به ليحفظ المعتدة من طمع الطامعين، ولذلك قرر الفقهاء أنه لا يستطيع أحد إسقاطه، فلو أوصاها زوجها قبل وفاته بعدم الحداد لم يكن لها تركه.

أما المعتدة من طلاق بائن:

فذهب الحنفية إلى أن عليها الإحداد، لأن من مقاصده إظهار الحزن والأسى على فوات نعمة الزواج الذي كان يصونها ويكفيها مؤونة الحياة فأشبهت معتدة الوفاة.

وذهب جمهور الفقهاء -المالكية والشافعية والحنابلة- إلى أنه لا إحداد عليها، لأنه وجب في حالة الوفاة أسفاً لفراق زوج وفيّ بعهده لآخر لحظة من حياته، فأقل ما تكافئه به هو إظهار الحزن والأسف على فراقه، أما المطلق فقد أساء إليها وحرمها من نعمة الزواج فكيف نلزمها بالحزن عليه؟

أما ما يجب لها فهو النفقة: على اختلاف بين الفقهاء في بعض صورها:

اتفق الفقهاء على أن المعتدة بعد فرقة من زواج فاسد أو دخول بشبهة لا تستحق نفقة سواء كانت حاملاً أو غير حامل، لأنها لا تستحق نفقة قبل هذه التفرقة لعدم مشروعية ما بين الرجل والمرأة ولا يقران عليه فأولى أن لا يجب لها بعد الافتراق، لأن حال العدة معتبر بحال الزواج قبلها.

كما اتفقوا على أن المعتدة من طلاق رجعي تجب لها النفقة بأنواعها الثلاثة "الطعام والكسوة والسكنى" سواء كانت حاملاً أو غير حامل، لأن زوجيتها قائمة حيث أن الطلاق الرجعي لا يزيل ملك الاستمتاع ولا حل الزوجية بشرط عدم نشوزها قبل العدة وأثنائها.

واختلف الفقهاء بعد ذلك في المعتدة من وفاة أو طلاق بائن أو فسخ على آراء وتفصيلات نقتصر منها على مذهب الحنفية :

أما المعتدة من وفاة فلا تجب لها نفقة بأنواعها الثلاثة عند الحنفية سواء كانت حاملاً أو غير حامل، لأن مال الزوج المتوفى انتقل إلى ورثته فلا مال له حتى تجب فيه نفقة، ولا سبيل إلى إيجابها على الورثة، لأن العدة أثر من آثار عقد الزواج وهم لم يكونوا طرفاً فيه، وآثار عقد الزواج لا ترجع إلى غير صاحبه، كما أن هذه النفقة لم تصر ديناً بعد حتى تؤخذ من التركة.

أما المعتدة من طلاق بائن فتجب لها النفقة بأنواعها الثلاثة عند الحنفية سواء كانت حاملاً أو غير حامل لقوله تعالى: { لينفق ذو سعة من سعته } وهو عام يشمل الزوجات والمطلقات رجعياً كان الطلاق أو بائناً، وقوله في شأن المعتدات: { لا تخرجوهن من بيوتهن ولا يخرجن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة }، وقوله جل شأنه: { أسكنوهن من حيث سكنتم من وِجْدكم ولا تضاروهن لتضيقوا عليهن }، فكل هذه الآيات تدل على إبقاء المعتدة على ما كانت عليه قبل الطلاق.

ولأن النفقة وجبت للزوجة قبل الطلاق لكونها محبوسة لحق الزوج، وهذا الاحتباس باق بعد الطلاق فتجب لها النفقة كما كانت قبله لوجود سبب الوجوب.

وأما قوله سبحانه: { وإن كن أولات حمل فأنفقوا عليهن } فقد نص على نفقة المعتدة الحامل، لأن عدتها تكون غالباً أطول من غيرها فتجب لغيرها من باب أولى.

وأما حديث فاطمة بنت قيس النافي للنفقة والسكنى فقد رده عمر بقوله: "لا نترك كتاب ربنا وسنة نبينا لقول امرأة لا ندري أحفظت أم نسيت".

وأما المعتدة بسبب الفسخ لعقد الزواج: فالحنفية يوجبون لها النفقة بكل أنواعها إذا كان الفسخ بسبب من قبل الزوج سواء كان السبب مباحاً كخيار البلوغ أو الإفاقة، أو بسبب محظور كفعله مع إحدى أصول الزوجة أو فروعها ما يوجب حرمة المصاهرة، أو إبائه عن الإسلام أو ردته، وسواء حصلت الفرقة بغير قضاء أو بقضائه.

وكذلك إذا كان الفسخ بسبب من قبل الزوجة ليس محظوراً، كخيار البلوغ أو الإفاقة أو الفسخ بسبب نقصان مهرها عن مهر مثلها إذا زوجت نفسها بدون إذن وليها.

قالوا: لأن الفسخ يأخذ حكم الطلاق البائن في أكثر أحكامه وبخاصة ما يتعلق منها بالعدة.

أما إذا كان الفسخ بسبب محظور من جهتها كارتدادها عن الإسلام أو امتناعها عنه بعد إسلام زوجها ولم تكن كتابية، أو فعلها مع أحد أصول زوجها أو فروعه باختيارها ما يوجب حرمة المصاهرة فلا يجب لها غير السكنى فقط، أما الطعام والكسوة فلا حق لها فيهما.

أما سقوط هذين فلأن النفقة فيها معنى الصلة، فإذا فعلت معصية توجب الفرقة فلا تستحق تلك الصلة، بل تستحق العقوبة زجراً له، وإنما اقتصر الإسقاط على نفقة الطعام والكسوة لأنهما خالص حقها، أما السكنى فللشارع حق فيها مع حقها، وحق الشارع لا يسقط بمعصية من جهتها، ولذلك قالوا لو أبرأت المرأة مطلقها عند الخلع من نفقة العدة سقط بهذا الإبراء الطعام والكسوة فقط، ولو خالعته على أن لا نفقة لها ولا سكنى سقطت النفقة دون السكنى، لأن نفقة الطعام والكسوة حق خالص لها تملك إسقاطهما، أما السكنى فلا تملك إسقاطها لوجود حق للشارع فيها.

القسم الثالث

في حقوق الأولاد والأقارب

وهي النسب وما يترتب عليه من أحكام

الباب الأول : في النسب.

الباب الثاني : في الرضاع.

الباب الثالث : في الحضانة.

الباب الرابع : في الولاية.

الباب الخامس : في نفقة الأولاد والأقارب.

البَاب الأول

في النسب

الفَصل الأول

بيان أقل مدة الحمل وأقصاها، وإثبات الولادة:

- أقل مدة الحمل: اتفق الفقهاء على أن أقل مدة الحمل التي يتكون فيها الجنين ويولد بعدها حياً هي ستة أشهر استنبطوا ذلك من مجموع آيتين في كتاب الله هما قوله تعالى: { وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا } [الأحقاف: 15].

وقوله جل شأنه: { وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ } [لقمان: 14].

فقد قدرت الآية الأولى للحمل والفصال ثلاثين شهراً، وقدرت الثانية للفصال أي الفطام عامين، وبإسقاط الثانية من الأولى يبقى للحمل ستة أشهر وهو تقدير العليم الخبير.

ومما يؤيد ذلك الاستنتاج ما روي أن رجلاً تزوج امرأة فجاءت بولد لستة أشهر من تاريخ الزواج، فرفع أمرها إلى عثمان رضي الله عنه فهم بإقامة الحد عليها، فقال له ابن عباس رضي الله عنهما: "إنها لو خاصمتكم بكتاب الله لخصمتكم" أي غلبتكم، قال تعالى: { وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا } وقال: { وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ }، فإذا ذهب للفصال عامان لم يبق للحمل إلا ستة أشهر، فمنع عثمان الحد عنها، وكان ذلك بمحضر من الصحابة ولم ينكر أحد ذلك، وإذا اعتبرت هذه المدة في درء الحد لأن الحدود تدرأ بالشبهات اعتبرت أيضاً في إثبات النسب، لأنه مما يحتاط في إثباته محافظة على النسل وصيانة للعرض.

- أما أقصى مدة الحمل: فقد اختلف الفقهاء في تحديدها اختلافاً كبيراً، نشأ هذا الاختلاف عن عدم ورود نص يحددها في كتاب الله أو سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنما اعتمد تحديدهم لها على ما جرت به العادة في ولادة النساء كما يرى البعض، أو على أثر يروى عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها كما يرى فريق آخر، أو على إخبار بعض النسوة في وقائع نادرة كما يرى غير هؤلاء وهؤلاء.

ولو صح الأثر المروي عن عائشة عند كل الفقهاء لقالوا بمقتضاه، لأنه في التقديرات التي لا تعلم إلا بإخبار من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإليك بعض هذه الأقوال بترتيبها التصاعدي.

وذهب الحنفية إلى أن أقصاها سنتان إستناداً إلى ما روي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: "لا تزيد المرأة في الحمل على سنتين قدر ما يتحول ظل عمود المغزل" تريد أن الجنين لا يبقى في بطن أمه أكثر من سنتين ولو لفترة يسيرة عبرت عنها بتحول ظل عمود المغزل.

ذهب الشافعية والمالكية في القول المشهور عندهم إلى أن أقصاها أربع سنوات، وفي القول الآخر إنها خمس سنوات، وهناك من يزيد على ذلك.

- إثبات الولادة بعد إنكارها:

إذا ادعت المرأة أنها ولدت هذا المولود فإما أن يصدقها الرجل في دعواها أو ينكرها، فإن صدقها ثبت النسب إذا توفرت شروط ثبوته، وإن لم يصدقها بأن أنكر دعواها كان على المرأة إثبات دعواها، فبم تثبت هذه الدعوى؟

هذا الإنكار إما أن يكون لأصل الولادة، وإما أن يكون لنوع المولود بعد الاعتراف بأصل الولادة، فإن كان الإنكار لأصل الولادة بأن يكون جوابه على دعواها : زوجتي أو مطلقتي لم تلد شيئاً وهذا الذي تدعي ولادته لقيط، وفي هذا الإنكار تختلف طرق الإثبات باختلاف حالات المرأة عند ادعائها، لأنها قد تكون زوجة أو مطلقة رجعياً أو بائناً أو معتدة من وفاة، وحال ظهور الحمل أو اعتراف الزوج به أولاً.

فقد ثبت الدعوى بقول المرأة نفسها، وقد تثبت بشهادة امرأة مقبولة الشهادة سواء كانت هي القابلة أو غيرها، وقد تحتاج إلى بينة كاملة رجلين أو رجل وامرأتين من العدول وهذه عند أبي حنيفة.

تفصيل مذهب أبي حنيفة : إذا كان الحبل ظاهراً أو كان الزوج معترفاً بوجوده أو ورثته بعد وفاته فلا تحتاج إلى إثبات بل يكفي قول المرأة نفسها، لأن الحمل المفضى إلى الولادة ثابت بظهور أمارته أو الإعتراف به فيثبت ما يفضى إليه وهو الولادة بمجرد إخبار المرأة بها.

وإن لم يكن الحمل ظاهراً ولم يكن معترفاً به فلا يكفي قول المرأة، بل لا بد من بينة للإثبات، ويكفي شهادة امرأة من أهل العدالة إذا كانت المرأة المدعية زوجة أو كانت معتدة من طلاق رجعي والدعوى بعد مضي سنتين أو أكثر من وقت الطلاق إذا لم تكن أقرت بانقضاء العدة، أما إذا كانت معتدة من طلاق بائن أو معتدة وفاة فلا بد من شهادة كاملة.

أما المعتدة من طلاق رجعي إذا ادعت الولادة قبل مضي سنتين ففيها رأيان :

رأي يجعلها كالزوجة .

والآخر يجعلها كالمعتدة من طلاق بائن وهو أرجح لأن ادعاءها الوضع قبل مضي سنتين اعتراف منها بانقضاء عدتها فتكون كالمبتوتة، وإنما احتيج هنا إلى شهادة كاملة، لأن الشهادة وإن كانت لإثبات الولادة إلا أنها سيترتب عليها ثبوت النسب من الزوج المطلق أو المتوفى، وثبوت النسب يحتاج إلى حجة كاملة لأن المرأة بعد الولادة تكون مقرة بانقضاء عدتها، وبانقضائها تصير أجنبية، ودعوى النسب من الأجنبية تحتاج إلى بينة كاملة.

وذهب المالكية والشافعية في إثبات الولادة إلى تعدد الشهود من النساء.

فالشافعية لابد من أربع منهن.

ويكتفي المالكية بشهادة امرأتين.

الفَصل الثّاني

طرق إثبات النسب أو الأمور التي يثبت بها:

يثبت النسب بأحد أمور ثلاثة: الفراش، والإقرار، والبينة.

المبحث الأول

- الفراش:

- تعريف الفراش: الفراش في الأصل ما يبسط للجلوس أو النوم عليه، ويكنى به عن المرأة التي يستمتع بها الرجل يقول جل شأنه: { وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ * إِنَّا أَنشَأْنَاهُنَّ إِنشَاءً * فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا * عُرُبًا أَتْرَابًا * لأَصْحَابِ الْيَمِينِ } [الواقعة: 34 - 38].

فكنى بالفراش عن النساء وهن الحور العين.

والمراد بالفراش هنا: الزوجية القائمة بين الرجل والمرأة عند ابتداء حملها بالولد، أو كون المرأة معدة للولادة من شخص معين، وهو لا يكون إلا بالزواج الصحيح وما ألحق به، فإذا ولدت الزوجة بعد زواجها، ثبت نسبة من ذلك الزوج دون حاجة إلى إقرار منه بذلك أو بينة تقيمها الزوجة على ذلك لما رواه الجماعة إلا أبا داود عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "الولد للفراش وللعاهر الحجر" يريد أن الولد لصاحب الفراش كما جاء في لفظ البخاري وهو الزوج، وللعاهر وهو الزاني الرجم عقوبة على جريمته إن كانت تستوجب الرجم، أو الخيبة والخسران ولا نسب له لو نازع فيه.

والسبب في ثبوت النسب بالفراش دون توقف على إقرار أو بينة هو أن عقد الزواج الصحيح يبيح الاتصال الجنسي بين الزوجين، ويجعل الزوجة مختصة بزوجها يستمتع بها وحده وليس لغيره أن يشاركه ذلك الاستمتاع، بل ولا الاختلاء بها خلوة محرمة، فإذا جاءت بولد فهو من زوجها، واحتمال أنه من غيره احتمال مرفوض، لأن الأصل حمل أحوال الناس على الصلاح حتى يثبت العكس.

- شروط ثبوت النسب بالفراش:

وإذا كانت الشريعة جعلت الفراش طريقاً لإثبات النسب بمفرده، لكن ذلك يتوقف على توفر شروط بعضها متفق عليه بين الفقهاء ، وبعضها مختلف فيه ، وهذه الشروط:

1- إمكان حمل الزوجة من زوجها بأن يكون الزوج ممن يتأتى منه الحمل، بأن يكون بالغاً أو مراهقاً على الأقل، فلو كان صغيراً دون ذلك لا تعتبر الزوجة فراشاً، لأنه لا يتصور أن تحمل منه زوجته، ومن ثم لا يثبت نسب ولد وضعته زوجته مهما كانت المدة بين العقد والوضع، وهذا متفق عليه بين الفقهاء.

2- إمكان التلاقي بين الزوجين عادة بعد العقد، وهو شرط عند الأئمة الثلاثة (مالك والشافعي وأحمد) لأن العقد جعل المرأة فراشاً باعتبار أنه يبيح هذا الاتصال الذي هو سبب حقيقي للحمل، فلو انتفى إمكان التلاقي عادة وجاءت بولد بعد مضي ستة أشهر من حين العقد عليها لا يثبت نسبه منه.

وذهب الحنفية إلى عدم اشتراط ذلك فقالوا: إن مجرد العقد يجعل المرأة فراشاً لأنه مظنة الاتصال، فإذا وجد كفى، لأن الاتصال لا يطلع عليه بخلاف العقد.

3- أن تلد الزوجة لستة أشهر على الأقل من تاريخ العقد عليها عند المذاهب الأربعة ولكن مع إمكان التلاقي، لأن أقل مدة الحمل ستة أشهر كما قدمنا، ومن وقت المخالطة في الزواج الفاسد لأن المرأة لا تصير فراشاً إلا بها فلو أتت به لأقل من ذلك لا يثبت نسبه إلا إذا ادعاه ولم يصرح بأنه من الزنا، فيثبت نسبه ويحمل ذلك على أن المرأة حملت به منه قبل العقد الصحيح عليها بناء على عقد آخر صحيح أو فاسد أو مخالطة لها بشبهة حفاظاً على الولد من الضياع وستراً على الأعراض، ويكون ثبوت النسب هنا بالإقرار لا بالفراش.

4- أن تلده لأقل من أقصى مدة الحمل - على الاختلاف السابق فيها - من وقت الفرقة بالطلاق البائن أو الموت، فإذا جاءت به لسنتين فأكثر من حين الفرقة لا يثبت نسبه بالفراش السابق عند الحنفية ، لأنه تبين أنها حملت به بعد انتهاء الفراش يقيناً.

وإذا كان الطلاق رجعياً ثبت نسبه منه في أي وقت تجئ به ولو مضى سنتان فأكثر من وقت الطلاق ما لم تقر بانقضاء عدتها بعد طلاقها منه، ويجعل ذلك على أنه راجعها بعد الطلاق في عدتها التي قد يطول وقتها إذا امتد طهرها ويكون ثبوته بالفراش الذي استدامته الرجعة.

تلك هي شروط ثبوت النسب بالفراش، فإذا تخلف منها شرط لا يثبت النسب منه إلا إذا ادعاه عند الحنفية، ويكون ثبوته في هذه الحالة بالدِّعوة لا بالفراش، ولا يملك نفيه إلا بعد إجراء اللعان الشرعي إذا توفرت شروطه، وهي تتلخص فيما يلي:

1- أن ينفي الولد عند الولادة أو في مدة التهنئة بالمولود عند أبي حنيفة ، أو في مدة النفاس في رأي آخر في المذهب الحنفي إذا كان حاضراً وقت الولادة، أو وقت حضوره أو وقت التهنئة إن كان غائباً عند أبي حنيفة ، ومن مقدار مدة النفاس في رأي آخر في المذهب الحنفي .

2- ألا يكون الزوج أقر بالولد صراحة أو دلالة كقبوله التهنئة أو سكوته عندها ولم يرد.

3- أن يكون كل من الزوجين أهلاً للعان عند ابتداء الحمل بالولد.

4- أن يكون الولد حياً عند الحكم بقطع النسب بعد إجراء اللعان والقضاء بنفيه عنه، فلو مات قبل القضاء بنفي نسبه لا ينتفى نسبه، لأن النسب يتقرر بالموت.

وإذا انتفى نسبه باللعان لا يجوز عند الحنفية أن يلحق بغيره لو ادعاه لاحتمال أن يكذب الزوج نفسه ويعترف بنسبه على ما بيناه من قبل.

- ثبوت النسب في الزواج الفاسد:

الزواج الفاسد لا تصير به المرأة فراشاً بالعقد بل بالدخول الحقيقي على المفتى به في المذهب الحنفي، فإذا ولدت المتزوجة زواجاً فاسداً لأقل من ستة أشهر من حين الدخول الحقيقي لا يثبت نسبه من الزوج إلا إذا ادعاه ولم يصرح إنه من الزنا، وإن جاءت به لستة أشهر فأكثر ثبت نسبه بدون دعوة منه.

وإذا أتت به بعد المتاركة لأقل من سنتين من تاريخ الفرقة عند الحنفية، وإذا ولدته لأكثر من ذلك لا يثبت نسبه.

ويلاحظ هنا: أن الولد إذا ثبت نسبه بالزواج الفاسد لا ينتفى بنفيه، لأن النسب الثابت بالفراش لا ينتفي إلا باللعان، ولا لعان إلا في الزواج الصحيح، وبناء عليه يكون الفراش الثابت بالزواج الفاسد أقوى من الفراش الثابت بالزواج الصحيح. هكذا يقولون:

ثبوت النسب بالمخالطة بشبهه: هذه المخالطة لا تصير بها المرأة فراشاً، بل يثبت بها شبهة الفراش فإذا ولدت بعد أن خالطها بشبهة لا يثبت نسبه بتلك الشبهة إلا إذا انضم إليها الدِّعوة، وحينئذ يكون ثبوت النسب بالإقرار لا بالفراش.

- أما ثبوت النسب بعد الفرقة بين الزوجين فهو على التفصيل الآتي:

1- المطلقة قبل الدخول: إذا ولدت ولداً لستة أشهر من وقت العقد ولأقل من ستة أشهر من وقت الطلاق ثبت نسبه من زوجها لإمكان الحمل منه وقت الفراش عند الحنفية الذي يثبت عندهم بمجرد العقد كما قدمنا، وإن جاءت به لأقل من ستة أشهر من وقت العقد لا يثبت نسبه، لأنه يدل على أنها حملت قبل أن تكون فراشاً لهذا الزواج، وإن جاءت به لستة أشهر من وقت الطلاق لا يثبت نسبه منه، لاحتمال أنها حملت بعد الطلاق من غيره، واحتمال أنها حملت قبل الطلاق لا يكفي لإثبات النسب هنا، لأن زوجيتها انقطعت بهذا الطلاق البائن حيث لا عدة عليها.

وقد عللوا ذلك: بأن القاعدة عندهم. أن كل امرأة لا تجب عليها العدة لا يثبت نسب ولدها من زوجها إلا إذا علم يقيناً أنه منه بأن تأتي به لأقل من ستة أشهر من حين الطلاق، وكل امرأة تجب عليها العدة يثبت نسب ولدها من زوجها إلا إذا علم يقيناً أنه ليس منه بأن تجيء به لأكثر مدة الحمل.

2- المطلقة بعد الدخول: ولها حالتان. إما أن تقر بانقضاء عدتها قبل الولادة أولاً. فإذا أقرت بانقضاء عدتها في مدة يحتمل انقضاء العدة فيها، ثم جاءت بولد لستة أشهر فأكثر من وقت الإقرار فلا يثبت نسبه من مطلقها سواء كان الطلاق رجعياً أم بائناً، لاحتمال أن يكون الحمل من غيره بعد العدة، وإن ولدته لأقل من ستة أشهر من وقت الإقرار بانقضاء عدتها ثبت نسبه وتكون كاذبة في إقرارها لأنها وقت الإقرار كانت حاملاً بيقين.

وإذا لم تقر بانقضاء عدتها وجاءت بولد لأقل من سنتين من وقت الطلاق ثبت نسبه من مطلقها سواء كان الطلاق رجعياً أم بائناً.

وإن جاءت به لسنتين فأكثر من وقت الطلاق ثبت نسبه إذا كان الطلاق رجعياً، ويحمل على أن زوجها خالطها أثناء العدة وتكون رجعة.

وإن كان الطلاق بائناً لا يثبت نسبه، لأن الحمل كان بعد زوال الفراش إلا إذا ادعاه، فإنه يثبت نسبه بالدَّعوة لا بالفراش، ويحمل هذا الادعاء على أنه خالطها بشبهة أثناء العدة.

3- المتوفى عنها زوجها: إما أن تدعي الحمل أولاً.

فإن ادعت الحمل وجاءت بولد لأقل من سنتين من تاريخ الوفاة ثبت نسبه من زوجها لقيام الفراش حتى حملها، وإن جاءت به لسنتين فأكثر لا يثبت نسبه للتيقن بأن علوقها به كان بعد الموت.

وإن لم تدع الحمل وأقرت بانقضاء عدتها بمضي أربعة أشهر وعشرة أيام ثم جاءت بولد لأقل من ستة أشهر من وقت انقضاء عدتها الذي زعمته ثبت نسبه لإمكان علوقها به قبل وفاته وظهور كذبها في دعوى انقضاء عدتها.

وإن جاء به لستة أشهر فأكثر من وقت انقضاء عدتها لا يثبت نسبه لاحتمال أن يكون حملها من غير زوجها بعد انقضاء عدتها.

المبحث الثاني

- الإقرار:

كما يثبت النسب بالفراش، وهو قاصر على إثبات نسب الأولاد، لأنه يكون بين رجل وامرأة بينهما علاقة حصل بينهما اتصال جنسي مشروع ولو بوجه، وولادة من المرأة في ظل هذه العلاقة أو آثارها بعد انقطاعها في العدة، وهو في الواقع منشئ للنسب، ولا يحتاج إلى إقرار.

كما يثبت بذلك يثبت بالإقرار، ويسميه الفقهاء بثبوت النسب بالدِّعوة.

ومعنى الإقرار بالنسب: إخبار الشخص بوجود القرابة بينه وبين شخص آخر.

وهذه القرابة تتنوع إلى نوعين:

1- قرابة مباشرة: وهي الصلة القائمة بين الأصول والفروع لدرجة واحدة كالبنوة والأبوة والأمومة.

2- قرابة غير مباشرة: وهي قرابة الحواشي الذي يجمعهم أصل مشترك دون أن يكون أحدهما فرعاً لآخر كالأخوة والعمومة، ومثلها قرابة الأصول والفروع بعد الدرجة الأولى كالأجداد والحفدة.

ومن هنا تنوع الإقرار بالنسب إلى نوعين:

الأول: إقرار الشخص بالنسب على نفسه وهو الإقرار بأصل النسب وهذا يكون بالولد الصلبي إبناً أو بنتاً والوالدين المباشرين له. كأن يقول : هذا ابني أو أبي، أو هذه ابنتي أو أمي.

وفي هذا النوع إذا توفرت شروط صحة الإقرار يثبت النسب وأصبح المقر بنسبه ابناً أو بنتاً أو أباً أو أماً، ولا يجوز له الرجوع عن هذا الإقرار. وإنما كان هذا إقراراً بالنسب على نفس المقر لأن النسب فيه علاقة بينه وبين المقر له فقط وليس فيه تحميل النسب على غيرهما، وإذا ثبتت هذه القرابة ترتبت جميع الآثار عليها وتتعدى هذه الآثار إلى جميع الأقارب والأرحام دون استثناء.

ويشترط لثبوت النسب به في حالة الإقرار بالبنونة الشروط الآتية:

1- أن يكون المقر له بالبنونة مجهول النسب حتى يمكن إثبات بنوته للمقر، فلو كان له نسب معروف لم يصح الإقرار، لأن الشخص لا يكون له أبوان، ونسبه الثابت قبل الإقرار لا يقبل الفسخ كما لا يقبل التحويل.

ويلاحظ أن ولد المتلاعنين وإن حكم بنفي نسبه من الزوج الملاعن إلا أنه يعتبر في حكم ثابت النسب فلا يثبت نسبه بإقرار غير الملاعن لجواز أن يكذب الملاعن نفسه فيثبت نسبه منه، ولأن في قبول هذا الاقرار تسجيلاً للفاحشة على المرأة.

2- أن يكون المقَر له بالبنوة مما يولد لمثل المقِر بأن تكون سنهما تحتمل ذلك، فلو كانا في سنين متساويين أو متقاربين بحيث لا يولد أحدهما للآخر لم يصح الإقرار، لأن الواقع يكذبه في هذا الإقرار.

3- أن يصدق المقَر له المقِر في هذا الإقرار إذا كان من أهل المصادقة، وهو المميز عند الحنفية، لأن الإقرار حجة قاصرة على المقر فلا يتعدى إلى غيره إلا ببينة أو تصديق من الغير، وهذا الإقرار يتضمن دعوى البنوة على المقَر له، ويترتب على هذا النسب حقوق لكل من المقِر والمقَر له على الآخر.

فإن كان المقَر له غير مميز ثبت النسب دون حاجة إلى تصديق، لأن غير المميز ليست له عبارة معتبرة، ولأن هذا الإقرار - من ناحية أخرى - فيه منفعة أدبية لهذا الصغير بإثبات نسبه بعد أن كان مجهولاً، ومنفعة مادية غالباً لحاجته إلى من يقوم بشئونه والإنفاق عليه، ولو كان مميزاً لبادر إلى التصديق ما لم يمنعه مانع منه.

وإذا كان ثبوت النسب بالإقرار يتوقف على تصديق المقر له، فلو صدقه ثبت النسب، ولو كذبه لا يثبت النسب بعد هذا التكذيب، لكنه لا يبطل الإقرار بل يظل قائماً ما دام المقَر له حياً لجواز أن يرجع عن تكذيبه ويصدقه فيثبت النسب، لأن الإقرار بالنسب لا يبطل بالرد من المقر له بخلاف الإقرار بالحقوق المالية فإنه يبطل بالرد.

وفي حالة التكذيب لو أقام المقِر البينة على دعواه ثبت النسب بالبينة لا بالإقرار.

4- ألا يصر المقر بأن هذا ابنه من الزنا، فإن صرح بذلك لا يثبت به النسب، لأن الزنا جريمة لا تصلح أن تكون سبباً للنسب الذي هو نعمة من نعم الله التي امتن بها على عباده يقول جل شأنه: { وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً } [النحل:72].

ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : "الولد للفراش وللعاهر الحجر".

ولأن المقر بالنسب لا يلزم ببيان السبب في تلك البنوة إذا لم يصرح به، لأن الأصل حمل حال الناس على الصلاح حتى يثبت عكس ذلك، ولأنه لو صرح بالسبب من زواج صحيح أو فاسد كان النسب ثابتاً بالفراش بعد إثباته لا بالإقرار المجرد.

وكما يقبل الإقرار من الرجل بالبنوة بالشروط السابقة كذلك يقبل من المرأة الإقرار بالبنوة بشروط ثلاثة : ألا يكون للولد أم معروفة .

وأن يولد مثله لمثلها .

وأن يصدقها الولد في هذا الإقرار إن كان مميزاً عند الحنفية.

ويقتصر النسب عليها إذا لم تكن زوجة ولا معتدة، فإن كانت زوجة أو معتدة من زواج صحيح أو فاسد وادعت أن الولد ليس من هذا الزوج يثبت نسبه منها بإقرارها، لأن هذا الإقرار إلزام لنفسها لا لغيرها وهي أهل للالتزام بالنسب كالرجل.

فإن لم تدع أنه من غير زوجها لا يثبت النسب من زوجها إلا إذا صدقها الزوج في ذلك الإقرار، لأن إقرارها في هذه الحالة يتضمن تحميل النسب على غيرها وهو الزوج، فإن صدقها أو أقامت البينة على أنه ولد على فراشه بشهادة القابلة أو امرأة أخرى من أهل العدالة ثبت النسب منهما معاً.

وبهذا يظهر الفرق بين إقرار المرأة ببنوة ولد من الزنا وإقرار الرجل بذلك.

فيصح إقرار المرأة إذا أثبتت ولادته له دون الرجل عند الحنفية بلا خلاف.

الإقرار بالأبوة أو الأمومة:

وكما يصح إقرار الرجل والمرأة ببنوة الولد يصح إقرار الولد بأبوة شخص معين، أو بأمومة امرأة معينة، وتثبت الأبوة والأمومة إذا توفرت شروط ثلاثة .

1- أن يكون المقِر مجهول الأب أو الأم .

2- وأن يولد مثله لمثل المقَر له منهما .

3- وأن يصدقه المقَر له مطلقاً ، لأنه لا يكون إلا كبيراً أو كبيرة.

ويزيد إقراره بالأبوة ألا يصرح بأنه أبوه من الزنا، أما إذا صرح في إقراره بالأمومة بأنها أتت به من سفاح، وتوفرت الشروط الثلاثة السابقة، وأثبتت ولادته من الزنى ثبت نسبه منها.

ومما ينبغي ملاحظته هنا: أن المقر بالنسب إذا أنكر أنه أقر فأقام المستفيد من هذا الإقرار بينة على إقراره ثبت ذلك الإقرار بتلك البينة وثبت النسب بذلك الإقرار.

الثاني: وهو إقرار الشخص بالنسب على الغير، ويكون بالإقرار بالنوع الثاني من القرابة، ويسمى الأقرار بفرع النسب. كالإقرار بالأخوة والأعمام والأجداد وأولاد الأولاد.

فإذا قال: هذا أخي كان إقراراً بالنسب على أبيه، لأن معناه هذا ابن أبي، وإذا قال : هذا عمي كان إقراراً بالنسب على جده، لأن معناه هذا ابن جدي وهكذا بقية القرابات.

وهذا الإقرار يتضمن أمرين:

1- تحميل النسب على الغير.

2- استحقاق المقَر له في مال المقَر عليه بعد وفاته.

والإقرار حجة قاصرة لا تتعدى المقر إلى غيره فلا يكون له أثر فيما يتعلق بالغير فيرد إقراره بالنسب فلا يثبت به نسب المقر له على ذلك، لأنه لا يملك أحد أن يلحق نسب شخص بآخر بمجرد دعواه حتى ولو صدقه المقَر له في ذلك الإقرار، لأنه متهم في هذا التصديق حيث يجر إليه نفعاً لا يوجد بدون الإقرار.

ولا يثبت النسب إلا بأحد أمرين:

أولهما : أن يصدقه المقَر عليه بالنسب، ويكون هذا التصديق من النوع الأول من الإقرار، وهو الإقرار على النفس، ولا يكون لإقرار المقر هنا أثر في ثبوت النسب بل يعتبر تصديق المقر عليه إقراراً مبتدأ بالنسب، لأنه لو أقر به ابتداء ثبت إذا توفرت شروطه.

ثانيهما : إذا أقام المقر بينة على دعواه أو صدقه ورثة المقَر عليه بعد وفاته، لأن تصديقهم يعتبر بينة فيثبت النسب بالبينة لا بالإقرار، وهو النوع الثالث من مثبتات النسب.

وإذا لم يكن للإقرار على الغير أثر في ثبوت النسب جاز له الرجوع عنه بعد صدوره منه.

وإذ ثبت على إقراره قُبل في حق نفسه فيعامل بمقتضى ذلك الإقرار في الحقوق المالية إذا توافرت بقية شروط صحة الإقرار من كون المقر له مجهول النسب، وكونه مما يتصور أن يولد مثله لمثل المقر عليه، وأن يصدق المقر له المقر في هذا الإقرار، فلو كان المقر له عاجزاً عن الكسب ولا مال له لزم المقر نفقته إن كان سراً.

فإذا مات من يرثه المقِر بالقرابة النسبية وورث منه شاركه المقَر له في نصيبه عند الحنفية والمالكية الحنابلة على اختلاف بينهم في مقدار المشاركة.

وذهب الشافعية إلى أنه إن ثبت نسبه ورث في مرتبته، وإن لم يثبت لا يرث لا بنسب ولا بغيره لأن إقرار المقر بالنسب باطل وهو أساس الإرث، فإذا لم يثبت لا يثبت ما يترتب عليه ثم قالوا: إن هذا في الظاهر أي في القضاء، وهل يلزمه ديانة قولان أصحهما لا يلزمه.

وإذا مات المقر بهذا النسب ولم يوجد له وارث بأي سبب من الأسباب استحق المقر له تركته كلها بطريق الميراث عند الحنفية ، لأنه لما بطل إقراره بهذا النسب بقي إقراره بالمال صحيحاً، لأنه لا يعدوه إلى غيره إذا لم يكن له وارث معروف، ولذلك جعلوه آخر مراتب الورثة فيستحق كل التركة إذا لم يكن له وارث أصلاً، وباقيها بعد فرض أحد الزوجين لأنهم لا يقولون بالرد على الزوجين.

- الفرق بين الإقرار بالبنوة والتبني:

إن الإقرار بالبنوة هو اعتراف بنسب حقيقي لشخص مجهول النسب، فهو يعترف ببنوة ولد مخلوق من مائه فيكون ابناً له ثابت النسب منه وليس له نسب آخر يتساوى مع ابنه الثابت نسبه بالفراش لا فرق بينهما إلا في طريق الإثبات تثبت له كافة الحقوق الثابتة للأبناء من النفقة والإرث وحرمة المصاهرة، واحتمال أنه كاذب في الواقع لا يلتفت إليه، لأنه لا يوجد ما يثبت كذبه، فالظاهر يصدقه، والله يتولى سرائره.

أما التبني فهو استلحاق شخص ولداً معروف النسب لغيره أو مجهول النسب كاللقيط ويصرح أنه يتخذه ولداً له مع كونه ليس ولداً له في الحقيقة.

وهذا النوع هو الذي كان في الجاهلية، وقد كانوا يجعلونه كالابن الحقيقي يأخذ أحكامه من النفقة والميراث وتحريم زوجته على متبنيه.

فلما جاء الإسلام أبطله وبين أنه مجرد دعوى لا أساس لها يقول الله تعالى: { وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ * ادْعُوهُمْ لآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا } [الأحزاب: 4، 5].

ومع أن هذا التبني كذب وافتراء على الله والناس كما صرح القرآن بذلك يؤدي إلى مفاسد كثيرة.

منها: أنه يأتي بشخص أجنبي يعيش مع أجنبيات عنه لا تربطه بهم رابطة مشروعة، فيطلع منهن على ما حرم الله الاطلاع عليه ويحرم عليه الزواج منهن مع أنهن محللات له.

ومنها: أنه يحمل الأقارب واجبات تترتب على ذلك فتجب نفقة ذلك المتبنى عليهم إن كان محتاجاً إليها، ويشاركهم الميراث فيحرمهم من بعض ما يستحقونه منه.

وقد يستعمل وسيلة للحرمان منه، بأن يعمد الرجل صاحب المال فيتبنى ابناً ليرث ماله ويحرم منه أصحاب الحق في الميراث بشرع الله من أخوة وأخوات فيغرس بذلك بذور الشقاق والحقد بين الأسر، ويفككها ويقطع حبل المودة بين أفرادها.

ولو لم يكن في التبني من هذه المفاسد إلا إحداها لكان خليقاً بالإلغاء والإهدار.

وإذا كان الشارع قد حرم التبني لما فيه من المفاسد وأغلق بابه فلم يغلق باب الإحسان بل فتحه على مصراعيه، وجعل للشخص إذا وجد طفلاً بائساً محروماً ممن يقوم بشأنه ويتولاه برعايته أن يأخذه ليربيه وينفق عليه ليمسح بيده الرحيمة عن هذا المخلوق آثار البؤس والفاقة، كما لم يمنعه من أن يهبه بعض ماله أو يوصي له ببعضه إذا لم يبلغ الغاية من التربية دون أن يلحقه بالنسب إليه، ودون أن يجوز بفعله على حقوق أبنائه أو أقاربه.

المبحث الثالث

في البينة

كما يثبت النسب بالإقرار بشروطه السابقة يثبت النسب بالبينة، بل هي أقوى من الإقرار، لأنها حجة متعدية إلى الغير، والإقرار حجة قاصرة تقتصر على المقر.

ولذلك لو تعارض إقرار وبينة في دعوى النسب رجح جانب صاحب البينة.

فلو كان هناك ولد ليس له نسب معروف فأخذه رجل وادعى نسبه، وتوفرت شروط الإقرار السابقة ثبت نسبه بذلك الإقرار، فلو جاء رجل آخر وادعى نسبه وأقام بينة صحيحة على أنه ابنه كان أحق به من المقر، لأن النسب وإن ثبت في الظاهر بالإقرار إلا أنه غير مؤكد فاحتمل البطلان بالبينة لأنها أقوى منه.

والبينة التي يثبت بها النسب هنا هي شهادة رجلين أو رجل وامرأتين.

فإذا ادعى رجل: أن فلاناً ابنه أو أبوه أو أخوه أو عمه أو جده أو ابن ابنه وأنكر المدعى عليه هذه الدعوى فأقام المدعي البينة على دعواه قبلت هذه الدعوى وثبت النسب وترتبت كل الحقوق والأحكام التي تبنى على هذا النسب بعد توافر الشروط المصححة لتلك الدعوى وقد قدمناها في الإقرار.

ومما يلاحظ هنا: أن دعوى النسب تقبل مجردة في بعض الحالات، ولا تقبل في بعضها إلا إذا كانت ضمن حق آخر على التفصيل الآتي.

فإذا كانت بأصل النسب وهو الأبوة والبنوة. فإن كانت حال حياة الأب أو الابن سمعت الدعوى مجردة بالنسب، ويجري الإثبات على النسب قصداً، وأولى أن يقبل ضمن حق آخر كالنفقة والميراث.

وإن كانت الدعوى بعد وفاة الأب أو الابن فلا تسمع الدعوى بالنسب استقلالاً، لأنها دعوى على ميت وهو غائب، والغائب لا يصح القضاء عليه قصداً ويصح تبعاً.

أما إذا كانت ضمن حق آخر كدعوى الميراث مثلاً، فإنها تقبل لأن النسب هنا ليس مقصوداً لذاته بل هو وسيلة لإثبات الحق المتنازع فيه، والخصم هنا ليس هو الميت بل الورثة أو من بيده التركة.

وإذا كانت الدعوى بما يتفرع على أصل النسب كالأخوة والعمومة مثلاً فلا تسمع الدعوى بالنسب على سبيل الاستقلال حياً كان المدعى عليه بالنسب أو ميتاً، لأنه هذه الدعوى فيها تحميل النسب على الغير، ولا يثبت النسب إلا إذا ثبت من الغير أولاً وهو الأب أو الجد فلا يكون النسب هنا مقصوداً بالذات للمدعي، بل المقصود ما يترتب عليه من الحقوق كالنفقة والإرث.

فإذا ادعى النسب مجرداً عن حق آخر كانت دعوى بحق غير مقصود له فلا تقبل، وإن كانت ضمن دعوى حق آخر لا يثبت إلا إذا ثبت النسب، كالنفقة أو الميراث كان دعوى مقبولة سواء كان المدعى عليه حياً أو ميتاً لأن المقصود الأصلي هو الحق المترتب على ثبوت النسب، والخصم هنا من بيده التركة، فيقضي له بالحق الذي يدعيه ويثبت النسب ضمناً وتبعاً.

كما يلاحظ أيضاً: أن هذه الطرق الثلاثة ليست كلها في مرتبة واحدة، بل إن الفراش هو السبب الحقيقي للنسب لأنه المنشيء له، أما الإقرار والبينة فهما سببان ظاهريان يدل كل منهما على وجود السبب الحقيقي وهو الفراش، لأن الولد الشرعي لا يكون إلا ثمرة فراش.

Free Web Hosting