الباب الرابع الولاية:

الفَصل الأول

في الولاية على النفس

- تعريف ولاية النفس:

- ويراد بها هنا: سلطة الولي التي تتعلق بنفس المولى عليه من صيانته وحفظه وتأديبه وتعليمه العلم أو الحرف وتزويجه.

ولما كان الطفل بعد انتهاء فترة الحضانة عاجزاً عن القيام بتلك الأمور بنفسه حيث لا يدرك وجه المصلحة فيها كان في أشد الحاجة إلى من يقوم بها، ويسمى ذلك الشخص بالولي.

ولما كان مدار ثبوتها عجز المولى عليه من إدراك وجه المصلحة فيما يحتاج إليه ثبتت على كل عاجز سواء كان صغيراً أو كبيراً مجنوناً أو معتوهاً.

فتثبت على الصغير حتى يبلغ عاقلاً مأموناً على نفسه، وعلى الصغيرة والكبيرة حتى تتزوج أو تتقدم بها السن وتصبح مأمونة على نفسها بكراً كانت أو ثيباً، كما تثبت على المجانين والمعاتيه حتى تزول علتهم.

- من تثبت له هذه الولاية؟

تثبت الولاية على النفس لأقارب المولى عليه من العصبات الذكور، وهم أصوله من الأب والجد أبي الأب وإن علا، وفروعه من الأبناء وأبناء الأبناء، وفروع الأبوين من الأخوة الأشقاء والأخوة لأب وأبنائهم، وفروع الأجداد وهم الأعمام وأبناؤهم، غير أن الولاية على الأنثى لا تكون إلا للعاصب المحرم فلا تثبت لابن العم، فإن لم يوجد من العصبات غيره أبقاها القاضي عند حاضنتها أو اختار لها شخصاً أميناً وضعها عنده.

وتثبت الولاية لهؤلاء على حسب ترتيبهم في الميراث. فالفروع ثم الأصول ثم الأخوة وأبناؤهم، ثم الأعمام وأبناؤهم بالنسبة لغير الصغار، أما الصغار فتثبت الولاية عليهم أولاً للأصول لعدم وجود أبناء يصلحون للولاية، فإن لم يوجد إلا واحد كانت الولاية له، وإن تعددوا قدم الأقرب، وإن تساووا في الدرجة قدم الأقوى قرابة كالأخ الشقيق على الأخ لأب، والعم الشقيق على العم لأب، فإن تساووا في الدرجة وقوة القرابة تثبت لهم جميعاً، ويختار القاضي أصلحهم للولاية. هذا في مذهب الحنفية.

- متى تنتهي هذه الولاية؟

تنتهي هذه الولاية بالنسبة للفتى بالبلوغ بالعلامات الطبيعية، فإن لم تكن فبالسن وهو خمس عشرة سنة عند جماهير الفقهاء ، وهو ما يجري عليه العمل في القضاء، لأنه الراجح في مذهب الحنفية، فإذا بلغ بأحدهما وكان مأموناً على نفسه انتهت هذه الولاية، وكان له الخيار في الإقامة مع وليه أو الانفراد عنه في السكنى كما يقول الفقهاء.

أما الفتاة فلا تنتهي الولاية عليها بالبلوغ بل تستمر إلى أن تتزوج أو تتقدم بها السن حتى تصير مأمونة على نفسها فلها أن تنفرد بالسكنى أو تسكن مع أمها.

- شروط الولي على النفس:

يشترط في من تثبت له الولاية على النفس الشروط الآتية :

1- أن يكون بالغاً عاقلاً، لأن غير البالغ العاقل لا ولاية له على نفسه بل هو محتاج لمن يلي عليه.

2- أن يكون قادراً على القيام بما تتطلبه الولاية من أعمال، فلو كان عاجزاً لا يكون أهلاً لها.

3- أن يكون أميناً على المولى عليه في نفسه ودينه، فلو لم يكن أميناً بأن كان فاسقاً مستهتراً لا يبالي بما يفعل لا يكون أهلاً للولاية، لأنها شرعت لمصلحة الصغير وليس من مصلحته أن يوضع عند هذا الفاسق لأنه يخشى عليه أن يتخلق بأخلاقه، وكذلك لو كان مهملاً كأن يترك الصغير مريضاً بلا علاج أو يحرمه من التعليم وعنده استعداد له، فإذا كان كذلك انتقلت الولاية إلى من يليه من الأولياء محافظة على مصلحة الصغير.

4- أن يكون متحداً مع المولى عليه في الدين، لأن اختلاف الدين يؤثر في رابطة القرابة الموجودة بينهما فيتعرض الصغير لخطر التأثر بدين وليه، فلو كانت الولاية للأخوة وكان للصغير أخوان أحدهما موافق له في الدين والآخر يخالفه فيه كانت الولاية للموافق في الدين.

وهذا الشرط في غير القاضي، لأنه نائب عن الحاكم صاحب الولاية على جميع الرعايا مسلمين وغير مسلمين، وكما تشترط هذه الشروط في ثبوت الولاية ابتداء يشترط بقاؤها طوال مدة الولاية، فإذا تغير شرط منها سلبت الولاية منه لأنه أصبح غير أهل لها.

الفَصل الثّاني

في الولاية على المال

- تعريف ولاية المال:

يراد بالولاية على المال: السلطة التي يملك بها الولي التصرفات والعقود التي تتعلق بمال المولى عليه من البيع والشراء والإجارة والرهن والإعارة وغيرها.

وهذه الولاية تثبت على العاجزين عن تدبير شئونهم المالية من الصغار والمجانين والمعاتيه باتفاق الفقهاء، كما تثبت على السفهاء وذي الغفلة عند جماهير الفقهاء خلافاً لأبي حنيفة.

أما الصغير: فيمر بمرحلتين حتى يبلغ. المرحلة الأولى: مرحلة عدم التمييز وتنتهي عادة ببلوغ سن السابعة وفي هذه المرحلة تكون الولاية عليه تامة، فجميع التصرفات لوليه، لأن الصغير فيها لا إدراك له ولا تمييز ومن ثم لا تكون له عبارة معتبرة، فأي تصرف يصدر منه يكون باطلاً.

فإذا بلغ سن السابعة من عمره بدأت المرحلة الثانية وهي مرحلة التمييز وفيها يدرك الفرق بين النافع والضار بصورة إجمالية، كما يعرف معاني العقود إجمالاً، فيدرك أن معنى بقت إخراج للشيء من حيازته، ومعنى اشتريت إدخال للمشتري في حيازته، فيتحقق له بهذا أهلية للتصرف لكنها ناقصة يحتاج معها إلى رأي وليه، ومن هنا قرر فقهاء الحنفية إن تصرفاته في هذه المرحلة ثلاثة أنواع :

1- تصرفات نافعة نفعاً محضاً. كقبول الهبة أو الهدية، وهذه تصح منه وتنفذ ولا تتوقف على إذن وليه.

2- تصرفات ضارة ضرراً محضاً كهبة ماله وإهدائه وإبراء المدين له من الدين وإقرار بالدين، وهذه باطلة لا تنفذ حتى ولو أجازها وليه، لأن الولي لا يملكها ابتداء فلا يملك تمليكها لغيره بالإجازة.

3- تصرفات مترددة بين النفع والضرر كالبيع والشراء والإجازة وعقود المعاوضات كلها، وهذه تصح باعتبار ما عنده من إدراك وتمييز وأهلية ناقصة، ولكنها تتوقف على رأي الولي. إن أجازها - في حدود ما يملكه من الولاية - ونفذت لظهور أن نفعها أكثر من ضررها، وإن ردها بطلت لظهور أن ضررها أكبر وتستمر هذه المرحلة إلى البلوغ، وهو يكون بالعلامات الطبيعية إن وجدت وبالسن إن لم توجد، وهو مقدر عند جمهور الفقهاء بخمس عشرة سنة، وعليه العمل في القضاء، وخالف أبو حنيفة فجعله ثماني عشرة سنة للفتى، وسبع عشرة سنة للفتاة، وجعله مالك ثماني عشرة سنة لها استناداً لقول ابن عباس في تفسيره لقوله تعالى: { وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ } [الأنعام: 152] فقد فسر أشد اليتيم بثماني عشرة سنة فكان حد البلوغ بالسن، ولكن أبا حنيفة أنقص الفتاة سنة لأنها أسرع إلى البلوغ عادة من الفتى.

أما الجمهور فقد استندوا إلى ما رواه الجماعة عن ابن عمر رضي الله عنهما قال : "عرضت على النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد وأنا ابن أربع عشرة سنة فلم يُجزني، وعرضت عليه يوم الخندق وأنا ابن خمس عشرة فأجازني".

فإجازة الرسول وإذنه بالقتال وهو ابن خمس عشرة سنة دليل على أن أدنى سن البلوغ مبلغ الرجال هو ذلك.

وإذا بلغ عاقلاً كملت أهليته ولكن لا يسلم إليه المال إلا إذا ثبت رشده، وهو الإحسان في التصرف في المال بحيث لا ينفقه إلا على مقتضى العقل والشرع، وما دام لم يسلم إليه ماله تبقى الولاية المقيدة لتصرفاته فلا يتصرف إلا بالإذن.

ولم يحدد الفقهاء للرشد سناً معينة، لأنه أمر يختلف باختلاف الأشخاص والأزمان، بل وكلوا ذلك إلى التجربة والاختيار وهو قول الجمهور ، أيضاً وزادوا أنه يثبت بشهادة رجلين عدلين في الذكور والإناث وبشهادة النساء وحدهن أو مع الرجال في الإناث فقط.

وسند هذا الرأي قوله تعالى: { وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمْ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلا مَعْرُوفًا * وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ } [النساء: 5-6] فإذا ثبت الرشد بالفعل سلم إليه ماله.

وذهب أبو حنيفة إلى أن ذلك يستمر إلى خمس وعشرين، فإذا بلغها سلم إليه ماله وإن لم يرشد بالفعل، لأن الغرض من منع المال عنه تهذيبه وتأديبه بصورة حسية، فإذا بلغ هذه السن ولم تفد التجارب معه لم يكن هناك أمل في ذلك، وحينئذ يدور الأمر بين منع ماله عنه وفيه إهدار لكرامته وهو عاقل وبين دفع المال إليه والمحافظة على كرامته كإنسان، وإذا دار الأمر بين الإنسانية والمال رجحت كفة الإنسانية ومنع الحجر عليه، ولأنه يكون في هذه السن إمكان أن يكون جداً.

ولأنه مخاطب بالتكاليف الشرعية مأمور بالوفاء بالعقود في قوله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ } [المائدة: 1] وفي الحجر عليه معارضة لهذه الآية.

أما المجنون: وهو عديم العقل فيأخذ حكم الصغير قبل سن التمييز إذا كان جنونه مطبقاً أو متقطعاً في حال الجنون، أما في حال الإقامة فهو كالعاقل.

أما المعتوه: وهو قليل الفهم فاسد التدبير مختلط الكلام فيأخذ حكم الصغير بعد سن التمييز.

وأما ذو الغفلة: وهو الذي لا يهتدي إلى التصرفات النافعة ويغبن في البياعات لضعف إدراكه فيأخذ حكم السفيه، وهو البالغ العاقل غير الرشيد يحجر عليه ويمنع عنه ماله.

من تثبت له الولاية المالية:

ذهب الحنفية إلى أنَّ الولاية المالية تثبت على الصغير على الصغير عند الحنفية للأب ثم لوصيه ثم لوصي وصيه، ثم للجد الصحيح وهو أبو الأب وإن علا، ثم لوصيه ثم لوصي وصيه، ثم للقاضي ثم لوصي القاضي.

فهي تثبت للأب أولاً، فإن لم يوجد وكان قد أختار وصياً ليدير شئون أولاده المالية ثبتت لهذا الوصي وإن كان الجد موجوداً، وكذلك إذا اختار وصي الأب وصياً ليقوم بدله، فإن لم يوجد هذا الوصي أو كان وتوفي كانت الولاية للجد، ثم من بعده لوصيه ولوصي وصيه إن وجد، فإن لم يوجد واحد من هؤلاء كانت الولاية للقاضي الذي يعين في الغالب وصياً يتولى ذلك الإشراف.

وذهب المالكية والحنابلة إلى أن الولاية عندهم للأب ثم لوصيه ثم للقاضي ثم وصيه فلم يجعلوها للجد أصالة وإن كان يصح أن يكون وصياً من قبل الأب أو القاضي قالوا: لأنه لا يدلي إلى الصغير بنفسه وإنما يدلى إليه بالأب فلا تكون له الولاية على مال الصغير كالأخ.

ذهب الشافعية إلى جعل الولاية أولاً للأب ثم للجد ثم لوصي من تأخر موته منهما ثم للقاضي ثم لمن يقيمه وصياً، لأن الجد عندهم ينزل منزلة الأب عند عدمه لوفر الشفقة عنده مثل الأب ولذلك تثبت له الولاية في التزويج فتثبت ولايته في المال أيضاً.

وتقديم الأب على غيره أمر طبيعي لأنه أشفق الناس على أولاده وأحرصهم على مصالحهم، وكان وصي الأب مقدماً على الجد لأن اختيار الأب وصياً مع وجود الجد دليل على أنه أولى من الجد، لأنها تعتمد على الأمانة والتجربة والخبرة أكثر من اعتمادها على الشفقة التي يتميز بها الجد عن الوصي، وإرادة الأب في شئون ولده محترمة في حياته فكذلك تحترم بعد وفاته.

هذا وليس لأحد من العصبات غير الأب والجد حق في الولاية على المال إلا إذا جاءت بطريق الوصايا من الأب والجد أو الإختيار من القاضي وكذلك لا حق للنساء إلا من هذا الطريق.

أ ما الولاية على المجنون والمعتوه: فإذا كان الجنون أو العتة مصاحباً للبلوغ فإن الولاية تكون للأولياء السابقين لأنها كانت ثابتة بسبب الصغر ولم يوجد ما يقتضي رفعها فتستمر إلى الإفاقة قولاً واحداً في المذهب الحنفي.

أما إذا بلغ الصغير عاقلاً سليماً ثم طرأ عليه الجنون أو العته بعد رفع الولاية عنه فالراجح في المذهب الحنفي عود الولاية إلى الولي السابق لوجود العجز المقتضى للولاية وهو قول أبي حنيفة .

شروط الولي على المال:

شرط الفقهاء لأهلية الولاية على المال الشروط الآتية:

1- أن يكون كامل الأهلية بالبلوغ والعقل والحرية، لأن ناقصها لا ولاية له على ماله، فلا تكون له ولاية على غيره.

2- ألا يكون سفيهاً يخشى على مال القاصر من تصرفاته، فإن كان محجوراً عليه بالفعل فالأمر ظاهر، لأن الممنوع من التصرف في ماله يمنع من التصرف في مال غيره من باب أولى، وإن كان غير محجور عليه بالفعل لكن يستحق الحجر فلا ولاية له أيضاً لعدم ائتمانه على المال.

3- أن يكون متحداً مع القاصر في الدين، فإن كان الأب غير مسلم وأولاده مسلمون. كأن تكون أمهم قد أسلمت وهم صغار وبقي الأب على دينه فيكون الأولاد مسلمين تبعاً لأمهم، لأنهم يتبعون خير الأبوين ديناً فلا تثبت الولاية للأب عليهم في هذه الحالة، وكذلك لو كان الأب أسلم وتوفي وترك أولاده المسلمين فلا يكون لجدهم المخالف له في الدين ولاية عليهم.

وهذا الشرط في غير القاضي، لأن ولاية القاضي ولاية عامة مستمدة من رئيس الدولة الذي هو ولي من لا ولي له من رعاياه مسلمين وغير مسلمين.

- سلطة الولي في التصرفات:

الأصل في تصرفات الولي أنها غير مطلقة بل مقيدة بما فيه مصلحة المولى عليه، وعلى ذلك لا يملك التصرفات الضارة ضرراً محضاً، كهبة جزء من مال المولى عليه أو التصدق به، فإذا صدرت منه كانت باطلة، ويملك التصرفات النافعة نفعاً محضاً. كقبول الهبة والصدقة والوصية، ومثلها التصرفات الدائرة بين النفع والضرر كالبيع والشراء والإجارة والشركة بشرط ألا يكون فيها ضرر، فإن كان فيها ضرر كانت باطلة، هذا إجمال لحكم التصرفات، أما تفصيلها فإنها تختلف بإختلاف الشخص الذي يتولاها، وإليك البيان.

تصرفات الأب: يفصل الحنفية في الآباء فيصنفونهم أصنافاً أربعة.

الصنف الأول: أب معروف بالتبذير والإسراف وعدم الأمانة على المال، وهذا لا يستحق الولاية على أموال أولاده، فلو أعطيت له الولاية ثم ظهر كذلك سلبت ولايته وأخذ منه المال وسلم إلى من يستحقها إن كان موجوداً، وإلا سلم إلى وصي يختاره القاضي ليحقق للصغار ما ينفعهم ويحافظ على مصلحتهم.

الصنف الثاني: أب معروف بفساد الرأي وسوء التدبير لكنه أمين على المال غير مبذر فيه، وهذا يستحق الولاية نظراً لأمانته وعدم تبذيره، ولأنه أقرب الناس إلى أولاده وموفور الشفقة عليهم، ولكنه يراقب في تصرفاته فيمنع من كل ما يضر بمصلحة الصغير، فيشترط لصحة تصرفاته الدائرة بين النفع والضرر أن تكون فيها منفعة ظاهرة، فإن تحققت نفذت وإن لم تتحقق ألغى التصرف.

ولقد وضع بعض الفقهاء معياراً للمنفعة الظاهرة في بيع العقار أن يكون بضعف قيمته، وفي شرائه أن يكون بنصف القيمة، وفي بيع المنقول أن يكون بزيادة تساوي نصف قيمته وفي شرائه أن يكون بنقص يساوي ثلث قيمته فيبيع ما قيمته ستة بتسعة، ويشتري ما قيمته تسعة بستة.

وقيل غير ذلك لكن الفتوى على الأول.

الصنف الثالث: أب معروف بحسن الرأي والتدبير والتصرف. وهذا والذي قبله تثبت لهما الولاية الكاملة ومطلق التصرف في أموال من في ولايتهما صغاراً كانوا أو غير صغار.

فيملك الواحد منهما كافة التصرفات التي يملكها في ماله، ولا يستثنى منها إلا ما فيه ضرر محض كالتبرع والصدقة وما في معناهما، لأن التبرع إخراج المال الصغير بدون عوض فيكون ضرراً محضاً.

وعلى هذا يكون له بيع أموال المولى عليهم عقاراً كانت أو منقولاً ويشتري لهم مادام ذلك البيع والشراء بمثل القيمة أو بغبن يسير مما يتغابن فيه الناس عادة، ولا يملك أحد نقص تصرفه حتى الصغير إذا بلغ لا يملك ذلك، لأنه صدر عن ولاية تامة.

أما إذا كان البيع والشراء بغبن فاحش فإنه لا يكون صحيحاً، لأنه في معنى التبرع وهو ممنوع منه فيبطل البيع وينفذ الشراء على الأب لإمكان تنفيذه بدون ضرر بالمولى عليه.

ويجوز له أن يشتري مال الصغير لنفسه أو يبيع ماله له مادام خالياً من الغبن الفاحش، ويتم العقد بعبارته وحدها. كبعت هذا إلى ابني أو اشتريت هذا من ابني، وهي من الصور المستثناة من القاعدة العامة عندهم التي تمنع تولي الشخص الواحد طرفي العقد في العقود المالية بعبارة واحدة، وخالف في ذلك بعض الحنفية تمسكاً بالقاعدة كما يجوز أن يؤجر ماله ويتأجر له بدون غبن فاحش، ولا يجوز له أن يؤجر أموال الصغير لمدة طويلة لأنها غالباً تكون بأجرة ناقصة ففيها ضرر بأموال الصغير.

وله أن يودع أموال القاصر ولو كان الإبداع بأجر، لأنه من طرق المحافظة على أموال القاصر.

كما أن له أن يعير أموال الصغير إذا كان العرف يجري بذلك، لأنه كما يعير آلاته يستعير له من غيره فهو من قبيل تبادل الخدمات.

تصرفات الجد في ولايته:

اختلف أئمة المذهب الحنفي في تحديد نطاق تصرفات الجد على رأيين :

فيرى أبو حنيفة أنه لا يملك كل ما يملكه الأب من تصرفات، بل تقتصر ولايته على ما يملكه وصي الأب -وسيأتي بيانها- لأنه يلي الوصي في المرتبة فلا يكون له اختصاص أكثر من ذلك الوصي، ولو كان مساوياً للأب لتلاه في المرتبة وتقدم على وصي الأب في الولاية المالية.

وفي رواية في المذهب أنه يملك ما يملكه الأب لا فرق بينهما، لأن ولايته أصلية أثبتها له الشارع ولم يستمدها من أحد حيث ثبتت له باعتباره أبا عند فقد الأب، ولأنه موفور الشفقة كالأب فيملك ما يملكه، وتأخره في المرتبة عن وصي الأب لاحترام إرادة الأب لا لأنه أضعف في ولايته من وصي الأب.

ومع وجاهة رأي الثاني فقد اختار الفقهاء الرأي الأول للفتوى.

وعلى القول بتساوي الجد مع وصي الأب في نطاق الولاية فرقوا بينهما في أمرين.

أولهما: أن الجد يملك التعاقد لنفسه بالبيع والشراء من مال القاصر من غير غبن فاحش، أما الوصي فلا يملك ذلك إلا إذا كان في البيع والشراء مصلحة ظاهرة، كأن يشتري عقار الصغير بضعف قيمته وأن يبيع عقاره للصغير بنصف قيمته عند أبي حنيفة.

وثانيهما: أن وصي الأب يملك بيع أعيان التركة عقاراً أو منقولاً في سداد الديون وإن كان بعض الورثة كباراً لقيامه مقام الأب في تركته، فيتولى تسديد ديونه بمقتضى الإيصاء، وكذلك له تنفيذ الوصية.

أما الجد فلا يملك ذلك إلا إذا كان بعض الورثة كباراً، لأن ولايته بحكم الشرع على الصغار فقط فيقتصر تصرفه على بيع ما يخص الصغار فقط.

- الوصاية: وصي الأب:

إذا اختار الأب شخصاً ليكون خليفة عنه في الولاية على أولاده القصر بعد وفاته تكون له الولاية بعد وفاته إذا توفرت فيه شروط الوصاية، ومرتبته في الولاية مقدمة على ولاية الجد كما قدمنا.

وقد أجاز الفقهاء للجد أن يوصي قبل وفاته ويكون وصي الجد، ويتولى الأموال بعد وفاة الجد كذلك.

شروط الوصي:

شرط الفقهاء في أهلية الوصي مطلقاً مختاراً من الأب أو معيناً من القاضي. أن يكون كامل الأهلية عدلاً أميناً قادراً على إدارة شئون من له الوصاية عليه، وأن يكون متحداً في الدين مع من جعلت له الوصاية عليه.

وهذه الشروط معتبرة بعد وفاة الموصى في الوصي المختار، لأنه الوقت الذي تنفذ فيه الوصاية، فلا اعتبار لتخلفها قبل ذلك، لأنها شروط لنفاذ الوصاية لا لإنشائها، فإن لم يكن أهلاً في هذا الوقت عدل عنه وعين القاضي غيره إن لم يوجد من يستحق الولاية كما في إيصاء الأب والجد غير موجود.

ويستوي في الوصي بعد توفر الشروط الرجل والمرأة والقريب الوارث وغير الوارث والأجنبي.

- تخصيص الوصي المختار:

لا خلاف في أن الوصي يتصرف في كافة الأموال بما يخوله له حق الإيصاء إذا كانت الوصية مطلقة غير مقيدة بشيء مخصوص بأن قال الموصي : جعلتك وصياً، أو أنت وصيي.

أما إذا كانت مقيدة بنوع من التصرفات كأن يقول : جعلتك وصياً في الأموال المنقولة أو في التجارة أو بمكان كأن يقول: جعلتك وصياً في الأموال الموجودة في بلد كذا أو ما شابه ذلك من التقييدات فهل يجوز لهذا الوصي التصرف في غير ما قيد به أو لا ؟

ذهب أبو حنيفة أن الوصاية لا تقبل التخصيص، فإذا قال: جعلتك وصياً في أمور التجارة أو في قبض مالي على الناس صار وصياً على كل الأموال، لأن الموصي رضيه متصرفاً في بعض الأمور ولم يرض بتصرف غيره في شيء أصلاً، فيكون أولى من غيره بالتصرف في الباقي، على أن الوصي قائم مقام الموصي فيتصرف تصرفه لأن الوصاية خلافة تثبت كاملة لا تتجزأ.

- تعيين المشرف:

هذا وكما يجوز للأب شرعاً أن يوصي لأكثر من واحد يجوز له أن يقيم مشرفاً يشرف على أعمال الوصي فلا يتصرف الوصي إلا بعلمه ورأيه، أما إمساك المال وحفظه فيستقل به الوصي، ولا يكون المشرف وصياً على المفتى به في المذهب الحنفي، فلا يمكنه التصرف في مال القاصر حتى ولو كان التصرف مستعجلاً أو لا ضرر فيه، ولا يتقيد الموصى في اختيار المشرف كما لم يتقيد في اختيار الوصي فيصح أن يكون المشرف الأم أو غيرها.

- تصرفات الوصي المختار:

أما وصي الأب فيعتبر قائماً مقام الأب فيملك جميع التصرفات التي يملكها الأب في المذهب إلا في مسائل مستثناة لا يكون فيها مثل الأب. وهي ما يأتي:

1- بيع العقار المملوك القاصر، فللأب أن يبيعه بمثل القيمة أو بغبن يسير، أما وصيه فلا يملك بيعه إلا بمسوغ شرعي أو يكون في بيعه نفع ظاهر له، والمسوغات هي ما يلي:

أ- أن تكون التركة عليها ديون لا يمكن إيفاؤها إلا ببيع العقار، وكذلك إذا كان على القاصر دين كهذا.

ب- وجود وصية مرسلة أي بمقدار من المال كألف مثلاً ولا يوجد في التركة نقود أو عروض تباع لتنفيذها فإن العقار يباع حينئذ لتنفيذها لأنه لا ميراث إلا بعد تنفيذ الوصية، أما إذا كانت مقيدة بالربع أو الخمس مثلاً فلا يباع العقار ويكون الموصى له شريكاً للورثة فيه بمقدار الوصية.

جـ- أن يكون القاصر في حاجة إلى النفقة ولا يمكن تدبيرها إلا ببيع العقار فيجوز للوصي أن يبيع منه بقدر النفقة، ويتكرر البيع بتجدد الحاجة إليها.

د- أن يكون العقار مبنياً وبناؤه آيل إلى السقوط، ولا توجد نقود عند الوصي لترميمه وتلافي سقوطه.

هـ- إذا كان العقار يخشى عليه النقصان أو الضياع كالأراضي التي تكون بجوار البحار أو الأنهار وتتعرض لتآكلها عاماً بعد عام.

و- أن تكون ضريبة العقار وما ينفق عليه لصيانته أو لزراعته تزيد عن غلاته وما شاكل ذلك.

فإن لم يوجد مسوغ من المسوغات لبيعه فلا يباع إلا بنفع ظاهر، كأن يرغب شخص في شرائه بضعف قيمته فيجوز، لأن الوصي في هذه الحالة لا يستطيع أن يشتري للقاصر بالثمن عقاراً آخر.

فإن باعه بدون مسوغ كان البيع باطلاً حتى لو بلغ الصبي وأجاز ذلك البيع لا تصح هذه الإجازة لأن الباطل لا تلحقه إجازة.

والفرق بين الأب والوصي في ذلك أن الشفقة متوفرة عند الأب فيكفي في تصرفه ألا يكون فيه ضرر، أما الوصي فلا تتوفر له تلك الشفقة فكان الاعتبار الأول في ولايته هو الحفظ والصيانة والعقار محفوظ مصون بنفسه فلا يجوز له بيعه إلا عند الخطر عليه أو النفع الظاهر.

2- بيع الوصي مال نفسه للقاصر وشراء ماله لنفسه، فبينما يصح للأب أن يبيع ماله للصغير وأن يشتري مال الصغير لنفسه متى كان البيع أو الشراء بمثل القيمة أو بغبن يسير. لا يصح هذا من الوصي إلا إذا كان فيهما نفع ظاهر للقاصر، ويتحقق هذا النفع الظاهر كما صوره بعض الفقهاء بأن يبيع عقاره للقاصر بنصف القيمة، ويشتري عقاره بضعف القيمة، وفي غير العقار يكون البيع بنقصان ثلث القيمة، والشراء بزيادة نصف القيمة، كأن يبيع له ما قيمته خمسة عشرة بعشرة، ويشتري منه ما قيمته عشرة بخمسة عشر، وجواز البيع والشراء على هذا الوجه هو قول أبي حنيفة وعليه الفتوى.

وكذلك لا يجوز للوصي أن يبيع مال القاصر لمن لا تقبل شهادته له من الأصول والفروع والأزواج ولا أن يشتري منهم له إلا ما فيه مصلحة واضحة.

وإنما فرق بين تصرف الأب وتصرف الوصي لأن وفور شفقة الأب وحرصه على مصلحة أولاده لا يحتاج معها إلى ضمان آخر، بخلاب الوصي الذي قد يؤثر مصلحة نفسه على مصلحة القاصر فاحتاج تصرفه إلى دليل ينفي ذلك عنه وهو بيعه وشراؤه بما يحقق له النفع الظاهر.

3- رهن الوصي شيئاً من أموال نفسه عند اليتيم نظير دين عليه له وارتهانه شيئاً من أموال اليتيم عند نفسه نظير دين له على اليتيم لا يصح ذلك من الوصي بينما يصح ذلك من الأب.

وفيما عدا هذه الأمور فإنه يتصرف كل التصرفات التي يملكها الأب.

أما وصي القاضي فهو كوصي الأب إلا في بعض مسائل خاصة أهمها:

1- ليس لوصي القاضي عقد المعارضة في مال القاصر مع نفسه ولا مع من لا تقبل شهادتهم له، لأنه نائب عن القاضي، والقاضي لا يملك ذلك فكذلك نائبه، أما وصي الأب فله ذلك بشرط أن يكون فيه نفع ظاهر كما بيناه.

2- الوصي المختار له أن يقيم وصياً بعد وفاته على مال القاصر الذي له عليه وصاية، وليس ذلك لوصي القاضي إلا إذا جعل له القاضي ذلك في قرار تعيينه، والسبب في ذلك أن القاضي الذي يستمد منه الوصي المعين من قبله ولايته موجود دائماً بخلاف الوصي المختار للأب فإن من اختاره غير موجود فلا يمكن الرجوع إليه.

3- وصي القاضي قابل للعزل وإن كان عدلاً كفؤاً إذا كانت مصلحة القاصر تقتضي ذلك، لأنه وكيل القاضي وكل موكل يملك عزل وكيله، أما الوصي المختار فلا يجوز للقاضي عزله إذا كان عدلاً كافياً، لأنه لم يعينه فلا يملك عزله دون سبب مبرر لذلك العزل.

استحقاق الوصي الأجر على الوصاية:

لفقهاء الحنفية في ذلك آراء ثلاثة :

أولها: أنه يستحق الأجر مطلقاً غنياً كان أو فقيراً.

وثانيها: أ نه يستحق الأجر مطلقاً غنياً كان أو فقيراً.

وثالثها: التفصيل بين ما إذا كان غنياً فلا يستحق الأجر وبين ما إذا كان فقيراً فيستحقه

ومنشأ هذا الاختلاف هو الاختلاف في فهم قوله تعالى: { وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ } [النساء: 6]. فإنها جاءت في سياق الآيات المبينة أحكام من يتولى أموال اليتامى.

فصاحب الرأي الأول يقول: إن الآية طالبت الغني بالاستعفاف، وسوغت للفقير الأكل بالمعروف، وليس الأكل بالمعروف أجراً، ولأن الوصاية الأصل فيها التبرع ممن يقوم بها.

وصاحب الرأي الثاني يقول: إن الآية تفيد استحباب التبرع إذا كان غير محتاج، ولا تفيد إلزامه بذلك فله أن يطلب الأجر إذا شاء إذ لا يمكن إلزام شخص أن يؤدي عملاً بغير مقابل.

ولأنه يضيع جزءً من وقته في العمل للقاصر لو أضاعه في شئون نفسه لزادت ثروته فيكون مستحقاً للأجر، ويترك ذلك لرأيه إن شاء طالب به، وان شاء تنازل عنه.

وصاحب الرأي الثالث يقول: إن الآية فرقت بين الغني والفقير فطالبت الغني بالاستعفاف، وسوغت للفقير أن يأكل بالمعروف، ولأن الأصل في الوصاية أن تكون تبرعاً ابتغاء ثواب الآخرة والغني لا يتضرر من ذلك، أما الفقير فيلحقه الضرر فيستحق الأجر دفعاً لهذا الضرر عنه استثناء من الأصل، ولهذا قال بعض الفقهاء : إن هذا هو مقتضى الاستحسان وهو مقدم على القياس الذي يمنع مطلقاً.

- انتهاء الولاية والوصاية:

تنتهي الولاية شرعاً - كما قدمنا - ببلوغ القاصر عاقلاً رشيداً، والرشد ليس له سن معينة عند جماهير الفقهاء بل يثبت الرشد بالتجربة، فإن ثبت بالفعل انتهت الولاية وسلم المال إلى صاحبه وإن لم يثبت يبقى المال تحت يد الولي.

أما إذا بلغ مجنوناً أو معتوهاً فإن الولاية تستمر عليه ولو لم تقرر المحكمة استمرارها.

انتهاء الوصاية:

تنتهي الوصاية:

أولاً: ببلوغ القاصر سن الرشد كما في الولاية.

ثانياً: بعودة الولاية للولي أباً أو جداً فيما إذا كانت المحكمة سلبت الولاية لسبب من الأسباب وعينت وصياً بدله، ثم زال سبب سلب الولاية وأمرت المحكمة بإعادتها.

ثالثاً: بعزل الوصي لسبب من الأسباب الموجب لذلك أو قبول استقالته.

رابعاً: بفقد الوصي أهليته أو ثبوت غيبته بحيث لا يمكن القاصر الانتفاع من وصايته، أو موته أو موت القاصر.

الباب الخامس

في نفقة الأولاد والأقارب:

تمهيد

- دليل وجوب النفقة:

نفقة الأقارب نوع من التكافل الاجتماعي الذي أرسى الإسلام قواعده وشيد أركانه، وأصل وجوب هذه النفقة مقرر في كتاب الله إجمالاً في أكثر من آية، وجاءت السنة مفصلة وشارحة في أحاديث عديدة، وطبق ذلك في المجتمع الإسلامي في عصوره المختلفة.

يقول جل شأنه: { وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ ....} إلى أن قال: { وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ } [البقرة: 233].

وفي آية أخرى يقول عز من قائل: { وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى } [النساء: 36].

وفي آية ثالثة يقول سبحانه: { وَقَضَى رَبُّكَ أَلا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا } [الإسراء: 23].

وفي رابعة يقول جل ثناؤه: { وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ } [الإسراء: 26].

وفي خامسة يقول جل وعلا: { وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا } [لقمان: 15] نزلت في الأبوين الكافرين والمصاحبة بالمعروف كما فسرها رسول الله صلى الله عليه وسلم بحسن العشرة بأن يطعمهما إذا جاعا، ويكسوهما إذا عريا.

أما السنة: فالأحاديث كثيرة نكتفي ببعضها منها:

ما رواه البخاري ومسلم عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: "دخلت هند بنت عتبة امرأة أبي سفيان على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله إن أبا سفيان رجل شحيح لا يعطيني من النفقة ما يكفيني ويكفي بني إلا ما أخذت من ماله بغير علمه فهل عليّ في ذلك من جناح؟، فقال: "خذي من ماله بالمعروف ما يكفيك ويكفي بنيك".

وما رواه النسائي عن طارق المحاربي قال: قدمنا المدينة فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم قائم على المنبر يخطب الناس ويقول: "يد المعطي العليا وأبدأ بمن تعول أمك وأباك وأختك وأخاك ثم أدناك أدناك".

وما رواه أحمد وأبو داود والترمذي عن بَهز بن حكيم عن أبيه عن جده معاوية بن حَيْدة القشيري قال: قلت يا رسول الله من أبَرّ؟ قال أمك، قلت: ثم من؟، قال : أمك، قلت ثم من؟، قال أمك، قلت ثم من؟، قال: أباك، ثم الأقرب فالأقرب".

وما رواه النسائي عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كفى بالمرء إثماً أن يضيع من يقوت".

فهذه النصوص توجب النفقة للأقارب في جملتها، ولما كانت دلالتها متنوعة منها القطعي والظني، وكما أن الأحاديث كلها من أخبار الآحاد وثبوتها ظني، وكما أن منها ما صح عند بعض الأئمة بينما لم يصح عند الآخرين لذلك اختلف الأئمة فيمن تجب له هذه النفقة على آراء:

1- فذهب مالك أن نفقة الأقارب تنحصر في قرابة الولاد المباشرة، فتجب للأب والأم على الولد ذكراً كان أم أنثى، وتجب على الأب لأولاده، ولا تجب على الأم نفقة لأولادها، ولا تجب لغير هؤلاء نفقة على أحد من أقاربهم.

ودليله على وجوب النفقة للوالدين الآيات التي أوجبت ذلك صراحة من قوله تعالى: {وبالوالدين إحساناً}، وقوله : {وصاحبهما في الدنيا معروفاً}، وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أنت ومالك لأبيك".

أما وجوبها للأولاد فبقوله تعالى: { وعلى المولود له زرقهن وكسوتهن بالمعروف } وبقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خذي ما يكفيك وبنيك بالمعروف" قالوا: فهذه النصوص صريحة في ذلك فيقتصر على مورد النص، أما غير هؤلاء فلا يصلون إلى مرتبتهم فلا يقاسون عليهم.

2- وذهب الشافعي أن النفقة تجب للأصول على الفروع وبالعكس، فالقرابة الموجبة هي قرابة الولاد مطلقاً مباشرة وغير مباشرة.

ودليله على ذلك الأدلة السابقة بتوسع في معنى الوالدين ليشمل الأجداد، والأولاد يشمل أولاد الأولاد لأن الأجداد آباء، وأولاد الأولاد أولاد.

ولا تجب لغير هؤلاء، أما قوله تعالى: { وعلى الوارث مثل ذلك } فلا يدل على وجوب النفقة على القريب الوارث لأنه معطوف على قوله تعالى: { لا تضار والدة بولدها ولا مولود له بولده } لا على قوله: { وعلى المولود له رزقهن } ولكننا نقول: إن هذا مجرد احتمال لأن الظاهر أنه معطوف على الأول، لأن الأحاديث صرحت بوجوب النفقة للأقارب غير الأصول والفروع كقول الرسول: "وأختك وأخاك ثم أدناك أدناك بعد قوله أمك وأباك.

4- وذهب الحنفية إلى أن القرابة الموجبة للنفقة هي القرابة المحرمة للزواج فتجب على الشخص لكل قريب تربطهما قرابة محرمية، وهي تشمل الأصول والفروع والمحارم من الحواشي كالإخوة والأخوات وأولادهم، والأعمام والعمات والأخوال والخالات، أما القريب غير المحرم فلا تجب له نفقة كأولاد العم والعمة وأولاد الخال والخالة.

وسندهم في ذلك الأدلة السابقة في أول الفصل التي توجب النفقة للأصول والفروع والأقارب الوارثين، ولكنهم قيدوا الوارثين بالمحارم بما روي أن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه كان يقرأ آية البقرة { وعلى الوارث مثل ذلك } بزيادة: { ذي الرحم المحرم } وهي وإن لم تثبت قرآنيتها لعدم تواترها إلا أنها تعتبر تفسيراً وبياناً مسموعاً من رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ولأن القرابة المحرمية قرابة قوية تستحق العناية والمحافظة عليها من القطيعة بإيجاب النفقة لها دون غيرها، ولهذا كانت سبباً في تحريم الزواج عند وجودها لما في الزواج من بسط سلطان الزوج على زوجته مما قد يؤدي إلى قطع الرحم، فاقتصر إيجاب النفقة على من اتصف بها دون من هو أدنى منه قرابة.

5- وذهب الحنابلة إلى أن وجوب نفقة القريب على قريبه يدور مع الإرث وجوداً وعدماً، فإذا كان القريب وارثاً وجبت له النفقة لا فرق بين أصل وفرع ولا بين محرم وغيره.

وسندهم في ذلك قوله تعالى: { وعلى الوارث مثل ذلك } فإنها أوجبت على الوارث مثل ما أوجبته الآية في أولها على الأب من النفقة، وذلك لأن القرابة التي تجعل القريب أحق بتركة قريبه وهو غنم تقتضي أن يقابله غرم وهو وجوب النفقة على الوارث، ولذلك شرطوا اتحاد الدين بين من تجب له النفقة ومن تجب عليه حتى ولو كانوا من الأصول والفروع، في الرواية الراجحة في المذهب.

وفي رواية أخرى يشترط في غير الأصول والفروع، وهذه الرواية - في نظري - هي التي تتفق مع صريح النصوص لأنها مطلقة لم تفرق بين المتفقين في الدين والمخالفين فقوله تعالى: { وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف } مطلق في كل مولود له، وقوله: { وصاحبهما في الدنيا معروفاً } نزل بخصوص الوالدين الكافرين، وكذلك أدلة وجوب النفقة للأولاد مطلقة، وأما قوله تعالى: { وعلى الوارث مثل ذلك } فظاهرها أنها في الأقرباء الآخرين.

الفَصل الأول

- نفقة الفروع على الأصول:

المراد بالفروع هم الأولاد وأولاد الأولاد وإن نزلوا ذكوراً كانوا أو أناثاً.

إذا كان للولد مال وجبت نفقته في ماله ولو كان صغيراً، وإذا لم يكن له مال وكان قادراً على الكسب ولم يمنعه مانع منه وجب عليه السعي ليحصل على نفقته، ولا تجب له نفقة على غيره أباً كان أو غير أب، أما إذا لم يكن له مال وكان عاجزاً عن الكسب لسبب من الأسباب كالصغر، أو لكونه أنثى ولو كبيرة قادرة على الكسب ولكنها لا تكسب بالفعل، أو لكونه مريضاً مرضاً يمنعه من العمل كالعمى والشلل، أو لكونه مجنوناً أو معتوهاً، أو لعدم تيسر الكسب لبطالة عامة.

ففي هذه الحالات تجب له النفقة على غيره، فوجوب النفقة له مشروط بحاجته التي تتحقق بألا يكون له مال بحيث تحل له الصدقة، أو بعجزه عن التكسب عند الحنفية فلو كان له مال لا يكفي حاجاته الضرورية أو كان كسبه لا يكفيه وجب على الأب أن يكمل له ما يكفي حاجته وكذلك إذا كان له مال غائب لا تصل يده إليه، كما إذا ورث مالاً ولم يتسلمه بعد فعلى الأب أو من يليه من أصوله أن ينفق عليه من مال نفسه حتى يتسلم ماله، وله أن يرجع بما أنفق عليه، إذا كان الإنفاق بإذن القاضي أو كان بغير إذنه لكنه أشهد عند الإنفاق أنه ينفق ليأخذه من مال عند تسلمه، وفي غير هاتين الحالتين لا يرجع عليه بشيء قضاء، لأنه يكون متبرعاً له الرجوع ديانة إذا كان نوى ذلك، يستوي في ذلك الصغير والكبير العاجز والذكر والأنثى.

وإذا امتنع الولد القادر على الكسب عنه فهل يملك الأب إجباره عليه؟

إذا كان أنثى فليس لأبيها جبرها على العمل لأن الشأن فيها ألا تعمل، وتكون نفقتها على أبيها حتى تتزوج فتكون نفقتها على زوجها، فإن انتهت زوجيتها لأي سبب عادت نفقتها إلى من كانت عليه قبل زواجها.

أما الذكر فيعتبر غير محتاج بقدرته على الكسب لأنه بهذه القدرة يعتبر غنياً لإمكانه الاستغناء بها فلأبيه أو غيره إجباره على العمل، ولا يستثنى من ذلك إلا طالب العلم فإنه لا يجبر على التكسب حتى لا يشغله عن طلب العلم، وتجب له النفقة ما دام جاداً في طلبه ناجحاً فيه، أما إذا كان غير ذلك فلا تجب له نفقة على غيره.

والمراد بالنفقة الواجبة هي كل ما يحتاج إليه الشخص من طعام وكسوة وسكنى وأجرة خادم إذا كان محتاجاً إليه لصغره أو لعجزه، أما نفقة زوجة الابن المستحق للنفقة فلا تجب على أبيه ولا على غيره من الأصول باتفاق الحنفية وإنما يقضي لها بالنفقة على زوجها، ويأذن لها القاضي بالاستدانة عليه إذا طلبت ذلك، ويؤمر من تجب نفقتها عليه بالانفاق ويرجع بها على الزوج إذا أيسر.

وهنا يذكر فقهاء الحنفية مسألة ما إذا كان الشخص يملك منزلاً للسكنى وليس له سواه فهل تجب له النفقة على غيره أو لا تجب، ويذكرون في ذلك روايتين في المذهب.

الأولى: لا تجب له النفقة لأنه لا يعتبر محتاجاً إليها من الغير حيث يستطيع بيعه ويسكن بالأجر أو يبيع جزءً منه إن كان فسيحاً ينفق من ثمنه ويسكن باقيه.

والثانية: أنه تجب النفقة على قريبه ولا يجبر على بيعه أو بيع جزء منه، وعللوا ذلك. بأن بيع المنزل لا يحصل إلا نادراً، ولا يمكن لكل أحد أن يسكن بالأجر أو المنزل المشترك لأنه تحل له الصدقة ولا يؤمر ببيع المنزل، ولكن الرواية الأولى هي الصحيح من المذهب وهذا أوجه لأن النفقة للقريب لا تجب إلا عند الحاجة، والحاجة مندفعة بملكه هذا لأنه لا يعتبر معها محتاجاً، أما ما قيل: بأن بيع المنزل لا يحصل إلا نادراً، فلو سلم ذلك في زمنهم فغير مسلم في زماننا، ولعل التطور في المنازل ينفي ذلك، وحل الصدقة له - إن جاز - لا يسوغ وجوب النفقة له على الغير، لأن حل الصدقة لشخص لا يتنافى مع ملكية الشخص لما لا يصير به غنياً، أما وجوب النفقة فيقوم على حاجة من وجبت له التي ينافيها ملك المنزل.

ولا يشترط في نفقة الفرع اتحاد الدين بينه وبين الأصل الذي وجبت عليه، لأن النصوص الموجبة لها مطلقة في ذلك، ولأن وجوب النفقة هنا بسبب الجزئية وهي ثابتة مع اختلاف الدين.

هذا ما يعتبر في جانب الفرع لتجب له النفقة.

أما الأصل التي تجب عليه فيشترط فيه أن يكون قادراً على الإنفاق إما بيساره أو بقدرته على الكسب وإن لم يكن له مال.

ثم إن نفقة الأولاد تجب على أبيهم لا يشاركه أحد فيها عند الحنفية في جميع الحالات لأن الإنفاق عليهم كالإنفاق على نفسه لأنهم جزء منه.

فإذا كان الأب موسراً أو قادراً على الكسب وطرق الكسب ميسرة له وجبت عليه النفقة بلا خلاف، فإن امتنع عن الإنفاق أو عن العمل أجبر على ذلك بما يراه القاضي زاجراً له ولو لم يجد وسيلة زاجرة غير الحبس حكم بحبسه كما بيناه من قبل.

فإذا لم يكن له مال وكان قادراً على الكسب وطرق الكسب غير ميسرة فبعض الحنفية يعتبرونه في حكم الميت، وينتقل وجوب النفقة إلى من يليه في ذلك من الأصول الأخرى، فلو أيسر الأب بعد ذلك لا يرجع من أنفق بما أنفقه على الأب، لأنه لم يكن الإنفاق واجباً عليه في تلك الفترة.

والقول الآخر للحنفية - وهو الراجح عندهم - أنه بعدم تيسر طرق الكسب لا ينتقل الوجوب إلى غير الأب، بل يبقى الوجوب عليه ولكنه لا يكلف بالأداء، بل تكلف الأم بالإنفاق إن كان عندها مال ويكون ما تنفقه ديناً على الأب ترجع به عليه إذا أيسر، فإن لم يكن لها مال كلف جده إن كان موجوداً بذلك ليرجع على الأب كذلك، فإن لم يكن له جد موسر تولى الإنفاق من تجب عليه النفقة بعده وهكذا.

ووجهتهم في ذلك أن الأب بقدرته على الكسب يعتبر غنياً بهذه القدرة، وعدم تيسر الكسب لعارض لا يجعله في حكم المعدوم.

أما إذا كان غير قادر على الكسب لمرض مزمن أو شيخوخة ونحوهما اعتبر في حكم الميت وانتقل الوجوب إلى من يليه من الأصول ذكراً كان الأصل أو أنثى، وكذلك إذا كان الأب غير موجود بالاتفاق .

وإذا انتقل وجوب نفقة الفرع إلى غير الأب من الأصول تتنوع الحالات فقد يكون له أصل واحد، وقد يكون له أكثر من أصل.

فإن لم يكن إلا أصل واحد سواء كان من جهة الأب أو الأم وجبت عليه النفقة وحده متى توفر شرط القدرة السابق، لأنه تعين للوجوب عليه.

وإن كان له أكثر من أصل وكانوا موسرين فالحكم يختلف تبعاً لكونهم كلهم وارثين أو غير وارثين أو كان بعضهم وارثاً دون البعض الآخر. فهذه ثلاث حالات.

الأولى: إذا كانوا كلهم وارثين لذلك الذي وجبت له النفقة عليهم، وفيها تجب النفقة عليهم جميعاً بنسبة انصبائهم في الميراث دون نظر إلى تفاوت درجاتهم في القرابة.

فإن كان له أم وجد لأب في الدرجة الأولى أو الثانية فالنفقة عليهما أثلاثاً على الأم ثلثها،وعلى الجد الثلثان، لأن الميراث يقسم بينهما كذلك.

وإن كان له جدة لأم وجد لأب على الجدة السدس والباقي على الجد، وكذلك لو كان مكان الجدة جدتان في درجة واحدة لأن نصيب الجدة من الميراث هو السدس واحدة أو أكثر يقسم بينهما بالتساوي.

الثانية: إذا كانوا كلهم غير وارثين وكانوا جميعاً من ذوي الأرحام فإن اتحدوا في الدرجة بأن كانوا جميعاً في الدرجة الثالثة كما لو كان له أب أبي الأم، وأم أبي الأم وجبت النفقة عليهما بالتساوي.

وإن اختلف درجتهم كانت النفقة على أقربهم، فلو كان أبو أم وأبو أم أب كانت النفقة على أبي الأم لقرب درجته.

الثالثة: إذا كان بعضهم وارثاً والبعض غير وارث فإن تساوت درجة قرابتهم من الولد كانت النفقة على الوارث منهم، لأنهم تساووا في القرب فيرجع بالإرث.

فلو كان له أبو أم وأبو أب كانت النفقة على الوارث وهو أبو الأب، لأن أبا الأم من ذوي الأرحام ولا ميراث له مع وجود العاصب وهو أبو الأب ولو كان له أبو أم وأم فالنفقة على أم الأم لأنها الوارثة.

وإن اختلف درجة قرابتهم كانت النفقة على أقربهم وإن لم يكن وارثاً، فلو كان للولد أبو أم وأبو أبي أب وجبت النفقة على أبي الأم لقرب درجته وإن لم يكن وارثاً ولا نفقة على أبي الأب وإن كان وارثاً لبعد درجته في القرابة.

وقد عللوا ذلك بأن السبب في وجوب النفقة للفرع على أصله هو أن الفرع جزء لأصله، وكلما قربت درجة القرابة قويت الجزئية فيرجح الأقرب لرجحان سبب وجوب النفقة عليه.

الفَصل الثّاني

- نفقة الأصول على الفروع:

يراد بالأصول هنا الأب والأم والأجداد والجدات من جهتي الأب والأم مهما علوا.

تجب نفقة الأصل على الفرع إذا كان الأصل فقيراً لا مال له ولو كان قادراً على الكسب، لأن الله أمر بالإحسان إلى الوالدين، وهما يشملان كل الأصول في غير آية، كما أمر بمصاحبتها في الدنيا بالمعروف وإن كان كافرين، وليس من الإحسان ولا المصاحبة بالمعروف أن يكلفا بالسعي على العيش بعد أن تقدمت بهما السن وولدهما ينعم بالمال، بل هو إيذاء لهما، ولا يتفق مع قوله تعالى: { إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلا كَرِيمًا * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنْ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا } [الإسراء: 23-24].

ويشترط في الفرع الذي تجب عليه النفقة أن يكون قادراً على الكسب ولو لم يكن موسراً، فمتى كان الفرع عنده قدرة على الكسب والأصل فقير لا مال له وجبت النفقة على الفرع لأصله، وطولب بالسعي ليوفي بتلك النفقة، فإن امتنع عن العمل أجبر على ذلك، يستوي في ذلك اتفاقهما في الدين واختلافهما فيه، لأن نفقة الأصل وجبت على فرعه بحق الولادة التي تتحقق بها الجزئية بين الولد وأبيه.

وتجب على الفرع إذا كان واحداً، وعند التعدد تجب على الأقرب، فإن تعددوا وكانت درجتهم واحدة وجبت عليهم بالتساوي لا فرق بين الذكر والأنثى، ولا بين الموافق في الدين والمخالف فيه، ولا بين واسع اليسار وقليله.

فلو كان للأصل بنت وولد وجبت عليهما مناصفة على الرأي الراجح، لأن النفقة وجبت بسبب الجزئية وهما فيه سواء، ولو كان له ابنان أحدهما مسلم والآخر غير مسلم وجبت عليهما مناصفة وإن كان أحدهما وارث والآخر غير وارث.

وكذلك لو كان له ابن ابن وبنت وجبت عليهما بالتساوي.

وان اختلف درجاتهم كانت النفقة على الأقرب دون الأبعد وإن كان الميراث للأبعد، فمن له بنت بنت وابن وابن ابن كانت النفقة على بنت بنته وحدها، وكذلك لو كان له ابن غير مسلم وابن ابن مسلم وجبت النفقة على الأول لقرب درجته.

ومن هذا ترى أن مسلك الحنفية هنا سليم لا اضطراب في تطبيقه، لأنهم اعتبروا درجة القرابة وحدها دون اعتبار للإرث وعدمه، وهو الذي يتفق مع الأصل الذي يقوم عليه وجوب النفقة وهو الجزئية بينما اضطربوا هناك في نفقة الفروع على الأصول فاعتبروا مرة الإرث ومرة القرب فاضطرب التطبيق.

والمراد بالنفقة هنا الكفاية من الطعام والكسوة والسكنى، ولو احتاج الأصل إلى خادم لزم، وكذلك لو كان محتاجاً لزوجته، ولا يستطيع الاستغناء عنها لكبر سنه أو لعجزه بسبب المرض لزم ابنه نفقة الزوجة، لأنها من تمام النفقة سواء كانت الزوجة أماً للابن أو غير أمه.

أما إذا لم يكن الأب محتاجاً إليها ففي المذهب روايتان أرجحهما أنه لا تجب عليه نفقتها.

طريقة الإنفاق: إذا كان الولد الذي وجبت عليه النفقة موسراً له مال فائض عن حوائجه وجبت عليه النفقة لأبوية بالطريقة التي يختارها الأبوان، فإن طلبا أخذ نفقة ليعيشا وحدهما أجيبا إلى طلبهما، وكذلك إذا لم يكن له مال ولكنه يتكسب وكسبه يزيد عن حاجته بما يفي بحاجة والديه فإن امتنع أجبر على ذلك حتى لو كان الأب قادراً على الكسب وطرقه ميسرة له لما.

فإن كان ما يفضل عن حاجته لا يكفي إلا أحدهما فالأم أحق به من الأب إن لم تكن متزوجة بغير أبيه في قول عند الحنفية.

فالحنفية: يقررون أنه لا تفرض للأصل نفقة خاصة وإنما يجب عليه في هذه الحالة إذا كان له أولاد أن يضم أصله أباً أو أماً إليه ليعيش معه ومع أولاده، والمقاسمة في الطعام لا يترتب عليها ضرر كبير، فإن طعام الاثنين يكفي الثلاثة، وطعام الثلاثة يكفي الأربعة.

فقد روى عن عمر رضي الله عنه أنه قال : "لو أصاب الناس السنة - أي الشدة والمجاعة -لأدخلت على أهل كل بيت مثلهم فإن الناس لم يهلكوا على أنصاف بطونهم".

فإن لم يكن له أولاد وكان يعيش وحده فإنه يجب عليه ضم أبيه إليه إن كان عاجزاً عن الكسب لأي سبب، لأنه ليس من المروءة أن يترك أباه العاجز يموت جوعاً أو يسأل الناس وهو يعيش في كفاية وكذلك أمه ولو كانت قادرة على الكسب، لأن الأنوثة في ذاتها عجز حكمي.

أما إذا كان أبوه قادراً على الكسب فلا يجب عليه ضمه ولا يجبر على ذلك قضاء، لأن ضمه إليه على الدوام يؤدي إلى عجزه عن الكسب حيث يضعف بمرور الأيام لعدم تكامل غذائه، وربما أدى ذلك إلى هلاكهما معاً، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : "أبدأ بنفسك ثم بمن تعول".

والأصل إن كان قادراً على العمل يجب عليه السعي ليأكل من كسب يده، استثني منه حالة ما إذا كان للولد فضل كسب فإنه يصرفه إلى أبيه ليوفر له الراحة ويريحه من الكد وعناء العمل في أخريات حياته لأنه مقتضى الإحسان المأمور به.

أما حالة عجز الأب عن العمل ولا فضل لولده من كسبه فهي حالة ضرورة وهي تقدر بقدرها وعلى الولد فيها أن يضاعف جهده في العمل ليزيد كسبه.

الفصل الثالث

- نفقة الحواشي وهم الأقارب غير الأصول والفروع:

قدمنا أن القرابة الموجبة للنفقة عند الحنفية هي القرابة المحرمية دون نظر للاتحاد في الدين بين الأصول والفروع، أما غيرهم فلا بد من ذلك لتتحقق فيهم أهلية الإرث.

وعلى هذا يكون المراد بالحواشي هنا الأقارب من غير الأصول والفروع قرابة نسبية محرمية أي يحرم فيها على القريب أن يتزوج قريبة لو افترضنا أحدهما ذكراً والآخر أنثى كالأخوة والأخوات وأولادهم، والأعمام والعمات والأخوال والخالات، فهؤلاء تجب لهم النفقة إن كانوا أهلاً للإرث وإن لم يكونوا وارثين بالفعل لقوله جل شأنه: { وعلى الوارث مثل ذلك }.

فالموجب للنفقة القرابة النسبية المحرمية مع أهلية القريب للإرث في الجملة.

فإذا كانت قرابة غير نسبية كالأخوة من الرضاع، أو كانت نسبية ولكنهما غير محرمية كأولاد الأعمام والعمات، وأولاد الأخوال والخالات، أو كانت نسبية محرمية ولكن صاحبها ليس أهلاً للميراث، كالأخوة المخالفين في الدين فإن هذه الأصناف لا تجب لها النفقة لعدم توافر الصفات الموجبة لها.

ويشترط لوجوب نفقة هؤلاء الأقارب من ذوي الأرحام المحارم.

1- أن يكون من تجب له النفقة ومن تجب عليه النفقة متحدين في الدين لأن سبب وجوب النفقة لهؤلاء هو القرابة المحرمية مع استحقاق الإرث في الجملة، ولا توارث بين المختلفين في الدين.

2- أن يكون من تجب له النفقة فقيراً عاجزاً عن الكسب لسبب من الأسباب كالصغر والأنوثة والمرض المزمن وغيرها، فلو كان قادراً على الكسب وإن لم يكن له مال لا تجب له نفقة على غيره، لأن القدرة على الكسب غنى.

3- أن يكون من تجب عليه النفقة موسراً، لأن النفقة على ذي الرحم المحرم صلة وهي لا تجب إلا على الأغنياء.

ويتحقق اليسار الموجب للنفقة بملك نصاب الزكاة زائداً عن حوائجه الأصلية لأنه يعتبر غنياً بهذا والنفقة صلة لا تجب إلا على الأغنياء، وهذا رأي عند الحنفية.

وهنالك رأي ثاني في التفريق بين صاحب الغلة (المورد الثابت) وبين صاحب الحرفة، فقدّر يسار الأول بما يفضل عن نفقة نفسه وعياله لمدة شهر لينفق منه على قريبه، فإن لم يفضل منه هذا القدر لا تجب عليه نفقة، وقدّر يسار الثاني بما يفضل عن نفقته ونفقة عياله من كسبه اليومي، لأن النفقة وجبت لدفع الهلاك عن القريب فيجب على من قدر على ذلك، والذي يزيد عن حوائجه وحوائج عياله يعتبر قادراً على دفع الهلاك عن قريبه.

ويختار الثاني فهو أوفق لأنه إذا كان له كسب دائم وهو غير محتاج إلى جميعه فما زاد على كفايته يجب صرفه إلى أقاربه كفضل ماله إذا كان له مال وهو الأوفق لزمننا، لأن ملك نصاب الزكاة لا يعتبر غنى يوجب الإنفاق على الغير لأن النفقة متجددة، فماذا يغني النصاب الذي قد يستهلك في شهور ويصبح صاحبه فقيراً بعد أن كان غنياً بخلاف الفائض اليومي.

هذا ويشترط لوجوب أدائها قضاء القاضي بها أو التراضي عليها، ولهذا لو ظفر الفقير من هؤلاء بما هو من جنس النفقة من مال قريبه ليس له أن يأخذه قبل القضاء أو التراضي بخلاف نفقة الأصول والفروع كما قدمنا عند عرض أصول النفقات.

فإذا توافرت هذه الشروط وجبت النفقة، وحينئذ إن لم يكن للفقير المحتاج إلا قريب واحد قادر عليها وجبت عليه وحده، وإن كان له أكثر من قريب قادر على الإنفاق، فإما أن يكونوا كلهم من ذوي الأرحام أو لا بأن يكون بعضهم محرماً والآخر غير محرم.

فإن كان فيهم غير محرم فالنفقة على القريب المحرم ما دام أهلاً للإرث في الجملة وإن كان الآخر هو الوارث بالفعل، كما لو كان للمحتاج خال وابن عم فالنفقة على الخال وحده لكونه من ذوي الأرحام، ولا تجب على ابن العم وإن كان هو الوارث بالفعل لأنه غير محرم.

وإن كانوا كلهم من ذوي الأرحام ولهم أهلية الإرث. فإن كانوا كلهم وارثين بالفعل وجبت عليهم النفقة على حسب أنصبائهم في الميراث، وإن كان بعضهم وارثاً بالفعل والآخر محجوباً عنه وجبت على الوارث بالفعل واحداً كان أو أكثر حسب أنصبائهم.

فمن كان له أخ شقيق وأخوان لأم كانت النفقة عليهم بنسبة أنصبائهم على الأخ الشقيق الثلثان، وعلى الأخوين لأم الثلث مناصفة.

ولو كان له أخت شقيقة وعم وأخت لأم فعلى الشقيقة النصف وعلى الأخت لأم السدس وعلى العم الثلث، لأن نصيب الشقيقة في الميراث النصف فرضاً، والأخت لأم السدس فرضاً، والعم الباقي بالتعصيب وهو الثلث ولو كان له أخت شقيقة وأخت لأب وأخت لأم وزعت النفقة عليهم حسب أنصبائهم في الميراث، فعلى الشقيقة ثلاثة أخماسها وعلى كل من الآخرين خمسها. وذلك لأن نصيب الشقيقة بالفرض نصف التركة 6/3، والأخت لأب سدسها تكلمة للثلثين 6/1، ونصيب الأخت لأم السدس فرضاً 6/1 فالمسألة من 6 فيبقى منها سهم يرد عليهم بقدر أنصبائهم التي هي 3، 1، 1 ...

وإذا كان له أخ شقيق وأخ لأب وأخ لأم كانت النفقة على الشقيق والأخ لأم. سدسها على الأخ لأم، لأن نصيبه في الميراث السدس، وخمسة أسداسها على الشقيق، لأنه عاصب يأخذ الباقي، ولا شيء على الأخ لأب لأنه لا يرث لحجبه بالأخ الشقيق.

وإذا كان له خال وعم كانت النفقة على العم وحده لأنه الوارث، ولا شيء على الخال لأنه من ذوي الأرحام وهم لا يرثون مع وجود العاصب.

هذا إذا كان كل المحارم موسرين، فإن كان بعضهم معسراً لا تجب عليه نفقة لعدم توفر شرط وجوبها وتجب على الباقين بنسبة أنصبائهم في الميراث، وتحت ذلك صورتان.

الأولى: أن يكون ذلك المعسر يحوز كل التركة عند اجتماعه مع الآخرين.

والثانية: أن يكون صاحب نصيب فيها فقط.

ففي الصور الأولى نفترضه معدوماً، ونعتبر الموسرين هم الورثة ونقسم التركة عليهم، وبعد معرفة نصيب كل منهم نقسم نفقة المحتاج عليهم بقدر أنصبائهم، فإذا كان للقريب المحتاج عم معسر، وعمة وخالة موسرتان، فالعم هنا الوارث يأخذ كل التركة لأنه عاصب، والعمة والخالة من ذوي الأرحام لا ميراث لهما مع العاصب، فنفترض العم غير موجود، فتكون العمة والخالة وارثتين، فتقسم التركة عليهما أثلاثاً للعمة الثلثان لأنها من أقارب الأب، وللخالة الثلث لأنها من أقارب الأم، فتقسم النفقة عليهما أثلاثاً على العمة الثلثان، وعلى الخالة الثلث، وكذلك لو كان مكان الخالة خال كان عليه ثلث النفقة، لأن نصيبه في الميراث هنا الثلث.

وفي الصورة الثانية: نقسم التركة على الكل بما فيهم المعسر ليعرف نصيب كل واحد، وبعد معرفة نصيب كل واحد من الموسرين نقسم النفقة حسب أنصبائهم.

فلو كان له أخت شقيقة معسرة وعم وأخت لأم فالتركة إذا قسمت عليهم كان للأخت الشقيقة النصف، وللأخت لأم السدس، وللعم الباقي بالتعصيب وهو الثلث والمسألة من 6 للشقيقة منها 3، وللأخ لأم 1، وللعم 2 يلغى نصيب الأخت ونقسم النفقة على العم والأخت لأم أثلاثاً على العم الثلثان، وعلى الأخت لأم الثلث.

ولو كان له أخ شقيق معسر وعم وأخت لأم فالعم هنا غير وارث بالفعل فينحصر الميراث في الأخ الشقيق والأخت لأم، وبما أن الشقيق معسر تكون النفقة كلها على الأخت لأم وحدها.

الفَصلُ الرَّابع

- في ترتيب وجوب النفقة إذا اجتمع للمحتاجين أكثر من نوع من أقاربه:

الحالات السابقة كانت النفقة فيها واجبة على نوع واحد من الأقارب. أصول فقط، أو فروع فقط أو حواشي فقط واحداً أو أكثر من كل نوع، وقد يجتمع للمحتاجين أقارب من نوعين أو أكثر وهي حالات أربع فقد يجتمع له أصول وفروع، أو أصول وحواشي، أو فروع وحواشي، أو أصول وفروع وحواشي.

وإليك بيان من تجب عليه النفقة في تلك الحالات.

الحالة الأولى اجتماع الأصول والفروع:

إذا اجتمع للمحتاج للنفقة أصول وفروع وتوفر فيهم شرط وجوب النفقة عليهم وجبت النفقة على أقربهم دون اعتبار الإرث عند اختلاف الدرجة :

فمن كان له أب وابن ابن فالنفقة على الأب، ولو كان مكان الأب أم وجبت النفقة عليها، ولو كان أب وأم وابن ابن كانت النفقة على الأب وحده لأن الأب لا يشاركه أحد في نفقة أولاده كما سبق.

ومن كان له أبو أب أو أبو أم وابن ابن فالنفقة على الجد في الصورتين، وإن كان أحدهما وارثاً والآخر غير وارث، وابن ابن الابن وارث في الحالتين.

ولا يقال: كيف تجب النفقة على أبي الأم وهو غير وارث، لأن النفقة هنا تقوم على الجزئية والقرب وهو أقرب من ابن ابن الابن كما تقدم في نفقة الفروع على الأصول في الحالة الثالثة.

وإن تساووا في الدرجة وجبت النفقة عليهم بنسبة الميراث إلا إذا وجد دليل شرعي يرجح وجوبها على أحدهم، فلو كان للمحتاج جد لأب وابن ابن وجبت النفقة عليهما بنسبة ميراثهما على الجد السدس، وعلى ابن الابن خمسة أسداسها لاتحاد درجتهما في القرابة.

ولو كان مكان ابن الابن بنت وجبت النفقة عليها وعلى الجد مناصفة لأن نصيب البنت في الميراث النصف، ونصيب الجد السدس فرضاً والباقي تعصيباً.

ولو كان له أب وابن وجبت النفقة على الابن وحده لوجود الدليل وهو أن للأب شبهة حق وملك في مال ولده لحديث "أنت وما لك لأبيك" فيترجح وجوب النفقة عليه بهذا الدليل.

ولهذا قرر الفقهاء : أنه لا يشارك الولد في نفقة أبويه أحد كما لا يشارك الأب في نفقة أولاده أحد إذا كان قادراً عليها ولو بالعمل والسعي، وكذلك لو كان مكان الأب أم فلا نفقة عليها.

وإذا كان له أبو أب وبنت بنت وجبت النفقة على الجد وحده لأنهما وإن تساويا في الدرجة إلا إن أحدهما وهو الجد وارث، والأخرى وهي بنت البنت غير وارثة فيترجح وجوب النفقة على الجد بالميراث.

ومن هذا العرض ترى أنه عن اجتماع الأصول والفروع تجب النفقة أولاً على الابن المباشر إن وجد لوجود شبهة ملك للأب في ماله، ومثله البنت، فإن لم يكن ابن ووجد أب وجبت النفقة عليه وحده لأنه لا يشاركه أحد في نفقة أولاده، فإن لم يكن لا هذا ولا ذاك اعتبر قرب الدرجة بصرف النظر عن كونه وارثاً أو غير وارث، فإن تساووا في الدرجة فالترجيح بالإرث بالفعل، فإن كانوا وارثين كلهم وجبت عليهم بنسبة أنصبائهم.

الحالة الثانية وهي اجتماع الأصول والحواشي:

إذا وجد للمحتاج للنفقة أقارب من الأصول والحواشي توافرت فيهم شروط وجوب النفقة، عليهم، فإما أن يكونوا وارثين أو يكون بعضهم وارثاً والآخر غير وارث.

فإن كانوا كلهم وارثين قسمت النفقة عليهم جميعاً حسب أنصبائهم في الميراث لا فرق بين أن يكون الموجود من كل نوع واحداً أو أكثر، فمن كان له أم وأخ شقيق أو لأب فنفقته عليهما أثلاثاً على الأم الثلث، وعلى الأخ الثلثان لأنه عاصب يأخذ الباقي بعد نصيب الأم وهو الثلث.

وإن كان مكان الأخ أخوان أو أكثر كلهم أشقاء أو لأب كان على الأم السدس لأن ميراثها مع الجمع من الأخوة السدس، وعلى الأخوة الباقي بالتساوي.

ولو كان له جدة لأم وجدة لأب وأخ لأم وأخ لأب كانت النفقة عليهم حسب أنصبائهم فعلى الجدتين السدس مناصفة، وعلى الأخ لأم السدس، وعلى الأخ لأب الباقي وهو الثلثان.

وإن كان أحد النوعين وارثاً والآخر غير وارث: فإن اعتبار الإرث يلغى وتكون النفقة على الأصول وحدهم ولو كانوا غير وارثين والحواشي أقرب منهم.

فمن له جد لأم وأخ شقيق أو عم كانت النفقة على الجد لأم، لأن أحد النوعين وارث وهو الأخ الشقيق أو العم، والآخر غير وارث وهو الجد لأم.

وهذا - كما ترى - أمر غريب لأن الأصل لو كان وارثاً شاركه من كان من الحواشي في النفقة، وإذا كان غير وارث انفرد بالنفقة، وأغرب من هذا إذا كان الأصل غير وارث وهو أبعد ممن كان من الحواشي كما في جدة غير صحيحة كأم أبي الأم، وأخ شقيق فإن النفقة تجب على الجدة وهي أبعد من الأخ وغير وارثه، ولو قارنا هذه المسألة بمسألة ما إذا كان مع الأخ أو العم أم فإنهما يشتركان في النفقة لازدادت الغرابة.

ولو كان له أبو أب وعم شقيق كانت النفقة على الجد لأن أحد الصنفين وارث والآخر غير وارث.

وكذلك لو كان مكان العم أخ شقيق عند أبى حنيفة، لأن الجد يحجب الإخوة وهو الراجح في المذهب الحنفي.

هذا إذا كان الموجود من كل نوع واحداً. فإن وجد في كل نوع أكثر من واحد فإننا ننظر لك نوع على حدة ونرجع من ترجحه القواعد الخاصة به، ثم نطبق قاعدة اجتماع النوعين ونفرض النفقة على من تجب عليه.

فإذا اجتمع للمحتاج للنفقة أم وجد لأم وأخ شقيق وعم، فإذا نظرنا للأصول نجد الأم أقرب وهي وارثة، والجد لأم أبعد وغير وارث فيستبعد، وإذا نظرنا إلى الحواشي وجدنا الأخ هو الوارث ويحجب العم فيستبعد العم كذلك وما بقي من النوعين وارث فتجب النفقة عليهما بنسبة الميراث فعلى الأم الثلث، وعلى الأخ الثلثان.

وإذا كان له أم وجد لأب وأخ شقيق فعلى رأي أبي حنيفة الذي يحجب الإخوة بالجد فتكون النفقة على الأصول وحدهم وكان مقتضى قاعدة اجتماع الأصول والحواشي وأحد النوعين وارث والآخر غير وارث أن تكون النفقة على الجد والأم أثلاثاً، غير أنه وجد هنا مانع من مشاركة الأم للجد في النفقة، وهو أن الجد عند حجبه للإخوة يعتبر أباً حكماً فآلت المسألة إلى اجتماع الأم والأب وعند اجتماعهما تكون النفقة على الأب وحده فتكون النفقة هنا على الجد وحده وهو الراجح في المذهب الحنفي، ولو اجتمع جد لأب وجد لأم وأخ شقيق فإن النفقة على الجد وحده أيضاً عند أبي حنيفة لأن الجد لأب ترجح على الجد لأم حسب قواعد اجتماع الأصول فقط وهو أن النفقة على الوارث فلا يعتبر الجد لأم موجوداً فيبقى الجد لأب من الأصول، والأخ من الحواشي، وأحد النوعين وارث والآخر غير وارث فتكون النفقة على الأصول حسب قاعدة اجتماع الأصول مع الحواشي.

الحالة الثالثة وهي اجتماع الفروع والحواشي:

إذا اجتمع للمحتاج للنفقة فروع وحواشي توافرت فيهم شروط وجوب النفقة تكون على الفروع فقط لأن العبرة هنا يكون المنفق جزءاً من المنفق عليه، فتسقط الحواشي بوجود الفروع ويصرف النظر عن القرب والميراث في مجموع النوعين.

فلو كان للمحتاج بنت وأخت فالنفقة على البنت وإن كانت الأخت ترث مع البنت.

ولو كان له بنت بنت مع الأخت أو الأخ فالنفقة على بنت البنت وإن لم تكون وارثة حتى ولو كانت مخالفة في الدين لمن وجبت له النفقة، لأنه لا اعتبار للإرث في نفقة الفروع للأصول فإذا تعددت الفروع تطبق القاعدة السابقة فيقدم الأقرب فالأقرب، وإن تساووا في الدرجة كانت النفقة على الكل بالتساوي لا فرق بين وارث وغير وارث ولا بين ذكر وأنثى.

فإن كان الفرع في هذه الصورة معسراً ولا يقدر على الكسب وجبت النفقة على الحواشي باعتبار أنصبتهم في الميراث.

فإن كان الفرع في هذه الحالة يحوز كل التركة يفترض معدوماً ليمكن اعتبار الحواشي وارثين وتقسم النفقة عليهم حسب أنصبائهم في الميراث.

فلو كان للفقير ابن معسر عاجز عن الكسب وأخ شقيق وأخوان لأم موسرون نعتبر الابن معدوماً لأنه يحوز كل الميراث فيكون الميراث للإخوة الثلاثة بعد افتراض الابن غير موجود فتجب النفقة عليهم حسب أنصبائهم في الميراث، فيكون على الأخوين لأم الثلث مناصفة لأن نصيبهم في الميراث ذلك، وعلى الأخ الشقيق الباقي لأنه يحوز بقية التركة بالتعصيب.

وإن كان الفرع المعسر لا يحوز كل التركة فلا يفرض معدوماً بل تقسم التركة على الفروع والحواشي ويسقط نصيب المعسر، وتقسم النفقة على الحواشي الوارثين حسب أنصبائهم.

فلو كان له بنت معسرة وأخ شقيق وأخ لأم فلا تفرض البنت معدومة لأنها لا تحوز كل التركة بل ننظر إلى ميراث الأخوين معها فنجد أن البنت تستحق نصف التركة، وللأخ الشقيق الباقي ولا شيء للأخ لأم لأنه محجوب بالبنت، فيكون الوارث من الحواشي هو الأخ الشقيق فتجب النفقة عليه وحده لعسر البنت.

الحالة الرابع وهي اجتماع الأصول والفروع والحواشي:

إذا اجتمعت الأنواع الثلاثة وتوافرت فيهم شروط إيجاب النفقة فلا اعتبار للحواشي لأنهم يسقطون بالفروع كما في الحالة السابقة، وتكون النفقة على الأصول والفروع وتطبق قاعدة اجتماعهم كما شرحناه في الحالة الأولى من حالات الاجتماع.

وهي أن النفقة تجب على أقربهم دون اعتبار الإرث عند اختلاف درجاتهم، وإن تساووا في الدرجة وجبت النفقة عليهم بنسبة الميراث إلا إذا وجد دليل يرجح وجوبها على أحدهم كما إذا كان للمحتاج أب وابن فإن النفقة تكون على الابن وحده، أو كان أحدهما وارثاً والآخر غير وارث فإن النفقة تكون على الوارث وحده.

هذا إذا كان الأصول والفروع قادرين على النفقة، أما إذا كانوا غير قادرين عليها فالنفقة تجب على الحواشي في هذه الحالة ونطبق قاعدة الإعسار السابقة.

فلو كان للمحتاج أم وبنت معسرتان وجدة لأب وعم وأخ لأم موسرون فالنفقة هنا على العم وحده، لأن الميراث هنا للأم والبنت والعم، أما الجدة فهي محجوبة بالأم، والأخ لأم محجوب بالبنت لأن الأم والبنت معسرتان لا تحوزان كل الميراث فلا يفترض عدمهما، وتقسم التركة على الأم والبنت والعم، للأم السدس وللبنت النصف وللعم الباقي.

ولو كان مكان البنت ابن معسر وعاجز عن الكسب فيفرض الابن معدوماً لأنه يأخذ بقية التركة بعد نصيب الأم، ولأنه لو فرض موجوداً لحجب الحواشي والفرض أن الأم معسرة فلا يوجد من تفرض عليه النفقة، أما الأم فلا تفرض معدومة لأنها لا تحوز كل التركة.

وإذا فرض الابن معدوماً لا يحجب الأخ لأم، ولما لم تفرض الأم معدومة فتحجب الجدة بها وتصبح المسألة من اجتماع الأصول والحواشي وكلهم ورثة فتكون النفقة عليهم حسب الميراث وتعفى الأم لعسرها، وعند تقسيم التركة بين الأم والعم والأخ لأم يكون للأم الثلث، وللأخ لأم السدس، وللعم الباقي وهو النصف، والمسألة من 6 نسقط منها 2 نصيب الأم، ويبقى للعم 3 وللأخ لأم 1، فتقسم النفقة عليهما على الأخ لأم ربعها، وعلى العم بباقيها.

تلك هي القواعد التي تفرض على أساس النفقة للأقارب في المذهب الحنفي.

Free Web Hosting