الباب الخامس في أحكام عقد الزواج

الفصل الأول

أنواع الزواج غير اللازم:

المبحث الأول

الزواج الباطل:

وهو الذي اختل فيه أمر أساسي أو فقد شرطاً من شروط الانعقاد. كزواج فاقد الأهلية إذا باشر العقد بنفسه، وتزوج الرجل بمن هي محرمة عليه تحريماً لا يشتبه الأمر فيه على الناس وهو يعلم ذلك التحريم كالعقد على إحدى محارمه أو زوجة الغير، وتزوج غير المسلم بالمسلمة لعدم محلية المرأة فيها.

حكمه: الزواج الباطل لا يترتب عليه أي أثر من آثار الزواج، لأن وجوده كعدمه، فلا يحل به الدخول، ولا يجب به مهر ولا نفقة ولا طاعة، ولا يرد عليه طلاق، ولا يثبت به نسب، ولا عدة فيه بعد المفارقة، ولا يثبت به توارث ولا حرمة المصاهرة إلا عند من يثبتها بالزنى.

وإذا دخل الرجل بالمرأة بناء على هذا العقد كانت المخالطة بينهما حراماً، ويجب عليهما الافتراق، فإن لم يفترقا فرق القاضي بينهما، وعلى كل من يعلم بذلك الدخول أن يرفع الأمر إلى القاضي، وعلى القاضي أن يفرق بينهما لأن هذا الدخول زنى وهو معصية كبيرة يجب رفعها.

والفقهاء لم يختلفوا في أنه زنى ولكن اختلافهم في وجوب الحد به :

فذهب مالك والشافعي وابن حنبل إلى أنه موجب لحد الزنى متى كان الفاعل عاقلاً عالماً بالتحريم.

وذهب أبو حنيفة إلى أنه لا يوجب الحد، لأن صورة العقد شبهة تكفي لأن يدرأ بها الحد عنه، ومع ذلك لم يعفه من العقوبة بل قال: إنه يعزر أشد أنواع التعزير لقبح فعله.

وإذا سقط عنه الحد وجب عليه مهر المثل بالغاً ما بلغ، لأن الدخول بالمرأة في الإسلام لا يخلو من حد أو مهر وهو مراد الفقهاء بقولهم: الدخول لا يخلو من عَقر أو عُقر، ولا تجب العدة بعد التفريق، لأنه لا عدة في الزنى حيث إنها تجب محافظة على الأنساب من الاختلاط، ولا يثبت بهذا العقد نسب يحافظ عليه.

هذا وقد اتفق الفقهاء فيما إذا دخل بمن تزوجها وهو جاهل بأنها محرمة عليه على أنه لا يحد ولا يلزمه مهرها بهذا الدخول لأنه لابد من أحد أمرين الحد أو المهر وحيث لا حد وجب مهر المثل.

المبحث الثاني

الزواج الفاسد:

وهو الذي تخلف فيه شرط من شروط الصحة بعد استيفائه لأركانه وشروط انعقاده. كالزواج بغير شهود عند من يشترط الشهادة، والزواج المؤقت، وزواج أخت مطلقته طلاقاً بائناً في عدتها لأنه مختلف في حرمته، وكتزوجه بامرأة محرمة عليه بسبب الرضاع وهو لا يعلم بحرمتها بناء على إخبار الناس بأنه لا يوجد بينهما صلة محرمة ثم ظهر بعد الدخول أنها محرمة عليه.

حكمه: أنه لا يحل به الدخول بالمرأة ولا يترتب عليه في ذاته شيء من آثار الزوجية. فإن حصل بعده دخول حقيقي بالمرأة كان معصية يجب رفعها بالتفريق بينهما جبراً إن لم يفترقا باختيارهما، ويترتب على ذلك الدخول الآثار الآتية:

1- لا يقام على الرجل والمرأة حد الزنى بالاتفاق لوجود الشبهة الدارئة للحد عنهما.

2- يجب على الرجل مهر المثل بالغاً ما بلغ إن لم يكن سمى للمرأة مهراً عند العقد أو بعده، فإن كان سمى لها مهراً وجب عليه الأقل من المسمى ومهر المثل.

3- تثبت بهذا الدخول حرمة المصاهرة.

4- تجب به العدة على المرأة من وقت افتراقهما أو وقت تفريق القاضي، وهذه العدة عدة طلاق تحتسب بالأقراء أو الأشهر إذا لم تكن حاملاً حتى في حالة وفاة الرجل، لأن عدة الوفاة المقدرة بأربعة أشهر وعشرة أيام لا تكون إلا بعد زواج صحيح، ولا تجب لها نفقة في هذه العدة.

5- يثبت نسب الولد إن وجد محافظة عليه من الضياع.

أما غير ذلك من الأحكام فلا توارث فيه إذا مات أحدهما ولو قبل التفريق بينهما، ولا تجب به على الرجل نفقة ولا سكنى، كما لا تجب عليها الطاعة للزوج، ولا يقع به طلاق على المرأة.

المبحث الثالث

في الزواج الموقوف:

هو ما فقد فيه شرط النفاد بأن باشره من ليست له ولاية شرعية على إنشائه بأن كان ناقص الأهلية أو كاملها ولم تكن له صفة تجيز له إنشاء العقد من أصالة أو ولاية أو وكالة.كتزوج الصغير المميز بدون إذن وليه فإنه صحيح موقوف على إجازة من له الولاية عليه إلا إذا استمر العقد بدون إجازة أو رد إلى حين بلوغه، فإن الإجازة تنتقل إليه إن أجازة نفذ وإن لم يجزه بطل، وكعقد الفضولي وهو من يعقد لغيره بدون ولاية أو وكالة.

حكمه: الزواج الموقوف -رغم صحته- لا يترتب عليه أي أثر مع آثار الزواج إلا بعد إجازته أو الدخول الحقيقي بعده.

فإذا أجيز ترتيب عليه جميع الآثار التي رتبها الشارع عليه، وإذا دخل بالمرأة قبل الإجازة ترتب عليه الآثار التي ترتب على العقد الفاسد دون غيرها، فلا يحل به دخول، ولا تجب به طاعة ولا مهر ولا نفقة ولا حرمة المصاهرة إلا على رأي من يثبتها بالزنى، ولا يقع فيه طلاق ولا توارث إذا مات أحدهما قبل الإجازة.

وبهذا يعلم أن حكم الزواج الموقوف قبل إجازته كحكم الزواج الفاسد في أن كلاً منهما لا يترتب عليه أي أثر قبل الدخول، وأما بعده فيترتب عليهما بعض الآثار.

ولا فرق بينهما إلا أن الفاسد لا يقر بحال من الأحوال ولا يلحقه تصحيح، أما الموقوف فتلحقه الإجازة ولو بعد الدخول فيصير نافذاً تترتب عليه كل آثار الزوجية من وقت ابتداء العقد، لأن الإجازة اللاحقة تنسحب على العقد من وقت إنشائه فينقلب نافذاً من وقت إنشائه، وإن لم يجزه من له الولاية كان ذلك إبطالاً له من مبدئه.

وهذا وليلاحظ أنه إذا دخل الرجل بالمرأة في العقد الموقوف بعد رده وبعد علمه بالرد يكون فعله زنى لا شبهة فيه فيترتب عليه ما يترتب على العقد الباطل.

المبحث الرابع

الزواج النافذ غير اللازم:

هو العقد الذي استوفى أركانه وشروطه كلها مع بقاء حق الاعتراض لغير العاقد عليه وطلبه فسخه كتزويج البالغة العاقلة نفسها بغير كفء أو بأقل من مهر مثلها، فإن للولي العاصب حق الاعتراض على هذا الزواج بطلب فسخه.

وحكم هذا الزواج أنه يتريب عليه الآثار من حل الدخول، ووجوب النفقة والكسوة والسكنى للزوجة ما لم تمتنع عن الدخول في طاعته بغير حق. وتثبت به حرمة المصاهرة فيحرم على الزوجة أصول الزوج وفروعه كما يحرم على الزوج أصول الزوجة وفروعها ويثبت به حق التوارث إذا مات أحدهما قبل القضاء بفسخه ولو كان قبل الدخول، كما يثبت به نسب الأولاد للزوج.

ويجب به المهر ديناً في ذمة الزوج بمجرد العقد لكنه عرضة للتنصيف أو السقوط، فإذا فسخ قبل الدخول والخلوة الصحيحة لا يجب شيء من المهر سواء كان الفسخ من قبل الزوج أو الزوجة، لأن الفسخ هنا يكون نقضاً للعقد من أساسه، وحيث انتقض العقد لم يبق موجب للمهر، لأن الموجب له إما العقد أو الدخول أو الخلوة الصحيحة.

وإذا كان الفسخ بعد الدخول أو الخلوة الصحيحة فإنه يجب كل المهر وعليها العدة ولها النفقة وغيرها، وإذا طلقها قبل الفسخ والدخول كان لها نصف المهر المسمى.

الفَصْل الثّاني

في الزواج اللازم وما يوجبه من حقوق غير مالية:

تمهيد: الزواج اللازم هو المستوفي لأركانه وشروطه كلها بحيث لا يبقى لأحد حق الاعتراض عليه وطلب فسخه وحكمه يترتب عليه الآثار التي رتبها الشارع عليه بلا استثناء فهو كالنافذ في ذلك بل هو أقوى أنواع الزواج لأنه ليس لأحد حق الاعتراض عليه كما لا يملك أحد العاقدين فسخه.

المبحث الأول

في الحقوق المشتركة بين الزوجين:

حقوق الزوج.

حقوق الزوجة غير المالية.

أولاً: حق الاستمتاع وهو أن يحل لكل واحد منهما أن يتمتع بالآخر في الحدود التي رسمها الشارع، فعلى كل منهما أن يجيب رغبة الآخر ولا يمتنع منه إلا إذا وجد مانع شرعي يمنع من ذلك كحيض لقوله تعالى: { وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمْ اللَّهُ } [البقرة:222]، ويلحق به النفاس وكذلك المرض الشديد.

وقد اتفق الفقهاء على أنه يجب على الزوج أن يعف زوجته من الناحية الجنسية حتى لا تقع في الحرام متى كان قادراً على ذلك، وأن هذا الواجب من جهة الديانة أي فيما بينه وبين الله تعالى، فيحرم عليه أن يشتغل عنها بعمل أو عبادة كلً وقته لأنه يعرضها بذلك للفتنة.

فقد روى أن زوجة عبد الله بن عمرو بن العاص شكته إلى رسول الله بأنه يصوم النهار ويقوم الليل فأرسل إليه النبي صلى الله عليه وسلم فلما حضر قال له: "يا عبد الله ألم أخبر أنك تصوم النهار وتقوم الليل"؟ فقال: بلى يا رسول الله فقال له: "لا تفعل ذلك صم وأفطر وقم ونم فإن لجسدك عليك حقاً وإن لزوجك عليك حقاً".

ثانياً: حسن المعاشرة . فكل من الزوجين مطالب بإحسان العشرة على معنى أن يسعى كل منهما إلى ما يرضى الآخر من حسن المخاطبة واحترام الرأي والتسامح والتعاون على الخير ودفع الأذى والبعد عما يجلب الشقاق والنزاع لقوله تعالى :

{ وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ } [النساء:19] وقوله: { وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ } [البقرة: 228]، فإذا فعلا ذلك تحقق بينهما السكن وتوفرت المودة، وكان الزواج رحمة لهما كما أخبر المولى سبحانه في قوله: { وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً } [الروم: 21].

ثالثاً: حرمة المصاهرة . فيحرم على الزوج التزوج بأصول زوجته وفروعها كما يحرم عليها التزويج بأصوله وفروعه.

وحرمة المصاهرة وإن كانت في ظاهرها حق الشارع، لأنها حكم من أحكامه إلا أن ثمرتها تعود على الزوجين على السواء، لأن ثبوتها يدفع الأذى عنهما فيما لو أبيح لكل منهما أن يتزوج بأقرب الناس إلى الآخر بعد فصم عرى الزوجية بينهما.

رابعاً: ثبوت التوارث بينهما بأن يرث كل منهما الآخر بعد وفاته ولو كانت قبل الدخول ما لم يوجد مانع يمنع منه، وذلك لأن عقد الزواج لما أحل المتعة والعشرة بينهما فقد أوجد صلة تربط بينهما كصلة القرابة فتبع ذلك ثبوت التوارث لهذه الصلة.

المبحث الثاني

في حقوق الزوج:

يثبت للزوج أولاً: حق الطاعة على زوجته في كل ما هو من آثار الزواج إلا ما كان فيه معصية الله فمتى أوفى الزوج زوجته حقوقها الواجبة عليه بأن دفع إليها مهرها أو مقدار ما اتفقا على تعجيله منه وأعد لها المسكن اللائق بها وكان أميناً عليها وجب عليها الدخول في طاعته فتقيم معه حيث يعيش وتمكنه من نفسها، فإذا امتنعت بعد ذلك عن الدخول في طاعته كانت ناشزة وسقط حقها في النفقة كما سيأتي بيانه:

ووجوب الطاعة في الحقيقة من تتمة التعاون بين الزوجين، ذلك لأن الأسرة هي اللبنة الأولى في بناء المجتمع فإن كانت سليمة كان المجتمع سليماً، ولا تستقيم حياة أي جماعة إلا إذا كان لها رئيس يدير شئونها ويحافظ على كيانها، ولا توجد هذه الرياسة إلا إذا كان الرئيس مطاعاً، وهذه الرياسة لم توضع بيد الرجل مجاناً، بل دفع ثمنها لأنه مكلف بالسعي على أرزاق الأسرة والجهاد من أجلها مع ما في تكوينه وطبيعته من الاستعداد لها، يقول سبحانه: { الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ } [النساء: 34].

فهذا الجزء من الآية يثبت للزوج على زوجته حق الطاعة لأنه جعله فيما عليها ولا قوامة بدون طاعة من الطرف الآخر، وقد ورد عن رسول الله أحاديث كثيرة تحض المرأة على طاعة زوجها.

هذا وقوامة الرجل على المرأة فيما يتعلق بالحياة الزوجية فليس له الحق في التدخل في شئونها المالية، لأن الولاية لها في ذلك مادامت كاملة الأهلية، فإن كانت أهليتها قاصرة فالولاية لوليها المالي كأبيها أو جدها أو من يقوم مقامهما.

ويتبع حق الطاعة حق آخر وهو حق القرار في البيت لا تبرحه إلا بإذنه وليس قرارها في البيت حق غبناً لها أو سجناً لها كما فهمه قصار النظر، وإنما هو إعانة لها على أداء وظيفتها التي خلقت لها وهي التفرغ لتربية الأولاد في مبدأ حياتهم ليحيوا حياة سليمة، ومن قبل ذلك محافظة عليها من الفتنة والفساد، وليس معنى هذا أن تظل حبيسة البيت لا تخرج منه أبداً كما فهمه بعض الناس خطأ، لأنه ليس حقاً من حقوق الله حتى يكون لازماً، بل هو حق للزوج إن شاء تمسك به وإن شاء تنازل عنه وأذن لها بالخروج ما لم يترتب على خروجها مفسدة فيتحتم المنع محافظة على حرمات الله.

على أن حق المنع ثابت له بشرط أن يكون أوفاها حقوقها، وألا يكون لخروجها مسوغ شرعي كأداء فريضة الحج بشرط أن يكون سفرها مع ذوي رحم محرم منها، وزيارة أبويها ومحارمها من أخوتها وأعمامها وغيرهم.

فإن وجد المسوغ الشرعي لخروجها ولم يأذن لها، كان لها الخروج بدون إذنه فتزور والديها كل أسبوع مرة، ومحارمها كل سنة، وقيل كل شهر كما يقرره فقهاء الحنفية.

وعلى الزوجة بعد طاعة زوجها وقرارها في بيته، أن تكون أمينة على سره حافظة لماله وشرفه فتبتعد عن مواطن الشبهات، فلا تدخل بيتها من لا يرضى زوجها عنه، ولا تطيع فيه أحداً لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يحل لامرأة تؤمن بالله أن تأذن في بيت زوجها وهو كاره، ‎ ولا تطيع فيه أحداً ولا تعتزل فراشه ولا تضربه".

ثانياً : ولاية التأديب :

إذا كانت الزوجة مطيعة لزوجها محافظة على حقوقه فلا سبيل له عليها، أما إذا خرجت عن الطاعة وخالفته فيما يجب عليها، كان له عليها ولاية التأديب لقوله تعالى: { فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ وَاللاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلا } [النساء: 34]. فهذه الآية قسمت النساء إلى نوعين: النوع الأول: صالحات، وهؤلاء لسن في حاجة إلى تأديب لأنهن يقمن بما عليهن من حقوق الله وحقوق الزوج.

والنوع الثاني: الذي عبرت عنه الآية { وَاللاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ } وهن اللاتي شرع التأديب لهن، لأن تركهن على انحرافهن يسبب للبيت شقاء لا يستقيم معه الحياة الزوجية، وجعل التأديب للزوج دون غيره من الولي أو القاضي محافظة على كيان الأسرة بحفظ أسرارها من أن تذاع فيطلع الناس منها على ما لا يحسن الاطلاع عليه، ولأنه أعلم من غيره بما يقومها ويردها إلى صوابها، ولأن ضرر انحرافها يعود أولاً عليه وعلى بيته.

ثم إن الآية بينت طريق التأديب فجعلت له وسائل ثلاث: الموعظة الحسنة والهجر في المضاجع، والضرب، وجاءت بها مرتبة فإذا أراد التأديب بدأ بما بدأ الله به فيعظها فإن كفت الموعظة وقف عند ذلك، وإن لم تفد الموعظة هجرها في المضجع بأن يوليها ظهره أو ينام في فراش آخر داخل البيت، فإن لم يفد الهجر فله أن يضربها ضرباً غير مبرح ولا مشين.

وفي هذا يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم في خطبته في حجة الوداع. "ألا واستوصوا بالنساء خيراً فإنما هن عوان (1) عندكم ليس تملكون منهن شيئاً غير ذلك إلا أن يأتين بفاحشة مبينة، فإن فعلن فاهجروهن في المضاجع واضربوهن ضرباً غير مبرح، فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا".

___________________

(1) عوان جمع عانية وهي الأسيرة. ومعناها أن النساء عند الرجال بمنزلة الأسرى فعليهم الإحسان إليهن.

ولقد سأل رجل النبي صلى الله عليه وسلم: "ما حق المرأة على الزوج؟ قال: "تطعمها إذا طعمت وتكسوها إذا اكتسيت، ولا تضرب الوجه ولا تقبح ولا تهجر إلا في البيت".

فإذا أساء الرجل استعمال حقه، وتجاوز القدر اللازم للإصلاح كان متعدياً، وللزوجة حينئذ أن ترفع أمرها إلى القاضي ليرده عن عدوانه، فإن ثبت لديه عدوان الزوج عزره بما يراه كافياً لزجره عن معاودته لما فعل، وليس له حق إيقاع الطلاق جبراً إذا طلبته الزوجة كما يرى الحنفية ويرى المالكية أن المرأة لو طلبت الطلاق للضرر في هذه الحالة كان للقاضي سلطة إيقاع الطلاق إذا امتنع الزوج عن التطليق وتكون طلقة بائنة.

وإذا عرفنا أن شريعة الله عامة لا تخص طائفة دون غيرها وليست قاصرة على زمن معين ولا بيئة خاصة، وعرفنا مع ذلك أن النساء تختلف طبائعهن، ففيهن من تردهن الكلمة عن غيها، ومنهن من لا يؤثر فيها الكلام ولا يردها إلا الهجر والحرمان، ومنهن من لا يفيد معها كلام ولا هجر لشراسة في خلقها وعناد لا يرده إلا الضرب، إذا عرفنا ذلك أدركنا سر تنوع وسائل التهذيب في كتاب الله الذي لا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء، والذي خلق المرأة وهو الخبير بأسرارها العليم بما يهذبها إذا ما التوى بها الأمر عن الجادة المستقيمة.

وبعد ذلك يكون من قصر النظر وسوء الفهم توجيه النقد على غير هدى كما قيل: إن الضرب وسيلة صحراوية لا تتفق مع عصر المدنية والتقدم، فكيف تبيح شريعة لزوج أن يضرب زوجة تدرجت في مدارج الثقافة حتى بلغت قمتها ؟.

ونحن نقول لهذا المفتري: ليس كل النساء كما وصفت، وليس الضرب هو الوسيلة الوحيدة المشروعة، بل إنها إحدى وسائل ثلاث، وكانت في المرتبة الثالثة لا يلجأ إليها إلا عند فشل الأولى والثانية.

إن القرآن يعالج انحراف المرأة من القمة، فيعالج من طريق العقل أولاً، ثم ينتقل إلى طريق العاطفة، ولم يبق بعد ذلك إلا طريق الجسد بالضرب، لأن من لا يستجيب بعقله ولا يتأثر بعاطفته ينزل إلى مرتبة الحيوان الأعجم، فبم تقوم اعوجاجه أيها الناقد الحاقد ؟.

ثم إن القرآن لم يقف بالعلاج عند هذه الوسائل الفردية التي وكلها إلى الزوج، بل جعل للزوج إذا لم يصل إلى نتيجة وأفلت الزمام من يده أن يرفع الأمر إلى القاضي ليعالج المشكلة بوسيلة أخرى على مستوى الجماعة، لأن الحياة الزوجية ليست ملكاً للزوجين خاصة، بل لها جانب اجتماعي من جهة أنهما عضوان في المجتمع الذي يسعد بسعادة أفراده ويشقى بشقائهم، فيبعث القاضي حكماً من أهل الزوج وحكماً من أهل الزوجة، ليتعرفا أسباب النزاع ويقوما بالإصلاح كما يقول سبحانه: { وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلاحًا يُوَفِّقْ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا } [النساء:35].

المبحث الثالث

42- في حقوق الزوجة غير المالية:

أولاً: يثبت للزوجة على زوجها عدم الإضرار بها بأن يعدل في معاملتها فيعاملها بما يجب أن تعامله به فيحافظ على حقوقها من غير إفراط ولا تفريط، وإنما وجب عليه العدل وعدم الإضرار باعتبار ما له من السلطان والرياسة، فحيث وضعه الشارع في موضع القوامة، وأوجب له على زوجته الطاعة والقرار في البيت ومنحه سلطة التأديب، وهذه أمور لا تستقيم مع إطلاق يده في التصرف بل يجب تقييدها بالعدل من جانبه، حتى تسير الحياة الزوجية في طريق مستقيم لتحقق الغاية المقصودة منها.

ومن هنا جاءت عدة آيات وأحاديث تنبه الزوج إلى أن يعدل ولا يظلم وينفع ولا يضر ويرحم ولا يقسو، فيقول جل شأنه: { ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف} ويقول: {فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ } [البقرة: 231]، ويقول: { فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلاً }.

ويقول صلى الله عليه وسلم: "خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي"، وفي حديث آخر يقول: "ولا تضرب الوجه ولا تقبح ولا تهجر إلا في البيت"، وفي خطبة الوداع يقول: "ألا واستوصوا بالنساء خيراً فإنما هن عوان عندكم ليس تملكون منهن شيئاً غير ذلك" يريد أن يقول، إنكم لا تملكون منهن غير الاستمتاع، وهكذا يرسم الإسلام طريقه معاملة الأزواج لزوجاتهم، فمن سار في طريقه نجا، ومن حاد عنه وآذى زوجته بالقول أو بالفعل كان لها الحق أن ترفع الأمر إلى القاضي وهو بماله من الولاية العامة يستطيع زجر الزوج بالقول وتعزيره بما يراه رادعاً له من عداونه، كما يذهب إليه الحنفية. أو تطلب التفريق للضرر وللقاضي أن يأمره بتطليقها، فإن لم يفعل طلقها نيابة عنه وإن لم يرض بذلك الزوج كما يذهب إليه الإمام مالك.

ثانياً: إذا كان له أكثر من زوجة وجب عليه التسوية بينهن في المعاملة، سواء كان ذلك في البيات أو في النفقة بأنواعها، لأن الله شرط حل التعدد بالعدل في قوله جل شأنه: "فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة".

ويستوي في ذلك البكر والثيب والشابةوالعجوز والصحيحة والمريضة والأولى والأخيرة والمسلمة والكتابية، لأن رباط الزوجية واحد في الجميع، فلا يحل له أن يميز واحدة عن غرها في أي شيء من الأمور الظاهرة، فيبيت عند كل واحدة قدر ما يبيت عند الأخرى وتقدير النوبة مفوض إليه.

والمعتبر في المناوبة بين الزوجات الليل لا النهار، إلا إذا كان الزوج يعمل ليلاً فتكون المناوبة بالنهار، وإذا عين الزوج مقدار النوبة بدأ بمن شاء، وعليه أن يوفي كل زوجة نوبتها دون أن يزيد لواحدة على حساب الأخرى إلا إذا أذنت صاحبة الحق في ذلك،أو وجدت ضرورة تدعوه إلى ذلك كأن مرضت إحداهن وليس لها من يقوم بتمريضها غيره.

وإذا تنازلت إحدى الزوجات عن نوبتها أخرى صح ذلك، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقر ذلك عندما تنازلت سودة بنت زمعة عن نوبتها لعائشة رضي الله عنهما، وللمتنازلة أن ترجع عن تنازلها متى شاءت لأنها أسقطت حقاً لم يجب بعد فلا يسقط.

يلزم الزوج هذا القسم حتى ولو كان مريضاً، لأن في وجوده عند زوجته إيناساً لها إلا إذا أَذِنَّ له في القرار في بيت إحداهن.

هذا ولا يسقط القسم عنه إلا في حالة السفر، فله أن يأخذ من يشاء منهن للسفر معه، وليس لغيرها عوض عن أيام السفر لتطالب به بعد العودة منه، ولا يجب عليه إجراء القرعة بينهن وإن كان من الأفضل أن يختار من يختارها للسفر بالقرعة بينهن تطييباً لخاطرهن، حتى لا تشعر الباقيات بمرارة التفضيل لمن اختارها، وهذا عند الحنفية . لأنه لا يجب عليه أن يصحب أحداً من نسائه معه في سفره.

وذهب الشافعية إلى أنه يجب عليه أن يقرع بينهن، لما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا أراد سفراً أقرع بين نسائه وأيتهن خرجت قرعتها خرج بها، فإذا أقرع بينهن لا يقضي للباقيات، وإن سافر من غير قرعة فعليه أن يقضي للباقيات بقدر غيبته مع من سافر بها.

وأجيب على ذلك بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يفعل ذلك تطييباً لقلوب نسائه، ولأن الزوج لا يجب عليه أن يصحب واحدة منهن، وليست كل زوجة تصلح رفيقة في السفر.

وكما يجب عليه التسوية في البيات، يجب عليه التسوية في النفقة حسب حالة من العسر واليسر على أحد الآراء من مذهب الحنفية، فيعطي الفقيرة والغنية سواء لقوله تعالى: { لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا مَا آتَاهَا } [الطلاق: 7].

ويعتبر في النفقة حال الزوجين معاً. أخذاً بالراجح من مذهب الحنفية.

Free Web Hosting