: المبحث السادس في مؤكدات المهر

المهر الذي وجب بالعقد الصحيح فإن وجوبه غير مستقر، لأنه عرضة لأن يسقط كله أو نصفه حتى يوجد ما يؤكده، فإذا وجد ذلك المؤكد استقر وجوبه ولا تبرأ ذمته إلا بالأداء أو الإبراء.

والمؤكدات للمهر أمور اتفق الفقهاء على بعضها واختلفوا في البعض الآخر .

فاتفقوا على أنه يتأكد بأحد أمرين :

أولاهما: الدخول الحقيقي بالزوجة، لأن الزوج بدخوله بزوجته يستوفي حقه منها فيتقرر حقها كاملاً في المهر سواء كان مسمى وقت العقد أو قدر بعده بالتراضي بينهما أو بقضاء القاضي أو لم يكن مسمى ووجب مهر المثل بقيت الزوجية أو حصلت الفرقة بينهما، وإذا تقرر حقها في المهر كاملاً فلا تبرأ ذمته إلا بأدائه لها أو إبرائها له منه.

غير أنه يشترط في ذلك الدخول الموجب لكل المهر أن يكون واقعاً من بالغ، وأن تكون المرأة صالحة للمخالطة الجنسية، فإن كانا صغيرين لا يتقرر بدخولهما كل المهر عند الحنفية والمالكية ولا يشترط في الدخول أن يكون حلالاً، بل إن حصوله مع وجود المانع الشرعي كالحيض أو النفاس أو كون أحدهما صائماً مثلاً يتأكد به المهر.

ثانيهما: موت أحد الزوجين باتفاق المذاهب الأربعة، وإن قصره المالكية على المهر المسمى حيث لا يوجبون لها شيئاً عند عدم التسمية.

وموت أحد الزوجين يوجب المهر كله قبل الدخول أو الخلوة بالزوجة حتى ولو كانا صغيرين أو أحدهما. وإنما وجب المهر كله بالموت لأنه وجب بالعقد وكان عرضة للسقوط بالفسخ من أحد الجانبين وبالموت تعذر الفسخ لانتهاء العقد به حيث إن الزواج للعمر وقد انتهى العمر بالموت فينتهي الزواج به، والشيء تتقرر أحكامه الممكنة بانتهائه، والمهر حكم من أحكامه التي يمكن تقريرها بالموت.

ولأن المهر لما وجب بنفس العقد صار ديناً في ذمة الزوج، والديون لا تسقط بالموت فلا يسقط به المهر، وإذا تقرر المهر فإن كانت الزوجة أخذت جزءاً منه قبل موت الزوج تقرر لها الباقي في تركته، وإذا لم تكن أخذت منه شيئاً أخذته كله من تركة الزوج.

وإذا كانت الزوجة هي التي ماتت أخذ ورثتها المهر كله أو باقيه من الزوج بعد خصم نصيبه منه لأنه يرثها فيما تركته ومنه المهر الذي لم تقبضه.

والفقهاء متفقون بعد ذلك على أن موت أحد الزوجين مؤكد لكل المهر إذا كان الموت طبيعياً أو بقتل أجنبي، أو كان بفعل الزوج بأن قتل نفسه أو قتل زوجته، واختلفوا فيما إذا قتلت نفسها أو قتلت زوجها عمداً.

وذهب الشافعية إلى أنها قتلت زوجها عمداً أنها لا تستحق صداقها لأنها أنهت الزواج بمعصية فوتت بها على الزوج حقه، وإنهاء الزواج بهذه الصورة من قبلها يسقط المهر متى كان قبل الدخول، كما إذا ارتدت بعد العقد وقبل الدخول.

وذهب المالكية إلى موافقة الشافعية بالجملة، حيث إنهم منعوا تكميل المهر لئلا يكون ذلك ذريعة لقتل النساء أزواجهن فتعامل بنقيض مقصودها.

وذهب جمهور الحنفية ومعهم الحنابلة إلى أن المهر لا يسقط بهذا القتل بل يتأكد المهر كله به، لأن القتل وإن كان جناية منها فله عقوبة مقررة وهي القصاص. فلو قلنا بسقوط مهرها لأوجبنا عليها عقوبة زائدة لم تقرر شرعاً وهو غير جائز، ولأن المهر في تلك الحالة للورثة لا لها فلا يحتمل السقوط بفعلها كما إذا قتلها زوجها.

- وقد اختلفوا في تأكده بالخلوة بعد العقد الصحيح:

وذهب الشافعية إلى أنها في المشهور عندهم ، إلى أنها لا تقوم مقام الدخول في تأكيد المهر، فإذا طلقها بعد الخلوة وجب لها نصف المهر المسمى، فإن لم يكن سمى لها مهراً وجبت لها المتعة.

غير أن المالكية قالوا: لو أقامت معه في بيته سنة، وكان بالغاً وهي تطيق المخالطة ولم يفعل شيئاً يجب كل المهر لو انفسخ العقد بعد ذلك.

وذهب الحنفية والحنابلة إلى أن الخلوة بالزوجة يتأكد بها المهر كله، وتسمى عندهم بالدخول الحكمي.

غير أن الحنفية يشترطون في الخلوة أن تكون صحيحة، وأما الحنابلة فلا يشترطون ذلك بدليل أنهم قالوا: لو لمسها أو قبلها بشهوة ولو بحضرة الناس تأكد لها كل المهر ولا يسقط، ومثل ذلك لو نظر إلى ما لا يحل لغيره بالنظر إليه بشهوة، بل زادوا على ذلك وجعلوا الخلوة في الزواج الفاسد موجبة للمهر في إحدى الروايتين.

المبحث السابع

في الخلوة الصحيحة وأحكامها:

وحد الخلوة الصحيحة عند الحنيفة أن يجتمع الزوجان بعد العقد الصحيح في مكان يأمنان فيه من دخول أحد عليهما بدون إذنهما أو يطلع عليهما، وليس هناك مانع يمنعهما من المخالطة الجنسية، فإذا لم يكن المكان آمناً لا تكون صحيحة، وإن كان آمناً ووجد المانع لا تكون صحيحة أيضاً.

والموانع - كما عّدها الفقهاء ثلاثة أنواع: حقيقي، وشرعي، وطبعي .

فالحقيقي : ويسميه بعض الفقهاء بالحسي كالمرض الذي يحول بينهما وبين التمتع الكامل، والعيب الخلقي بالمرأة كالقرن والرتق والصغر بأن يكون أحدهما صغيراً لا يمكن الاختلاط من مثله.

والشرعي : كأن يكون أحدهما صائماً في رمضان، أو محرماً بحجة فريضة أو نفل أو بعمرة، أو تكون المرأة حائضاً أو نفساء فكل ذلك مانع شرعاً، لأن المخالطة الجنسية محرمة فيها شرعاً، وفي الحيض والنفاس مانع طبعاً لأنه أذى والطبع ينفر عن استعمال الأذى.

والمانع الطبعي : كأن يكون معهما ثالث عاقل ولو كان صغيراً يستطيع التعبير عما وقع بينهما (1) لأن الإنسان يكره أن يقرب امرأته بحضرة ثالث ويستحي فينقبض عنه، وهذا تقسيم اعتباري، ولهذا سمى بعض الفقهاء هذا المانع بالحسي لأن الشخص الثالث محسوس.

فإذا صحت الخلوة تأكد بها المهر، فلو طلقها بعد ذلك أو انفسخ العقد بسبب من أسباب الفسخ ولو من جانبها وجب لها المهر كله متى كان العقد صحيحاً.

___________________

(1) أما إذا كان معهما صغير لا يميز أو مجنون أو مغمى عليه فلا يمنع الخلوة.

ولا تعتبر هذه الخلوة بعد الزواج الفاسد، لأن المخالطة الجنسية فيه حرام، فكان المانع الشرعي قائماً، ولأن الخلوة تؤكد المهر بعد وجوبه بالعقد، والعقد الفاسد لا يوجب المهر فلا يتصور تأكيد شيء لم يوجد.

وإذا كانت الخلوة الصحيحة يتأكد بها المهر بالدخول الحقيقي فهي لا تأخذ حكمة في كل شيء، بل تتفق معه في بعض الأحكام وتخالفه في بعضها الآخر وإليك البيان لمواضع التوافق والتخالف:

الأحكام التي يشتركان فيها:

1- تأكيد المهر للزوجة.

2- وجوب العدة على الزوجة إذا وقعت الفرقة بعد الخلوة الصحيحة.

كما تجب به بعد الدخول، لكن يلاحظ أنهما وإن اتفقا في وجوب العدة إلا أن وجوبها بالدخول وجوب ظاهراً وباطناً، أي قضاء وديانة لأنها حق الشارع وحق الولد الذي قد يأتي ثمرة لهذا الدخول. فيحرم عليها التزوج قبل انقضائها، أما في حالة الخلوة فوجوبها إنما هو في الظاهر فقط، أي في نظر القضاء. فلو رفع الأمر إلى القاضي وجب عليه الحكم بوجوبها على المختلي بها، لكن المرأة إذا كانت متيقنة بعدم مخالطة زوجها لها أثناء الخلوة فإنه يحل لها ديانة. أي بينها وبين الله أن تتزوج من غير أن تعتد بعد ذلك الطلاق، لأنه طلاق قبل الدخول حقيقة فلا يوجب العدة، كما ذهب إليه بعض فقهاء الحنفية ، وإذا وجبت العدة على الزوجة بالفرقة بعد الخلوة الصحيحة ترتبت عليها أحكام العدة وهي:

1- وجوب النفقة بأنواعها التي تثبت لكل معتدة.

2- حرمة التزوج بامرأة أخرى تكون محرماً للمعتدة ما دامت في عدتها، لأنه يكون جامعاً بين محرمين.

3- يحرم عليه التزوج بخامسة ما دامت العدة قائمة إذا كان له ثلاث زوجات غير تلك المطلقة، لأنه يكون جامعاً لأكثر من أربع زوجات.

بقي حكم أخير تشترك فيه الخلوة والدخول بالزوجة وهو ثبوت نسب الولد من الزوج إذا توافرت شروط ثبوت النسب ، كما يثبت نسبه منه بعد الدخول.

وهذا في الواقع ليس حكماً للخلوة ولا للدخول، بل هو حكم لعقد الزواج الصحيح وإن لم يعقبه دخول ولا خلوة كما يذهب إليه الحنفية احتياطاً منهم وحرصاً على عدم ضياع الولد.

الأحكام التي يختلفان فيها:

تختلف الخلوة عن الدخول في الأحكام الآتية:

1- حرمة بنات الزوجة تكون بالدخول الحقيقي بها ، أما مجرد الخلوة الصحيحة فلا يترتب عليها حرمة البنات، فلو تزوج رجل امرأة ودخل بها ثم طلقها فإنه حرم عليه التزوج بإحدى بناتها بعد ذلك، أما لو طلقها بعد الخلوة بها فيحل له التزويج بإحدى بناتها، لأن القرآن علق تحريم الربائب على الدخول. { وَرَبَائِبُكُمْ اللاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمْ اللاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ }.

2- إحلال المطلقة ثلاثاً لمطلقها ، فلو طلق الرجل زوجته ثلاثاً فإنها لا تحل له بعد ذلك حتى تتزوج زوجاً آخر، فإذا تزوجها الثاني ودخل بها دخولاً حقيقياً ثم طلقها وانقضت عدتها حلت للأول، أما لو طلقها بعد الخلوة الصحيحة فلا تحل له لحديث "لا حتى تذوقي عُسَيْلَتَهُ ويذوقَ عُسَيْلَتَكِ"، وهو كناية عن الدخول الحقيقي فبقي ما دونه على التحريم.

3- الطلاق الواقع بعد أحدهما فإنه بعد الدخول الحقيقي يكون رجعياً وبائناً ، أما بعد الخلوة الصحيحة فإنه لا يكون إلا بائناً على أي صورة وقع من الزوج، ويترتب على ذلك أن المطلق بعد الدخول يستطيع مراجعة زوجته بدون عقد جديد إذا كان طلاقه السابق رجعياً، أما المطلق بعد الخلوة فلا يستطيع إرجاعها إلا بعقد جديد.

4- إن المدخول بها تزوج تزويج الثيبات من أنه لا بد في تحقق رضاها من أذنها الصريح، أما المختلى بها فقط فتتزوج زواج الأبكار لأنها لا زالت بكراً فيكتفي في رضاها بمجرد السكوت.

5- الميراث ، إذا طلق الرجل امرأته بعد الخلوة الصحيحة ومات أحدهما في أثناء العدة فلا يرث أحدهما الآخر، لأن الطلاق بعدها يكون بائناً على أي شكل وقع، ولا إرث في عدة البائن. يستوي في ذلك أن يكون طلاقه فراراً من الميراث وهو الطلاق في مرض الموت من غير رضاها أو لم يكن كذلك.

أما إذا طلقها بعد الدخول ومات أحدهما في العدة، فإنه يرث أحدهما الآخر إذا كان الطلاق رجعياً، بل إنه يثبت للزوجة في عدة الطلاق البائن إذا كان الطلاق في مرض موته، لأنه يعتبر فاراً من ميراثها فيعامل بنقيض مقصوده.

فالفرق بينهما فيما إذا كان الطلاق بائناً قصد به الفرار من الميراث، والميراث لا يثبت إلا بيقين بوجود سببه لأنه حق مالي لا يثبت احتياطاً.

6- الإحصان ، فإن الدخول يجعل كلاً من الزوج والزوجة محصنين بحيث تطبق عليهما عقوبة الرجم في الزنى، أما الخلوة الصحيحة فلا تجعلها محصنين فتطبق عليهما عقوبة الجلد عند الزنى إن لم يكن سبق لهما زواج ودخول.

المبحث الثامن

فيما يتأثر به المهر بعد وجوبه:

عرفنا ما يتأكد به المهر فيتقرر بأكمله بالدخول والخلوة الصحيحة، وموت أحد الزوجين، فإذا حصلت الفرقة بعدها وجب المهر كاملاً سواء كان المسمى أو مهر المثل.

أما إذا حصلت الفرقة قبلها فلا يجب المهر كله، بل تارة يتنصف، وأخرى يسقط إلى بدل، وثالثة لا إلى بدل فتلك حالات ثلاث وإليك تفصيلها:

الحالة الأولى: حالة التنصيف وهي التي يجب فيها نصف المهر.

يجب نصف المهر إن كان مسمى تسمية صحيحة وكانت الفرقة من قبل الزوج سواء كانت طلاقاً أو فسخاً. كالفرقة بلفظ الطلاق أو التفريق بعيب فيه أو بسبب ارتداد الزوج عن الإسلام، أو إبائه عنه إذا كان غير مسلم وأسلمت زوجته أو ارتكابه ما يوجب حرمة المصاهرة.

ولا يستثنى من ذلك إلا صورة ما إذا كانت الفرقة بسبب خيار البلوغ، أو الإفاقة فيما لو زوج الصغير أو المجنون غير الأب والجد المعروفين بحسن الاختيار من الأولياء فإنه يثبت له الخيار في فسخ العقد عند البلوغ أو الإفاقة. فإذا اختار فسخ العقد لا يلزم بشيء من المهر، لأننا لو أوجبنا عليه نصف المهر كغيره لم يكن لهذا الخيار فائدة، لأنه حينئذ يستوي الفسخ والطلاق الذي يملكه كغيره فتنحصر فائدته في إعفائه من المهر عند اختياره الفسخ، وأيضاً إن فسخ العقد بالخيار رفع له من غير سبب موجب ولم يقل بذلك أحد.

والدليل على إيجاب نصف المهر في هذه الفرقة قوله تعالى: { وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ } [البقرة : 237]. فهذه الآية توجب نصف المهر في الطلاق قبل الدخول إذا كان مفروضاً أي مقدراً فيقتصر التنصيف على المهر المسمى، ويلحق بالطلاق كل فرقة جاءت من جانب الزوج، أما مهر المثل الذي يجب عند عدم التسمية الصحيحة فلم يرد نص بتنصيفه، فيبقى وجوبه كاملاً في الصور التي يجب فيها كمال المهر، ويجب بدل نصفه المتعة، هذا قدر متفق عليه بين الفقهاء .

ولكن الفقهاء اختلفوا في المراد بالمهر المسمى الذي ينص أهو المسمى عند العقد فقط فلا يتناول المسمى بعده بتراضي الزوجين أو بقضاء القاضي عند اختلافهما فيه ولا الزيادة في المهر على المسمى بالعقد أو يتناول كل ذلك؟.

فذهب الحنفية في الراجح عندهم إلى أن المراد به المسمى وقت العقد فقط فلا ينصف ما سمى بعده ولا ما زيد عليه من جانب الزوج، فلو تزوجها بدون تسمية للمهر وقت العقد ثم سمى المهر بعد ذلك بالتراضي أو بالقضاء ثم طلقها قبل الدخول والخلوة فلا يجب لها إلا المتعة، ولو زاد على المسمى شيئاً وطلقها كذلك وجب لها نصف المسمى وتسقط الزيادة.

وذهب الجمهور إلى أن التنصيف يكون للكل في حالة الزيادة وفي حالة التسمية بعد العقد، وسبب الخلاف يرجع إلى اختلافهم في المراد بالمفروض الذي ينصف في الآية { فنصف ما فرضتم } فيقول الجمهور : إنه المفروض سواء كان وقت العقد أو بعده، لأن الفرض معناه التقدير وهو شامل لكل هذا.

ويقول الحنفية : إنه المفروض وقت العقد أو المتفق عليه قبله لأن في عرف الناس كذلك: وكلام الشارع يفسره العرف فيعمل بالمتعارف وإن كان مخالفاً للوضع اللغوي.

الحالة الثانية: التي يسقط فيها المهر إلى بدل. وهي التي يجب فيها المتعة.

المتعة: هي المال الذي يعطيه الرجل للمرأة بعد الفرقة بينهما بطلاق أو فسخ سواء كان هذا المال نقداً أو ثياباً أو غير ذلك. وهي نوعان. واجبة ومستحبة. فتجب للزوجة في كل فرقة قبل الدخول أو الخلوة الصحيحة من جهة الزوج إذا لم يكن لها مهر مسمى تسمية صحيحة وهي المفوضة، والدليل على وجوبها في هذه الحالة قوله تعالى: { لا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمْ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ } [البقرة: 236]، ولأنها وجبت عوضاً عن نصف المهر وهو واجب فتأخذ حكمه لأن بدل الواجب واجب.

وذهب الحنفية إلى وجوبها في كل فرقة من جانبه قبل الدخول سواء اعتبرت طلاقاً أو فسخاً، لأن الحكمة في إيجابها التخفيف عن المرأة لما أصابها من الألم والوحشة بقطع وصلة النكاح من جانب الرجل دون أن يكون لها دخل في ذلك وتعويضها عما فاتها من نصف المهر لو كان لها مهر مقدر، ويستوي في ذلك أن تكون الفرقة طلاقاً أو فسخاً.

مقدار المتعة

والمتعة الواجبة كسوة كاملة للمرأة مما تلبسه للخروج من المنزل عادة أو قيمة ذلك من نقود وغيرها، والمعتبر فيها عرف كل بلدة فيما تكتسي به المرأة خارج بيتها، وهو يختلف باختلاف أحوال الناس. فإن تراضيا عليها فذاك، وإلا فرضها القاضي.

وتحديد الفقهاء لها بالثياب من درع وخمار وملحفة (1) كان باعتبار عرف زمانهم بدليل أنهم نصوا على أن المعتبر في المتعة عرف كل بلد فيما تكتسي به المرأة عند الخروج. كما نصوا على أن الزوج لو دفع لها قيمة المتعة أجبرت على القبول.

_________________

(1) الدرع ما تلبسه المرأة فوق القميص، والخمار ما تغطى به الرأس والملحفة ما تلبس فوق ثيابها وبعض الفقهاء يعدها قميص وأزار وملحفة.

ويريد بالأزار ما يلبس فوق القميص وتحت الملحفة.

وهي على الإجمال لها حد أدنى وحد أعلى:

فحدها الأدنى عند الحنفية ألا تقل عن خمسة دراهم لأنها نصف أقل المهر الواجب شرعاً. وهي وجبت عوضاً عن نصف المهر المسمى، ولا تزيد عن نصف مهر المثل، لأن مهر المثل هو الواجب لها لو فارقها بعد الدخول في هذه الحالة.

ومعنى ذلك أنها لو قدرت لا تقل عن ذلك ولا تزيد عن هذا لكن الزوج لو تطوع بأكثر من هذا وأعطاها باختياره فلا بأس في ذلك، وعند تقديرها: يراعي حال الزوج من اليسار والإعسار لقوله تعالى: { وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ } فهو صريح في أن تقدير المتعة يكون بحال الزوج من اليسر والعسر، ولأنه هو المكلف بدفعها فلو كلفناه وهو فقير وهي غنية بمثل ما تكسى به لكلفناه بما ليس في وسعه. { لا يكلف الله نفساً إلا وسعها }.

أما المتعة المستحبة: فهي لكل مطلقة بعد الدخول سواء سمي لها مهراً أو لا، وللمطلقة قبل الدخول إذا كان لها مهر مسمى على الصحيح في المذهب الحنفي متى كانت الفرقة من جانب الرجل إلا إذا ارتد أو أبى الدخول في الإسلام فإن المتعة لا تستحب في حقه لأن الاستحباب فضيلة لا تطلب إلا من المسلم لقوله تعالى: { وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ } [البقرة: 241].

ولأن إعطاء المتعة في تلك الحالات يكون من التسريح بإحسان المأمور به.

الحالة الثالثة التي يسقط فيها المهر كله إلى بدل:

يسقط المهر كله بعد ثبوته بالعقد الصحيح إذا طرأ عليه سبب من الأسباب الآتية:

1- إذا وهبت الزوجة لزوجها كل المهر قبل الدخول أو بعده فإنه يسقط عنه متى كانت من أهل التبرع وقبل الزوج الهبة في المجلس، سواء كانت الهبة قبل قبض المهر أو بعده وكذلك إذا أبرأته منه وهي رشيدة وكان ديناً في ذمة الزوج سواء كان قبل الدخول أو بعده.

2- إذا حصلت الفرقة بينهما بسبب من جانبها قبل الدخول أو الخلوة الصحيحة. سواء كان هذا السبب أمراً مشروعاً، كما إذا كان لها خيار البلوغ أو الإفاقة فيما إذا زوجها وليها غير الأب والجد وهي صغيرة أو مجنونة ثم بلغت أو أفاقت واختارت فسخ الزواج أو كان أمراً غير مشروع كارتدادها عن الإسلام أو إبائها عنه إذا أسلم زوجها ولم تكن كتابية أو ارتكبت ما يوجب حرمة المصاهرة فإن عقد الزواج في تلك الصور يفسخ ولا مهر لها، لأن إقدامها على ما يوجب الفسخ قبل أن يتأكد المهر دليل على تنازلها عنه، بخاصة إذا كان ما فعلته معصية، ومثل ذلك إذا كان الفسخ من قبل وليها، كما إذا زوجت نفسها بدون كفء أو بأقل من مهر المثل واعترض وليها العاصب على العقد وطلب فسخه وأجيب إلى طلبه، لأن فسخ العقد وإن كان من وليها مباشرة إلا أنها هي التي تسببت فيه بتزويجها بمن يعترض عليه وليها، فكأنها هي التي فسخته.

3- إذا فسخ الزواج بسبب مشروع من جهة الزوج قبل الدخول أو الخلوة كاختياره الفسخ عند البلوغ أو الإفاقة، لأن هذا الفسخ نقض للعقد من أساسه، وإذا نقض العقد لم يبق سبب موجب للمهر.

4- إذا خالعت الزوجة زوجها على المهر كله قبل الدخول أو بعده فإنه يسقط كله.

المبحث التاسع

في ولاية قبض المهر والتصرف فيه:

قدمنا أن المهر حكم من أحكام العقد وأنه يثبت حقاً للزوجة بمجرد العقد الصحيح سواء كان مسمى في العقد أو لا، ولا تتوقف ملكيتها له على القبض حتى جاز لها التصرف فيه قبل قبضه.

وإذا تم العقد فلمن تثبت ولاية قبض المهر. أتثبت للعاقد ولياً كان أو وكيلاً أم للزوجة؟.

الأمر لا يخلو من أن تكون الزوجة كاملة الأهلية أولاً، فإن كانت كاملة الأهلية ثبت الحق لها سواء تولت هي العقد بنفسها أو تولاه غيرها وليس لأحد سواها ولاية قبضه إلا بإذنها الصريح أو الضمني.

فإذا قبضه غيرها بدون إذنها لا تبرأ ذمة الزوج منه وكان لها حق مطالبته به وهو يرجع على من أقبضه، وإن كان القبض بإذنها برئت ذمته، ولا يعتبر سكوتها عند القبض رضا منها بذلك إلا فيما إذا كانت بكراً وكان القابض أباها أو جدها لأبيها لجريان العادة بقبض الآباء والأجداد مهور الأبكار من بناتهم لاستحيائهن من المطالبة بالمهر، فاعتبر السكوت إذناً بالقبض دلالة بشرط ألا يوجد منها ما يدل صراحة على عدم رغبتها في قبض الولي له كأن تنهى الزوج عن دفعه إليه لسبب من الأسباب.

فإن وجد لا يعتبر قبضه صحيحاً فلا تبرأ ذمة الزوج منه، أما غير الأب والجد من الأولياء فليس لهم ولاية القبض إلا بالإذن الصريح، وكذلك الوكيل عنها في عقد الزواج لأنه مجرد سفير ومعبر عنها.

ويلاحظ هنا أن المأذون له في قبض المهر المسمى وإن كان أباً أو جداً ليس له قبض غيره، وإن كان مساوياً له في القيمة لأنه يكون استبدالاً وهو لا يملك ذلك بالنسبة لكاملة الأهلية، وقد سبق بيان حق الزوجة في الامتناع عن الزوج والدخول في طاعته حتى يوفيها مهرها المعجل.

وإن كانت الزوجة فاقدة الأهلية لصغرها أو جنونها أو كانت محجوراً عليها لسفه أو غفلة فصاحب الحق في قبض مهرها من له الولاية على أموالها وهو عند الحنفية واحد من ستة: الأب ثم وصيه فإن لم يكونا فالجد ثم وصيه فإن لم يكن أحد من هؤلاء فالقاضي ثم وصيه بهذا الترتيب.

وعلى هذا فقد تجتمع الولايتان "ولاية المال" لشخص واحد كالأب والجد، وقد تفترقان فيكون للزواج ولي وللمال ولي آخر كالعم ووصي الأب، فإنَّ أولهما ولي في الزواج والثاني ولي في المال. فإذا قبض واحد من أولياء المال المهر صح قبضه وبرئت ذمة الزوج منه لا تملك بعد زوال سبب الولاية مطالبة الزوج بالمهر مرة أخرى، بل تطالب وليها الذي قبضه.

وإذا قبضه واحد غير هؤلاء لا يعتبر قبضه وكان لها حق مطالبة الزوج به بعد البلوغ أو رفع الحجر، لأن ذمته لم تبرأ بالدفع إلى غير الولي المالي، ويرجع على من أقبضه إياه.

وعلى هذا إذا كان للصغيرة اليتيمة أو المجنونة أخ ووصي على مالها كان لأخيها ولاية تزويجها ولوصيها قبض مهرها لأن الأول ولي على النفس والثاني ولي على المال فيعمل كل منهما في دائرة اختصاصه لا يتعداها.

المبحث العاشر

في ضمان المهر:

إذا كان المهر حقاً للزوجة فإن قبضته انتهت المسألة، وإن لم تقبضه صار ديناً في ذمة الزوج إذا كان من الأموال التي تثبت في الذمة كالنقود أو في ضمانه إن كان معيناً بذاته.

وكان لها أن تستوثق من استيفائه بأخذ رهن به أو كفيل يضمنه لها، فإن أخذت رهناً جرى عليه أحكام الرهن لكن العادة جرت بأن الناس يطلبون كفيلاً به.

فإذا كفل شخص لها هذا المهر صحت الكفالة إذا كان الكفيل من أهل الكفالة يستوى في ذلك أن يكون قريباً لأحد الزوجين أو أجنبياً عنهما وسواء أكان أحد الزوجين أو كلاهما فاقد الأهلية أو كاملة.

هلاك المهر واستهلاكه:

المهر إما أن يكون من الأموال التي تتعين بالتعيين أو من التي لا تتعين بالتعيين كالنقود وما في حكمها مما يثبت في الذمة.

فإن كان من النوع الثاني ورد عليه الضمان بالكفالة ولا يتصور فيه هلاك أو استهلاك قبل قبضه، لأنه لو جعل مهرها مائة دينار مشاراً إليها لزمه مائة دينار يدفعها إلى الزوجة سواء أكانت هي المشار إليها أم غيرها، لعدم تعلق حقها بمائة بعينها.

وإن كان من النوع الأول، كأن جعل مهرها حيواناً بذاته أو داراً محددة أو سيارة مشاراً إليها.

فإن حقها يتعلق بما عينه سواء كان من الأموال المثلية أو القيمية. وهذا هو الذي يرد عليه الهلاك والاستهلاك.

فإن هلك المهر من هذا النوع في يدها بعد قبضها له بآفة سماوية أو بفعلها فهلاكه عليها ولا ترجع على الزوج بشيء، لانتهاء عهدة الزوج بقبضها له.

وإن استهلكه غيرها سواء كان الزوج أو غيره لزمه ضمانه فترجع على المستهلك بمثله إن كان مثلياً وبقيمته إن كان قيمياً.

أما إذا هلك قبل قبضها له فإنه يكون مضموناً على الزوج سواء كان بفعله أو بآفة سماوية، لأن الزوج ملتزم به قبل قبضها فيضمنه.

أما إذا كان استهلاكه بفعل الزوجة فلا ترجع على الزوج بشيء لأنها استوفت حقها بإهلاكها له، وإن هلك بفعل أجنبي فالزوجة بالخيار إن شاءت رجعت على ذلك الأجنبي وإن شاءت رجعت على الزوج وهو يرجع على الأجنبي.

وإذا حصل الطلاق قبل الدخول فإن كان الهلاك قبل القبض وجب على الزوج نصف قيمة المهر يوم الهلاك، وإن هلك بعد القبض وجب عليها رد نصف قيمته يوم القبض للزوج.

استحقاق المهر للغير:

وهذا لا يكون إلا في المهر المعين، فإذا استحق المهر كله بأن ظهر أنه ملك لغير الزوج كان على الزوج ضمان مثله إن كان مثلياً وقيمته إن كان قيمياً، يستوي في ذلك ظهور استحقاقه قبل القبض وبعده.

فإن استحق بعضه وكان من الأموال المثلية أخذت الزوجة الباقي ورجعت على الزوج بمثل الجزء المستحق، وإن كان قيمياً كدار أو فرس تخيرت بين أخذ الباقي وتشارك الأجنبي فيه والرجوع على الزوج بقيمة الجزء المستحق وبين أن تأخذ القيمة كلها من الزوج وتترك له العين ليشترك فيها مع المستحق لجزئها، وإنما تخيرت هنا لأنها ملكت العين كلها بالعقد دون أن يكون لها شريك فيها، فإذا عرضت الشركة في تلك العين وهي عيب قد لا ترضى به ثبت لها التخيير.

هذا إذا استحقت الزوجة المهر كله، أما إذا استحقت نصفه فقط كأن طلقها قبل الدخول ثم ظهر مستحق لنصف العين التي جعلت مهراً لم يكن لها غير النصف الآخر، لأنها في هذه الحالة ستكون شريكة على كل حال، إما للزوج لو لم يظهر مستحق لنصف العين أو للآخر بعد استحقاقه.

المبحث الحادي عشر

في الاختلاف في المهر وقضاياه:

مع وضوح حق المرأة وما يجب لها في كل حالة من الحالات إما تمام المهر المسمى أو نصفه، أو مهر المثل أو المتعة، لكن ذلك عند اتفاق الزوجين على ما وقع بينهما، وقد يختلفان، وقد يختلف أحدهما مع ورثة الآخر بعد موته. وقد يختلف ورثتهما بعد موتهما.

والاختلاف بينهما قد يكون في أصل تسمية المهر، بأن يدعي أحدهما تسمية المهر وينكر الآخر، وقد يكون في مقدار المسمى بعد اتفاقهما على التسمية، وقد يكون في قبض المعجل بعد اتفاقهما على التسمية ومقدار المسمى، وإليك تفصيل أحكام تلك الصور:

الصورة الأولى: إذا اختلف الزوجان في أصل التسمية بأن ادعى أحدهما تسمية المهر مع تعيين مقداره وأنكر الآخر.

والحكم في ذلك: أن على مدعي التسمية إثباتها بالبينة، فإن أقامها حكم بالمهر الذي ادعاه، وإن عجز عن إقامة البينة وطلب اليمين من المنكر وجهت اليمين إليه، فإن امتنع عن اليمين حكم عليه بما ادعاه الآخر، لأن ذلك بمثابة اعتراف منه بدعوى المدعي، وإن حلف بطلت التسمية وقضى بمهر المثل لأنه الواجب في كل زواج خال من التسمية الصحيحة عند الحنفية .

لكن يلاحظ أنه يشترط في مهر المثل الذي يقضى به هنا ألا يقل عما سماه الزوج إن كان هو المدعى، لأنه التزم هذا القدر المسمى بادعائه فلا ينقص عنه، وألا يزيد على ما ادعته المرأة إن كانت هي المدعية، لأنها رضيت بما سمته في دعواها.

فإذا كان الزوج هو المدعي وادعى أكثر من مهر المثل حكم بما ادعاه لا بمهر المثل، وإذا كانت الزوجة هي المدعية وادعت أقل منه حكم بما ادعته.

وهذا الحكم فيما إذا وقع الاختلاف بينهما حال قيام الزوجية أو بعد زوالها وتأكد المهر كله بأحد الأمور المؤكدة له.

أما إذا حصل الطلاق قبل أن يتأكد المهر فتستحق الزوجة نصف المسمى إن ثبتت التسمية، والمتعة إن لم تثبت لا تزيد على نصف ما عينته الزوجة إن كانت هي التي ادعت التسمية، ولا تنقص عن نصف ما عينه الزوج إن كانت دعوى التسمية من جانبه.

والحكم لا يختلف عن هذا فيما إذا حصل الاختلاف بين أحد الزوجين وورثة الآخر باتفاق أئمة الحنفية، لأن ورثة أحدهما تقوم مقامه، ولأن المهر لا يسقط بالموت.

وكذلك إذا وقع الاختلاف بين ورثة الزوجين بعد موتهما عند الحنفية.

الصورة الثانية: إذا اختلفا في مقدار المهر بعد اتفاقهما على أصل التسمية، كما إذا ادعت الزوجة أن المسمى مائتا دينار، وقال الزوج: إنه مائة وخمسون.

وفي هذه الصورة يرى الحنفية: أن الزوجة تدعي الزيادة والزوج ينكرها فإن أقامت على دعواها حكم بمقتضاها، وإن عجزت يكون القول قول الزوج مع يمينه، فإن نكل عن اليمين حكم بما ادعته الزوجة، وإن حلف حكم بما ادعاه إلا أن يكون ما ادعاه شيئاً قليلاً لا يمكن أن يكون مهراً لمثلها فإنه يحكم بمهر المثل في هذه الحالة بشرط ألا يزيد على ما تدعيه لأن الظاهر يؤيدها فيما تدعيه.

والحكم لا يختلف عن هذا فيما إذا وقع الاختلاف بين أحد الزوجين وورثة الآخر، أو اختلاف ورثة الزوجين بعد موتهما.

الحالة الثالثة: إذا اتفق الزوجان على أصل التسمية والمقدار المسمى واختلفا في قبض المعجل بأن ادعى الزوج أنه أوفاها المعجل كله وأنكرت الزوجة أنها قبضته كله أو أنها قبضت بعضه ولم تقبض باقيه.

والحكم في هذا الاختلاف يختلف باختلاف الوقت الذي حصل فيه:

فإن كان قبل أن تزف إليه كانت الزوجة متمسكة بالأصل والزوج يدعي خلافه، لأن المهر ثبت في ذمة الزوج ديناً بمجرد العقد والأصل بقاؤه حتى يقوم الدليل على خلافه، فإن أقام الزوج بينة على دعواه حكم بمقتضاها، وإن عجز كان القول للزوجة مع يمينها، فإن نكلت عن اليمين حكم للزوج لأن نكولها دليل على صدق دعواه.

وإن كان الخلاف وقع بعد أن زفت إليه فالحكم يختلف تبعاً لوجود عرف مطرد بلزوم تعجيل جزء من المهر قبل الزفاف أو عدم وجوده.

فإن لم يوجد عرف فالحكم لا يختلف عما إذا كان قبل الزفاف من أن على الزوج البينة والقول قول الزوجة مع يمينها، فإن أقام بينة حكم بها وإن لم تكن له بينة حكم لها إذا حلفت اليمين.

وإن كان هناك عرف مطرد بالتعجيل وادعى الزوج أنه أوفاها معجل الصداق وهي تنكر قبض شيء منه كان القول قول الزوج، لأن العرف يشهد له ويقوم مقام البينة على صدق دعواه ولا يلتفت إلى دعواها عدم القبض لأن الظاهر يكذبها.

وإن كان الخلاف بينهما في قبض بعض المعجل بأن اعترفت الزوجة بأنها قبضت بعضه دون باقيه والزوج ينكر ذلك مدعياً أنه أوفاها كل المعجل كان القول قولها مع اليمين حتى ولو جرى عرف الناس بقبض كل معجل الصداق، لأن بعض الناس يتساهلون عادة بعد قبض جزء من معجل الصداق في طلب الباقي فيتم الزفاف قبل قبضه، ولأن اعترافها بقبض البعض مع إمكانها إنكار قبضه أمارة واضحة على صدقها. فيؤخذ بقولها مع اليمين، إلا إذا أقام الزوج البينة على صدق دعواه فيحكم له، وهذه الأحكام كما تجري في اختلاف الزوجين تجري في اختلاف أحدهما مع ورثة الآخر، وفي اختلاف ورثتيهما.

الاختلاف في وصف المقبوض أهو هدية أم من المهر؟

إذا كان الزوج قد بعث إلى زوجته شيئاً من النقود، أو الحلي، أو الثياب وغيرها قبل الزفاف أو بعده، ولم يذكر عند إرساله أنه هدية أو من المهر ثم اختلفا بعد ذلك، فقالت: هو هدية حتى لا يرجع عليها بشيء منه لأن الزوجية مانعة من الرجوع فيها، وقال: هو من المهر حتى يحتسب له من المهر، فكل منهما مدعي ومنكر ما ادعاه الآخر، فأيهما أقام البينة على دعواه قضى بما يدعيه لثبوته بالبينة وعدم وجود معارض من الطرف الآخر.

وإن أقام كل منهما بينة على دعواه قبلت بيِّنَتُها لأنها تدعى خلاف الظاهر. والبينات شرعت لإثبات ما خالف الظاهر، وما يدعيه الزوج هنا يتفق مع الظاهر، لأن الشخص يسعى أولاً إلى أداء الواجب في ذمته وهو المهر ثم بعد ذلك يهدى.

وإذا عجزا عن إقامة البينة حكم العرف في الشيء المدفوع ويكون الحكم لمن يشهد له العرف، فيكون القول قول الزوج مع يمينه فيما لم يجر العرف بإهدائه، فإذا حلف أحدهما اليمين حكم له بدعواه، وإن امتنع عن اليمين حكم للآخر لأن النكول عن اليمين إقرار بدعوى الخصم.

وإن لم يوجد عرف أصلاً، أو اشتبه العرف وتعذر تحكيمه لاحتماله الأمرين فالقول قول الزوج مع يمينه، لأنه المعطي وهو أدرى ببيان الوجه الذي كان عليه الإعطاء ما لم يكن الذي أعطاه يستنكر في العادة كونه من المهر كالمأكولات مثلاً، فيكون القول قولها مع اليمين، لأن الظاهر يشهد لها فيعتبر دليلاً عند عدم البينة.

وإذا ثبت أن المدفوع من المهر وكان من جنس المهر وقعت المقاصة، وإن كان من غير جنسه وكان قائماً بيد الزوجة كانت بالخيار بين أن تحتسبه من المهر أو ترده إلى الزوج لترجع بكل المهر إن لم تكن قبضته، أو بباقيه إن كانت قبضت بعضه.

وإن كان قد هلك أو استهلك في يدها، فإن كان مثلياً فلها أن ترد مثله وتأخذ مهرها، وإن كان قيمياً احتسب من المهر بقيمته واستوفت الباقي من المهر.

وإذا ثبت أنه هدية لم يحتسب من المهر ولا يجوز استرداده، لأن الزوجية من موانع الرجوع في الهبة، وإذا كانت الزوجة قد قدمت لزوجها هدية بنفسها أو قدمها أبوها من مالها بإذنها، فإن كانت قدمته قبل تقديم الزوج ما تنازعا فيه لا ترجع عليه بشيء لأنها قدمته هدية، وهي هبة خالصة لم تقصد بها المعاوضة والزوجية مانعة من الرجوع في الهبة وإن كانت قائمة في يده.

وإن كانت قد قدمته له بعد أن قدم هداياه، فإن صرحت عند الإهداء أنه عوض عما قدمه ظانة أنه هدية أو كان عرف الناس يقضي بأنه عوض رجعت عليه بما أهدته لأنه تبين أنه لم يهب لها شيئاً حتى تعوضه عنه، حيث رجع عليها واعتبر ما قدمه من المهر.

أما إذا قدم أبو الزوجة هدية من ماله للزوج فإنه يرجع عليه بها إن كانت قائمة أو بقيمتها إن كانت هالكة إذا كان دفعها على أنها عوض عن هدية الزوج، فإن لم يقصد بها التعويض أخذت حكم الهبة من أنه يرجع عليه بها إن كانت قائمة فإن هلكت أو استهلكت لا رجوع لوجود المانع من الرجوع في الهبة، وهو الهلاك أو الاستهلاك.

المبحث الثاني عشر

في الجهاز ومتاع البيت والنزاع فيهما:

الجهاز: ما يعد به بيت الزوجية من أثاث وأدوات منزلية عند زفاف الزوجة إلى زوجها. إذا كان بيت الزوجية يضم الزوجين لأول مرة بعد أن دفع الزوج لزوجته مهرها أو المعجل منه، بحيث لا تستجيب لطلبه إلا بعد قبضه وإعداد المسكن المناسب، فعلى من يكون جهاز البيت الذي يجمعهما؟.

اختلف الفقهاء في ذلك :

ذهبت الحنفية إلى أن المهر الذي تأخذه الزوجة ملك خالص لها وأن على الزوج أن يهيئ للزوجة المسكن الملائم لها قبل أن يطلبها للدخول في طاعته فلم يوجبوا على الزوجة جهازاً ولا غيره، بل جعلوا إعداد البيت فرشه وتأسيسه بكل ما يحتاج إليه على الزوج حتى يكون مسكناً لائقاً بحياة الزوجين.

وما المهر إلا عطاء لازم يدفعه تقديراً لهذا العقد وإبانة لخطره لتطمئن المرأة إلى هذه الحياة الجديدة.

الاختلاف بين الزوجين في متاع البيت:

يراد بمتاع البيت هنا كل ما يوجد في بيت الزوجية مما ينتفع به في المعيشة سواء كان من الجهاز، أو أدوات منزلية جدت بعد الزفاف.

قد يختلف الزوجان في أثاث البيت الذي يسكنان فيه أثناء الحياة الزوجية أو بعد حصول الفرقة بينهما فيدعي كل منهما ملكيته وفيه ما يصلح للرجال فقط كثيابه وأدوات الرسم والزوج رسام أو أدوات الهندسة أو الطب والزوج مهندس أو طبيب، وما يصلح للنساء فقط، كالحلي والملابس التي تلبسها المرأة وأدوات الزينة، وما يصلح لهما كالمفروشات والأسرة والكراسي والأواني.

ففي هذه الحالة يعتبر كل منهما مدعياً وعلى المدعي إقامة البينة على دعواه، فإن أقام أحدهما البينة حكم له بها لعدم المعارض.

وإن أقام كل منهما البينة رجحت بينة من يدعي خلاف الظاهر، والظاهر هنا أن ما يصلح للرجال فقط يكون للزوج، وما يصلح للنساء فقط يكون للزوجة.

وعلى ذلك ترجح بينة المرأة فيما يصلح للرجال فقط لأنها تثبت خلاف الظاهر، وترجح بينة الرجل فيما يصلح للنساء فقط، فيحكم بمقتضى البينتين، ويكون القول فيه لمن يشهد له الظاهر مع يمينه، والظاهر هنا يشهد للزوج لأنه صاحب البيت فيكون ما فيه ملك له.

فإن حلف حكم له، وإن امتنع عن اليمين حكم للزوجة، لأن امتناعه عن اليمين يعتبر إقراراً منه بدعواها أو تنازلاً منه لها.

وإذا عجزاً عن البينة يكون القول قول الزوج بيمينه فيما يصلح للرجال فقط، فإن حلف حكم له به ويكون القول قول الزوجة بيمينها فيما يصلح للنساء فقط، فإن حلفت حكم لها به، وإن نكل أحدهما أو كلاهما عن اليمين يكون إقراراً منه بدعوى الآخر فيحكم له.

وأما ما يصلح لهما ففي مذهب الحنفية رأيان :

أولاهما: أن القول للزوجة في مقدار ما يجهز به مثلها في العادة، لأن عرف الناس جرى على أن الزوجة لا تزف إلى زوجها إلا بجهاز فيحكم لها منه بجهاز مثلها، وما زاد على ذلك يحكم به للزوج، لأن البيت بيته ويده هي المتصرفة فيه.

وثانيهما: أن القول للزوج بيمينه، لأنه صاحب البيت ويده صاحبة التصرف فيه، لكن هذا الرأي يترتب عليه إهدار العرف الجاري بين الناس من قديم الزمان.

Free Web Hosting