31- الكأبة بعد فقد عزيز

أنا امرأة في الثلاثين من عمري، لدي عدد من البنين والبنات، أعيش مع زوجي وأهله، حياتنا هادئة تسودها الألفة والتفاهم، ولله الحمد، ولكن كما يقال:((دوام الحال من المحال)) قبل بضعة أسابيع فجعت بموت ابنتي الوسطى- ذات السنوات الأربع- غرقاً في المسبح في وقت غفلة مني ومن أهل البيت. لقد كان فقدها صاعقة أصابت قلبي وعقلي ووجداني، وذهلت عند شاهدتها ميتة ذهولاً شديداً حتى أني لم أكن أدري أين أنا، ولا ماذا أفعل لم أكن أصدق ما جرى، وأصبت بارتباك وقلق وحيرة بضعة أيام، مع بكاء متواصل واضطراب في النوم.

لا أزال أشعر وكأنها حولي تناديني.. "ماما.. ماما" تطلب مني مساعدتها في أمر، أو مشاركتها في لعبها أو أحكي لها حكاية قبل النوم.

لقد تغيرت حياتي، بل حياة الأسرة كلها، وكساها الحزن والاكتئاب، وفقد الأشياء الجميلة معناها.. فكيف نستعيد حياتنا الهادئة الهنيئة التي نتمتع بها قبل هذه الحادثة؟.

أم سلمى

* عظم الله أجرك،وأحسن عزاءك، وجبر مصابك ومصاب والدها وإخوانها، وجعلكم من الذين إذا أصابتهم مصيبة قالو: "إنا لله وإنا إليه راجعون "، والذين وعدهم الله تعالى بالصلوات والرحمة والهداية، وجعل ابنتك شافعة لوالديها.

عندما يصاب الشخص بفقد عزيز فإنه يمر بمراحل طبيعية تمثل ردة الفعل النفسية لوقع المصيبة عليه، وهذه المراحل هي:

أ- مرحلة تبلد الشعور:

وتتميز بإنكار الحدث "المصيبة" لا شعورياً، وعدم تقبله، واعتباره لم يقع وأن الخبر لم يثبت "رغم ثبوته حقيقة".

ويصاحب هذه المرحلة شيء من الاحتجاج والمعارضة لما حدث. وتتراوح مدة هذه المرحلة ما بين: لحظات يسيرة وعدة ساعات. وقد تستمر عند بعض الأشخاص أكثر من ذلك "بضعة أيام أو أسابيع ".

2- مرحلة الحزن والقلق والأسى:

وفيها تراود الإنسان مجموعة من المشاعر والأحاسيس منها:

* إحساس بالحزن "بكاء وضيق في الصدر.. " مع شفقة على الميت ورثاء لحاله ومصيره، وتذكر وانشغال بعظم ما واجه الميت من ألم الموت وما بعده.

* انشغال الذهن بالموت والرحيل عن الدنيا والتفكر في المصير والمآل بعد الموت. والتساؤل عن فائدة البقاء في هذه الدنيا، مع حقارتها وتفاهتها.. إلخ.

* تأنيب الضمير ومحاسبة للنفس على التقصير عموماً، والتقصير في حق الميت خصوصاً، ولوم الآخرين على أنهم كانوا مهملين في العناية بالميت قبل موته "كالأطباء أو بعض الأقارب... ".

* الإحساس وكأن الميت لا يزال موجوداً في المحيط الذي كان فيه قبل موته "البيت- المدرسة- العمل..." وكأنه سوف يخرج الآن من هذا الباب وسوف يرفع صوته وينادي... سوف يرجع من المدرسة.. أو كأنه موجود في الغرفة المجاورة.. إلخ.

* قلة النوم وضعف الرغبة في الأكل وانعدام الاستمتاع بأي شيء من الأمور الممتعة وكثرة الأعراض الجسدية والميل إلى العزلة. وقد تمتد هذه المرحلة من أيام إلى أشهر "غالباً لا تتعدى ستة أشهر" ثم تتناقص الأعراض بالتدريج إلى أن تزول كلها تقريباً، لتأتي بعدها المرحلة الثالثة.

3- مرحلة التكيف والتأقلم:

وفيها يحدث التعود على الوضع الجديد، وتزول الأعراض السابقة ليعود الشخص إلى سابق عهده من النشاط والصحة البدنية والنفسية ومزاولة مهامه الشخصية والاجتماعية، وربما تعاوده الأعراض مؤقتاً في أوقات المواسم التي تذكره بالشخص المفقود، كالعيد ورمضان والإجازات..).

هذه بإيجاز المراحل المتوقعة لردة الفعل النفسية عقب المصيبة، التي يمر بها معظم الناس عند فقدهم لشخص عزيز (مع تفاوت بينهم) (ويبدو أنك في المرحلة الثانية)، يعد هذا من الأمور الطبيعية التي تتخطى بها النفس الأثر الشديد للصدمة النفسية. هناك من الأشخاص من يستطيع التكيف والتأقلم في وقت قصير جداً، وهناك من تطول معه الحالة إلى أكثر من ستة أشهر، وربما زادت شدتها إلى درجة كبيرة يحتاج معها إلى علاج ومتابعة.

ومن أهم العوامل التي تخفف أثر المصيبة على النفس، وترفع قدرة التحمل،وتيسر عملية التكيف والتأقلم:

1- العزاء: فله دوركبير في ذلك، ويتمثل في:

* تسهيل تقبل المصيبة وتلقيها على أنها حقيقة واقعة، صدقها الآخرون وعاد وشعروا بدورها، وأنها تتطلب منهم المؤازرة والوقوف إلى جانب الشخص المصاب.

* المشاركة الوجدانية الذي يبذلها المعزون للشخص المصاب مما يخفف مشاعر الفقد والحرمان والأسى، ويربأ الصاع الوجداني في نفس المصاب.

* التذكير الإيماني الذي يقوم المعزون بدعائهم متل: عظم الله أجرك... إن لله ما أخذ وما أعطى.. اصبر واحتسب..

2- تقوية الإيمان لدى الشخص المصاب، بما يشمله ذلك من جوانب وجدانية وعقلية وسلوكية: وذلك من خلال المفهومات الشرعية الواردة في الكتاب والسنة مثل:

قوله تعالى: {ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها إن ذلك على الله يسير * لكيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم والله لا يحب كل مختال فخور} وقوله تعالى: {ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات وبشر الصابرين} وقوله صلى الله عليه وسلم: "لا يقضي الله للمؤمن قضاء إلا كان خيراً له، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له "، وغير ذلك من النصوص التي تبين أن الدنيا دار امتحان وابتلاء، وأن الله تعالى قدر الأقدار والآجال فلا تتأخر ولا تتقدم عن وقتها.

أخيراً: مما يخفف عليك هذه المصيبة ويسهل تخطيك لهذه المراحل أن تتفكري في حال من هو أشد منك مصاباً كمثل أولئك الذين لم يكتب الله لهم ذرية، إنهم يتمنون لو كانوا في مثل وضعك حتى لو ماتت ذريتهم كلها، فاحمدي الله تعالى على ما أبقى وما أخذ. وتفكري أيضاً في حال إخواننا المسلمين في بقاع الأرض كالبوسنة وكوسوفا والشيشان وكشمير وفلسطين وغيرها، كيف أن أبناءهم تذبح ونساءهم تستباح وأموالهم تنتهب، قارني حالك مع حالهم ولا تيأسي فالله لطيف بعباده.

يمكنك الاستفادة من كتاب: "تسلية أهل المصائب " تأليف محمد المنجي الحنبلي، فقيه موضوعات مهمة حول المصيبة والابتلاء وكيف يتعامل معهما المسلم. أعانك الله.

Free Web Hosting