46- شاب لديه طموح زائف

أنا شاب أبلغ من العمر ثلاثاً وثلاثين سنة، أحمل مؤهلاً علمياً عالياً، وأعمل في وظيفة مرموقة براتب مغر، متزوج ولدي أربعة أطفال، وأسكن في سكن أملكه، ولله الحمد.

مشكلتي في طموحي الزائد جداً- بل ربما الزائف- لا أدري!؛ وذلك أني لا أكاد أرى، أو أسمع عن شيء تهفو إليه أفئدة الناس، ويتحدثون عنه، ويثنون عليه إلا وأنتقص نفسي وأحتقرها، وأشعر أني لا مكانة لي عند الناس إلا إذا تملكت ذلك الشيء، أو حققت ذلك الأمر، فأسعى لتحصيل ذلك بكل طاقاتي، وربما استنفد مني ذلك جهداً كبيراً، وعناء بالغاً (بدنياً وذهنياً ونفسياً ومادياً) فلا يكاد يهدأ بالي، ولا يرتاح ضميري إلا إذا حققت ذلك الطموح، وأدركت تلك الأمنية، ولكن لا يدوم هذا الارتياح طويلاً، إذ ما إن يلوح في أفق الطموح مشروع جديد إلا وسرعان ما أنهمك في دوامة تحقيقه من جديد، بمزيد من الإجهاد والتعب.

كنت إلى وقت قريب أظهر أني شخص مثالي، متفوق على الأقران والمنافسين، وأحتل المركز الأول في أذهان من يعرفونني، القريبين منهم والبعيدين، ولكن في الآونة الأخيرة بدأت أشك في ذلك كثيراً.

إذا نظرت إلى السنوات العشر الماضية، وقارنت نفسي بزملائي وأقراني أجدني (رغم ما حققته من إنجازات عديدة متفرقة)، أقلهم حظاً، وأفرطهم أمراً ؛ علماً بأني لا أريهم من نفسي سوى أني أفضل منهم، وأعلى وأرفع، فأنا لا أطيق أبداً أن يروني أقل منهم في شيء، ولكن الواقع يقول غير ذلك، فهم حقيقة أفضل مني في كثير من الأمور.

لقد بت أشعر بشيء من الإحباطات المتكررة التي صارت تزداد مع الوقت، والعجيب من أمري أن نفسي لا تزال تتوق إلى كسب تلك المزايا التي يتغنى عنها الناس، ولا تكف عن ملاحقة ذلك، وتحصيله رغم كل ما أعانيه.

إنني في حيرة من أمري.. هل أنا مستقر نفسياً؟ هل حالتي هذه طبيعية؟ وهل مر بها غيري؟ أفيدوني ولكم الشكر.

ع. م- دبي

* أخي لا أريد أن أصدمك بقولي: لا (أنت غير مستقر نفسياً)، كما لا أريد أن أجاملك بقولي: نعم (أنت مستقر نفسياً)، وإنما أوضح لك الإجابة في النقاط التالية:

* أمر حسن أن يمتلك الإنسان طموحاً عالياً، وهمة رفيعة تدفعه إلى تحصيل معالي الأمور.

* هناك بعض الأشخاص- وربما تكون منهم- يكون طموحهم مبالغاً فيه، فهو أقرب إلى الاعتلال النفسي منه إلى الاستقرار، وذلك حين يكون الطموح ستاراً لحجب النقص، والشعور الداخلي بالدونية والقصور، وهذا أمر موجود لدى الكثيرين، ولكن بدرجات متفاوته، وهو سمة من سمات الشخص نشأ وتربى عليها منذ الصغر حتى صارت ديدنه وخلقه، يصعب عليه الانفلات منها حتى وإن أدرك الشخص أنها تشكل خللاً وعيباً.

* أما مصدر هذا الخلل فهو- في الغالب- التربية الخاطئة التي يمارسها كثير من الآباء والأمهات عند حث أولادهم (بنين وبنات)، وحفز هممهم، حيث يقومون بمقارنة مجحفة بين الأولاد وأقرانهم، بطريقة ترسخ فيهم الشعور بالنقص والدونية، وذلك من خلال النظر إلى نجاح الآخرين (الأقران) وتفوقهم واعتباره دليلا على قصور الأولاد وفشلهم، فنجد الأب مثلاً يقول لابنه: "إن ابن عمك فلان حصل على امتياز في مادة كذا، بينما أنت لم تحصل على جيد جداً "، فهذا الأب رغم أنه يقصد حفز همة ابنه، وحثه على المزيد من البذل إلا إنه ولد لدى ابنه شيئاً من الشعور بالنقص، والدونية في مقابل الأقران وهذا يؤدي إلى ارتباط ذهني لا شعوري بين نجاح الآخرين وتفوقهم وبين فشله وقصوره فإذا تكررت مثل هذه المقارنة بهذه الطريقة الخاطئة من أكثر من مصدر،وفي أكثر من موقف ترسخ في ذهن الشخص قاعدة خاطئة وهي:"أن كل نجاح لمن حولي يستحقون الثناء عليه يعني فشلي في بلوغ هذا النجاح،وقصوري في أعين الناس " ثم يمتد أثر هذه القاعدة الذهنية للتأثير في المشاعر والسلوك ، ويختلف هذا التأثير باختلاف الأشخاص:

- فإن كان الشخص ضعيف العزيمة أصيبت مشاعرة بإحباط، وأسى، وحزن، وألم نفسي ، وأصبح سلوكه محاصراً بطوق حديدي شائك، يمنع صاحبه عن التقدم لتحقيق أي إنتاج ينفعه.

- وإن كان الشخص ذا عزيمة قوية، وهمة عالية (كما هو الأمر لديك فيما يبدو)فإن مشاعره تكون حساسة جداً، سريعة التأثر بمثل هذه الأمور، فتجعل النفس سريعة الأنفة،والاعتزاز، والتعالي، وتجعل الذهن كثير المقارنة بين إنتاج النفس وإنتاج الأقران، ومن ناحية السلوك فإن الشخص ربما انخرط في سباقات، ومنافسات متعددة مع كل من يعده من الأقران والمنافسين، والهدف الوحيد لمثل هذه المنافسات هو إزالة تلك الصفة التي حوتها القاعدة المذكورة آنفاً: "نجاح غيري يعني فشلي ".

فإذا حقق الشخص تفوقاً في جانب ما على شخص آخر أدى هذا إلى ارتياح نفسي وطمأنينة، لأنه يعمل على ستر عورة النقص الداخلي في النفس، ولكن لا تلبث العورة هذه أن تنكشف مرة أخرى بمجرد سماع ثناء جديد على شخص جديد، حيث يفهم الذهن (بحسب القاعدة السابقة) أن هذا يعني فشلاً، وقصوراً في النفس، فيؤلم المشاعر التي لا تلبث أن تستنهض الهمة، وتحفز السلوك من جديد إلى الانخراط في مشروع منافسة جديدة، لا لهدف سوى ستر عورة النقص من جديد التي يؤلم انكشافها المشاعر إيلاماً شديداً.

- ربما توسع مثل هذا الشخص في إطراد هذه القاعدة الخاطئة، وبنى عليها قواعد أخرى خاطئة، تجر إلى سلوكيات خاطئة أيضاً. مثلاً: "فشل غيري في أمر ما يعني قصوره وكونه أقل مني " فيذهب يلتمس فشل الآخرين وتقصيرهم، ويتوقعه، ويحلم به، وربما قاده إلى أمور لا يرضاها الله تعالى من أعمال قلبية (كالغل والحسد والحقد...) أو أعمال بالجوارح (كالغيبة والافتراء والخداع والغش...)

- لقد رسخ هؤلاء الأباء في أولادهم أمرين خطيرين هما:

* الشعور بالنقص والدونية.

* تقويم النفس من خلال نظرة الناس ووزنها بميزان الذوق الاجتماعي السائد، مما يرغبه الناس في المجتمع، سواء في الأمور الاجتماعية أو الثقافية أو العلمية.. إلخ. ومن ثم البعد عن المقاييس الصحيحة والموازين الصائبة للأمور.

فهذا هو تفسير ما تعانيه (فيما يبدو لي) مما يتضح من خلال رسالتك، ومن خلال إخوة آخرين يعانون ما تعانيه.

أما العلاج:

فأولى خطوات التغيير حسن التفسير فإن كان هذا التفسير ينطبق على حالتك فالعلاج يكمن في:

- فهم المشكلة وإدراكها لجميع جوانبها، ومعرفة جذورها (منذ الصغر)، فإن الفهم السليم سيساعدك كثيراً- بإذن الله- على التغيير.

- لا يكفي الفهم والإدراك الذهني الصحيح لتعديل مسلمات ذهنية خاطئة، راسخة منذ الصغر في برامج التفكير الداخلية، ومتصلة اتصالاً وثيقاً بمراكز المشاعر والسلوك، بل لابد من فترة زمنة كافية تبذل فيها جهداً مناسباً لتصحيح تلك المسلمات وما يتفرع عنها.

- ذهنك وتفكيرك بحاجة إلى إعادة برمجة وفق الأسس التربوية الشرعية السليمة التي جاءت بها نصوص الكتاب والسنة، وتربى عليها سلف الأمة، ومن تبعهم من أهل الفضل والهدى، وفيها تكون أسس بنيانك النفسي على تقوى من الله ورضوان، وذلك خير من رضى المخلوقين الذين لا تثبت لعقولهم رؤية، ولا تبقى لمهجهم رغبة، بل يتقلبون مع الأهواء، ومرادات النفوس بين عشية وضحاها. فبذلك تتعدل وجهة قلبك من حب ثناء الناس وإطرائهم، والرغبة فيما عندهم إلى حب الله تعالى، والرغبة فيما عنده، وما عند الله خير وأبقى للذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون، وعندها تنبت في نفسك نبتة خير أصلها ثابت وفرعها في السماء، تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها.

والنصوص في الكتاب والسنة- في هذا المجال- كثيرة:

- فراجع تفسير الآيات التالية وتأملها جيداً:

{ونفس وما سواها * فألهمها فجورها وتقواها * قد أفلح من زكاها * وقد خاب من دساها }سورة الشمس.

{سابقوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السماء والأرض أعدت للذين آمنوا بالله ورسله ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم} [ الحديد:21]. وتأمل الآية التي قبلها: {اعلموا أنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في الأموال والأولاد كمثل غيث أعجب الكفار نباته ثم يهيج فتراه مصفراً ثم يكون حطاماً وفي الآخرة عذاب شديد ومغفرة من الله ورضوان وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور}.

{وفي ذلك فليتنافس المتنافسون} [ المطففين:26].

- وراجع شرح الأحاديث: (مثلاً في جامع العلوم والحكم لابن رجب)

* "إنما الأعمال بالنيات... ".

* حديث ابن عباس وقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "يا غلام إني أعلمك كلمات.. وفيه: واعلم أن الأمة لو اجتمعت... "

ونحو ذلك من النصوص الكفيلة- عند العمل بها- أن تصحح مسارك فيصبح طموحاً صادقاً، ذا هدف محدد عال رفيع، تسعى به إلى المنافسة الحقيقية (لنيل درجات الآخرة)، كما تعطيك الضوابط الصحيحة للمنافسة في الدنيا، فتجعل منافستك شريفة تمنحك راحة البال، وطمأنينة القلب، فلا يضيع عملك هباء، ولا جهدك سدى، حتى وإن فاقك الأقران وسبقوك، فالدنيا ربما ضاقت على المتنافسين، لكن الآخرة لا تضيق وفضل الله واسع.

قد تصاب يوماً ما بقلق، أو اكتئاب نفسي، فهذا متوقع لمن يعاني مما تعانيه إذا لم تتعدل الأمور، فلا تقنط واصبر، واحتسب، وابذل الأسباب المشروعة ، وتوكل على الله تعالى.

أخي عذراً على الإطالة، ولكن شجعني على الاستطراد دقة تصويرك للمشكلة، وقوة عباراتك التي تدل على أن لديك طاقات كبيرة ينبغي أن تستفيد منها، وتفيد الآخرين على الوجه الأمثل.

وللمزيد يمكنك الاستفادة من الكتب التالية:

- مدارج السالكين لابن القيم- بتهذيب عبد المنعم العزي.

- إغاثة اللهفان لابن القيم.

- التحفة العراقية في الأعمال القلبية لابن تيمية.

- الأخلاق الإسلامية- عبد الرحمن حسن حبنكة.

- الوسائل المفيدة للحياة السعيدة- لابن سعدي.

وفقك الله ونفع بك.

Free Web Hosting