48- شاب متحمس للدين يمر بكأبة

أنا شاب أبلغ من العمر أربعاً وثلاثين سنة، متزوج ولدي خمسة أطفال أسكن في سكن مستقل، وحياتي المادية ميسورة- والحمد لله أعمل مدرساً للعلوم الشرعية في المرحلة المتوسطة، منذ تخرجي في الجامعة قبل سنوات عدة

وضعي في بيتي وفي عملي مستقر- بحمد لله- ويكاد يخلو من الضغوط الاجتماعية، والنفسية، والمادية.

ما دفعني للكتابة إليكم هو ما بدأت ألحظه على نفسي من تغير خلال السنتين الآخيرتين.

لقد كنت أجد في نفسي حماسا ورغبة في متابعة أحوال المسلمين في العالم من خلال الإعلام، وكان يسعدني جداً سماع أخبار انتشار الإسلام وعودة الأمة أليه، ودخول فئات من غير المسلمين في دين الله أفواجا. كنت أبتهج عندما أرى المكتبات تزخر بالمؤلفات الجديدة ذات الأفكار النيرة القائمة على هدي الإسلام، وأرى الناس تقبل على هذا الخير العظيم تنهل منه، فأتفاءل لمستقبل المسلمين.

كانت لدي همة، وعزيمة قوية في التعليم والتربية، وكثيرا ما كنت الموضوعات الدراسية التي أدرسها بإضافات علمية، وتربوية ترفع من وعي الطلاب وهمتهم. وكنت أجد في ذلك متعة رغم ما كان يستهلكه مني من جهد وعناء.

تغيرت حالتي تلك، وضعف تفاؤلي لمستقبل الإسلام ووضع المسلمين، وقل حماسي لمتابعة أحوال المسلمين، وبت لا أفكر إلا في الأخبار المحبطة، والأمور المثبطة التي تصيب المسلمين في العالم.

لقد خبت جذوة الحماس في نفسي، وأصابني شيء من الإحباط، وشعور باليأس، والعجز، وقلة الحيلة، حتى إن صحتي تأثرت لذلك، فإذا سمعت خبرا سيئاً ظللت طول الليل لا أنام من شدة إزعاج الخبر لي وما يحمله في طياته من ألم، وحسرة، وعناء. لم أعد أرغب في الخلطة والاجتماع بالزملاء والأصدقاء، حتى التدريس بت لا أطيقه.

فما هو الخلل وكيف الحل يا ترى؟

أبو أحمد- المدينة المنورة

جزاك الله خيرا على هذا الحماس، وهذه المشاعر الجياشة تجاه دينك وأمتك، وإخوانك، فذلك دليل على أنك تملك قلبا حيا ينبض بالإيمان والصدق (ولا نزكي على الله أحدا ). الأمر الواضح في حالتك هو تغير المشاعر من حالة السرور، والسعادة، والابتهاج بأخبار المسلمين السارة، إلى حالة الإحباط، والتثبيط، والشعور بالعجز، وقلة الحيلة التي تثيرها فيك الأخبار المؤلمة عن أمور المسلمين (سيما في السنوات الأخيرة) مما أثر على صحتك الجسدية، والنفسية، وعلاقتك بزملائك وأصدقائك، وأنقص إنتاجك.

المشاعر لدى كثير من الناس سريعة التأثر (سلباً أو إيجاباً) لأدنى مثير، وهؤلاء غالباً ما يوصفون بأنهم أشخاص شديدو الحساسية النفسية.

أخي: لكي تدرك ما يحدث في مشاعرك من تغيرات تحتاج إلى أن تعرف أثر التفكير (والتصور المسبق للأمور) على المشاعر.

إن الشخص الذي يفكر بطريقة إيجابية، ويتصور الأمور على حقائقها بواقعية يكون أكثر ميلا إلى التفاؤل، والاستبشار، والبذل، والإنتاج (حتى وإن كانت الأحداث تحمل جوانب مؤلمة للنفس)، والعكس صحيح.

يبدو أن تأنيب الضمير لديك عالي جداً، وأنك من الصنف الذي يعود على نفسه باللوم الشديد والمحاسبة لأدنى تقصير، ولا يطمئن نفسيا إلا بتحقيق الصورة المثالية التي يرسمها في ذهـنه عن الأشخاص، والأحداث، والتي غالبا ما تكون صعبة التحقيق لتعارضها مع معطيات الواقع.

أخي الكريم تأمل معي ما تحمله هذه الآيات من مفهومها عملية واقعية، وقارنها بما استقر في ذهنك، وأنت تتعامل مع واقعك:

(( ليس عليك هداهم ولكن الله يهدي من يشاء )).

(( إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء ))

(( إن تحرص على هداهم فإن الله لا يهدي من يضل ))

(( قل فلله الحجة البالغة فلو شاء لهداكم أجمعين ))

(( فهل على الرسل إلا البلاغ المبين ))

(( فإن أعرضوا فما أرسلناك عليهم حفيظا إن عليك إلا البلاغ )).

فهذه الآيات- ومثلها كثير- توضح مهمة الرسل وأتباعهم في بيان الحق للناس، وحثهم عليه، وترغيبهم فيه، وتطمئن القلوب كي لا تحزن ولا تأسى على تلك الفئة التي لا تقبل الخير ولا تهتدي.

هل كنت تتوقع أو ترجو أن يكون الناس كلهم مؤمنين، وأن يسيروا جميعا في طريق الهدى؟!

ألم تتأمل قول الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم : (فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفا )). (( لعلك باخع نفسك إلا يكونوا مؤمنين )).

(( فلا تذهب نفسك عليهم حسرات ))

(( واصبر وما صبرك إلا بالله ولا تحزن عليهم ولا تك في ضيق مما يمكرون * إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون ))

هل يخفى عليك أن الله تعالى قادر على نصرة دينه وأوليائه في كل مكان، وزمان، وأمام كل عدو؟ ألم تقرأ قوله تعالى: (( ذلك ولو شاء الله لا نتصر منهم ولكن ليبلو بعضكم ببعض ))

تأمل وتفكر جيدا في هذا الابتلاء، واربطه بما في آخر السورة. (( ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين )).

لو استعرضت سير الأنبياء في القرآن لوجدت أنهم اجتهدوا أعظم اجتهاد في بيان الحق للناس ودعوتهم إليه، وسلكوا في ذلك كل السبل التي يستطيعونها، ولما لم يؤمن أكثر أقوامهم صبروا، ولم يحبطوا، ولم يقعدوا، ولم يصبهم الملل والفتور؛ لعلمهم أن إرادة الله الكونية اقتضت أن هناك فئة لن يدخل الإيمان في قلوبهم مهما بذل لهم من البيان والبلاغ (وإن كانت إرادته الشرعية تقتضي طلب الإيمان من كل أحد، ولا عذر لأحد بترك الإيمان). فأنت يا أخي حينما تعمل لخدمة دينك، ورضا ربك تكسب في ذلك أجرا يعود عليك بالنفع في الآخرة (إذا أصلحت النية) حتى ولو لم يثمر عملك وجهدك تلك الثمرات التي ترجوها، فإنما عليك العمل والبذل، وليس عليك تحقيق النتيجة التي تكون غالبا خارج نطاق قدرتك، فإذا جعلت مقياس عملك هو حصول النتائج وظهور الثمرة التي تطلبها ربما حكمت على عملك بالفشل، وعدت على نفسك باللوم الشديد، وأصابك حزن وأسى يقعدانك عن البذل والعطاء، وهذا ما يريده منك عدوك الأكبر (الشيطان).

إن التأثر بواقع المسلمين والاهتمام بشأنهم أمر مطلوب ومرغوب شرعا، لما دل عليه من نصوص شرعية، ولكن ينبغي أن لا يجعل المسلم ذلك عامل إحباط، وتثبيط، وشلل لقدراته، وتعطيل لطاقاته.

إنك بحاجة إلى المزيد من الواقعية في تصوراتك، وآمالك، وطموحاتك لمستقبل الأمة وأن تضع في حساباتك وعدالله بنصر دينه، وأوليائه، والتمكين لهم في الأرض، بحيث يحفزك ذلك إلى البذل والإنتاج، ولا يحبطك تفوق الأعداء، وتقدمهم في بعض الميادين.

باختصار فإن مكمن الخلل لديك- فيما يبدو- هو في التصور والتفكير، ومن ثم تأثرت المشاعر والسلوك بذلك، فإذا صححت الخلل حري بك أن تعود إليك جذوة الحماس والنشاط للبذل والعطاء، ويزول عنك شعور اليأس، والعجز، وقلة الحيلة، والإحباط وما يتبع ذلك من الأعراض التي ذكرتها في سؤالك..

سدد الله خطاك.

Free Web Hosting