سورة الْغَاشِيَة

أهوال القيامة وأحوال الكفار في النار

حال السعداء أهل الجنة

التفكر في الخلق

بَين يَدَيْ السُّورَة

* سورة الْغَاشِيَة مكية، وقد تناولت موضوعين أساسيين وهما :

1- القيامة وأحوالها وأهوالها، وما يلقاه الكافر من العناء والبلاء، وما يلقاه المؤمن فيها من السعادة والهناء.

2- الأدلة والبراهين على وحدانية رب العالمين، وقدرته الباهرة، في خلق الإِبل العجيبة، والسماء البديعة، والجبال المرتفعة، والأرض الممتدة الواسعة، وكلها شواهد على وحدانية الله وجلال سلطانه. وختمت السورة الكريمة بالتذكير برجوع الناس جميعاً إلى الله سبحانه للحساب والجزاء.

أهوال القيامة وأحوال الكفار في النار

{ هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ(1)وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ(2)عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ(3)تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً(4)تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ(5)لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلا مِنْ ضَرِيعٍ(6)لا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ(7)}.

{ هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ } الاستفهام للتشويق إلى استماع الخبر، وللتنبيه والتفخيم لشأنها أي هل جاءك يا محمد خبرُ الداهية العظيمة التي تغشى الناس وتعمُّهم بشدائدها وأهوالها، وهي القيامة ؟ قال المفسرون : سميت غاشية لأنها تغشى الخلائق بأهوالها وشدائدها، وتعمُّهم بما فيها من المكاره والكوارث العظيمة { وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ } أي وجوهٌ في ذلك اليوم ذليلة خاضعةٌ مهينة { عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ } أي دائبة العمل فيما يُتعبها ويشقيها في النار قال المفسرون : هذه الآية في الكفار، يتعبون ويشقون بسبب جر السلاسل والأغلال، وخوضهم في النار خوض الإِبل في الوحل، والصعود والهبوط في تلالها ودركاتها كما قال تعالى { إِذْ الأَغْلالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ* فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ } وهذا جزاء تكبرهم في الدنيا عن عبادة الله، وانهماكهم في اللذات والشهوات { تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً } أي تدخل ناراً مسعَّرة شديدة الحر قال ابن عباس : قد حميت فهي تتلظى على أعداء الله { تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ } أي تسقى من عين متناهية الحرارة، وصل حرها وغليانها درجة النهاية { لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلا مِنْ ضَرِيعٍ } أي ليس لأهل النار طعام إلا الضريع وهو نبتٌ ذو شوك تسميه قريش "الشبرق" وهو أخبث طعامِ وأبشعه وهو سم قاتل قال قتادة : هو شر الطعام وأبشعه وأخبثه .. ذكر تعالى هنا أن طعامهم الضريع { لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلا مِنْ ضَرِيعٍ } وقال في الحاقَّة { وَلا طَعَامٌ إِلا مِنْ غِسْلِينٍ } ولا تنافي بينهما، لأن العقاب ألوان، والمعذبون أنواع، فمنهم من يكون طعامه الزقوم، ومنهم من يكون طعامه الضريع، ومنهم من يكون طعامه الغسلين، وهكذا يتنوع العذاب { لا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ } أي لا يفيد القوة والسمن في البدن، ولا يدفع الجوع عن آكله قال أبو السعود : أي ليس من شأنه الإِسمانُ والإِشباع، كما هو شأن طعام الدنيا، وقد روي أنه يُسلَّط عليهم الجوع بحيث يضطرهم إلى أكل الضريع، فإذا أكلوه يُسلط عليهم العطش فيضطرهم إلى شرب الحميم، فيشوي وجوههم ويقطع أمعاءهم { وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءهُمْ }.

حال السعداء أهل الجنة

{ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاعِمَةٌ(8)لِسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ(9)فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ(10)لا تَسْمَعُ فِيهَا لاغِيةً(11)فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ(12)فِيهَا سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ(13)وَأَكْوَابٌ مَوْضُوعَةٌ(14)وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ(15)وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ(16) }.

ولما ذكر حال الأشقياء أهل النار، أتبعه بذكر حال السعداء أهل الجنة فقال { وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاعِمَةٌ } أي وجوه المؤمنين يوم القيامة ناعمة ذات بهجةٍ وحسن، وإشراق ونضارة كقوله تعالى { تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ } { لِسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ } أي لعملها الذي عملته في الدنيا وطاعتها لله راضية مطمئنة، لأن هذا العمل أورثها الفردوس دار المتقين { فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ } أي في حدائق وبساتين مرتفعة مكاناً وقدراً، وهم في الغرفات آمنون { لا تَسْمَعُ فِيهَا لاغِيَةً } أي لا تسمع في الجنة شتماً، أو سباً، أو فحشاً قال ابن عباس : لا تسمع أذى ولا باطلاً { فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ } أي فيها عيونٌ تجري بالماء السلسبيل لا تنقطع أبداً قال الزمخشري : التنوين في {عينٌ} للتكثير أي عيونٌ كثيرة تجري مياهها { فِيهَا سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ } أي في الجنة أسرة مرتفعة، مكلله بالزبرجد والياقوت، عليها الحور العين، فإِذا أراد وليُّ الله أن يجلس على تلك السرر العالية تواضعت له { وَأَكْوَابٌ مَوْضُوعَةٌ } أي واقداح موضوعة على حافات العيون، معدة لشرابهم لا تحتاج إلى من يملأَها { وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ } أي ووسائد - مخدَّات - قد صُفَّ بعضها إلى جانب بعض ليستندوا عليها { وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ } أي وفيها طنافس فاخرة لها حمل رقيق مبسوطة في أنحاء الجنة.

التفكر في الخلق

{ أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ(17)وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ(18)وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ(19)وَإِلَى الأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ(20)فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ(21)لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ(22)إِلا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ(23)فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الأَكْبَرَ(24)إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ(25)ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ(26)}

سبب النزول :

نزول الآية (17) :

{ أَفَلا يَنْظُرُونَ ..}: أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وعبد بن حميد عن قتادة قال: لما نعت الله ما في الجنة، عجب من ذلك أهل الضلالة، فأنزل الله: { أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ }.

ثم ذكر تعالى الدلائل والبراهين الدالة على قدرته ووحدانيته فقال { أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ } أي أفلا ينظر هؤلاء الناس نظر تفكر واعتبار، إلى الإِبل - الجمال - كيف خلقها الله خلقاً عجيباً بديعاً يدل على قدرة خالقها ؟! قال ابن جزي : في الآية حضٌ على النظر في خلقتها، لما فيها من العجائب في قوتها، وانقيادها مع ذلك لكل ضعيف، وصبرها على العطش، وكثرة المنافع التي فيها، من الركوب والحمل عليها، وأكل لحومها، وشرب ألبانها وغير ذلك { وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ } أي وإلى السماء البديعة المحكمة، كيف رفع الله بناءها، وأعلى سمكها بلا عمد ولا دعائم ؟ { وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ } أي إلى الجبال الشاهقة كيف نصبت على الأرض نصباً ثابتاً راسخاً لا يتزلزل ؟ ! { وَإِلَى الأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ } أي وإلى الأرض التي يعيشون عليها، كيف بسطت ومُهدت حتى صارت شاسعة واسعة يستقرون عليها، ويزرعون فيها أنواع المزروعات؟! قال الألوسي : ولا ينافي هذا، القول بأنها كرة أو قريبة من الكرة لمكان عظمها. والحكمةُ في تخصيص هذه الأشياء بالذكر، أن القرآن نزل على العرب وكانوا يسافرون كثيراً في الأودية والبراري منفردين عن الناس، والإِنسان إذا ابتعد عن المدينة أقبل على التفكر، فأول ما يقع بصره على البعير الذي يركبه فيرى منظراً عجيباً، وإن نظر فوقه لم ير غير السماء، وإن نظر يميناً وشمالاً لم ير غير الجبال، وإن نظر إلى أسفل من بعيره الذي هو راكبٌ عليه لم يرَ غير الأرض وهذه كلها مخلوقات تدلّ على قدرة خالق ذلك وصانعه، وأنه الرب العظيم، الخالق المالك المتصرف، الذي لا يستحق العبادة سواه .. ولما ذكر تعالى دلائل التوحيد ولم يعتبر بذلك الكفار، أمر نبيه صلى الله عليه وسلم بوعظهم وتذكيرهم فقال { فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ } أي فعظهم يا محمد وخوّفهم، ولا يهمنَّك أنهم لا ينظرون ولا يتفكرون، فإنما أنت واعظ ومرشد { لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ } أي لست بمتسلط عليهم ولا قاهر لهم حتى تجبرهم على الإِيمان { إِلا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ } أي لكن من أعرض عن الوعظ والتذكير، وكفر بالله العلي القدير { فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الأَكْبَرَ } أي فيعذبه الله بنار جهنم الدائم عذابها قال القرطبي : وإنما قال { الأَكْبَرَ } لأنهم عُذبوا في الدنيا بالجوع والقحط والقتل والأسر { إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ } أي إلينا رجوعهم بعد الموت { ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ } أي ثم إن علينا وحدنا حسابهم وجزاءهم.

Free Web Hosting