سورة الجِنّ

إيمان الجن بالقرآن ، ومنزل القرآن

أحوال الجن بعد بعثة النبي صلى الله عليه وسلم

المساجد لله ، والنافع والضار هو الله

قيام الساعة من خصوصيات الله عالم الغيب

بَين يَدَيْ السُّورَة

* سورة الجن مكية وهي تعالج أصول العقيدة الإِسلامية "الوحدانية، الرسالة، البعث والجزاء" ومحور السورة يدور حول الجنِّ، وما يتعلق بهم من أمور خاصة، بدءاً من استماعهم للقرآن، إلى دخولهم في الإِيمان، وقد تناولت السورة بعض الأنباء العجيبة الخاصة بهم، كاستراقهم للسمع، ورميهم بالشهب المحرقة، واطلاعهم على بعض الأسرار الغيبية، إلى غير ذلك من الأخبار المثيرة.

* ابتدأت السورة الكريمة بالإِخبار عن استماع فريق من الجن للقرآن، وتأثرهم بما فيه من روعة البيان، حتى آمنوا به فور استماعه ودعوا قومهم إلى الإِيمان { قل أُوحي إِليَّ أنه استمع نفر من الجن فقالوا إنا سمعنا قرآناً عجباً ..} الآيات.

* ثم انتقلت للحديث عن تمجيدهم وتنزيههم لله جل وعلا، وإِفرادهم له بالعبادة، وتسفيههم لمن جعل لله ولداً { وأنه تعالى جدُّ ربنا ما اتخذ صاحبةً ولا ولداً * وأنه كان يقول سفيهنا على الله شططاً ..} الآيات.

* ثم تحدثت السورة عن استراق الجن للسمع، وإِحاطة السماء بالحرس من الملائكة، وإِرسال الشهب على الجن بعد بعثة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتعجبهم من هذا الحدث الغريب { وأنّا لمسنا السماء فوجدناها ملئت حرساً شديداً وشُهُباً * وأنا كنا نقعد منها مقاعد للسمع فمن يستمع الآن يجدْ له شهاباً رصداً ..} الآيات.

* ثم تحدثت السورة عن انقسام الجن إلى فريقين : مؤمنين، وكافرين ومآل كل من الفريقين { وأنَّا منا المسلمون ومنا القاسطون فمن أسلم فأولئك تحرَّوا رشداً * وأمَّا القاسِطُون فكانوا لجهنم حطباً }.

* ثم انتقلت للحديث عن دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعن التفاف الجن حوله حين سمعوه يتلو القرآن { وأنه لما قام عبد الله يدعوه كادوا يكونون عليه لِبَداً * قل إِنما أدعو ربي ولا أشرك به أحداً }.

* ثم أمرت الرسول عليه السلام أن يعلن استسلامه وخضوعه لله، ويفرده جلَّ وعلا بإِخلاص العمل، وأن يتبرأ من الحوْل والطَّوْل { قل إِنما أدعو ربي ولا أشرك به أحداً * قل إني لا أملك لكم ضراً ولا رشداً * قل إني لن يجيرني من الله أحدٌ، ولن أجد من دونه ملتحداً }.

* وختمت السورة ببيان اختصاص الله جل وعلا بمعرفة الغيب، وإِحاطته بعلم جميع ما في الكائنات { عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحداً * إلا من ارتضى من رسول فإِنه يسلك من بين يديه ومن خلفه رصداً ..} الآيات إلى آخر السورة الكريمة.

إيمان الجن بالقرآن ، ومنزل القرآن

{ قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنْ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا(1)يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا(2)وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلا وَلَدًا(3)وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا عَلَى اللَّهِ شَطَطًا(4)وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا(5)وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنْ الإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنْ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا(6)وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَمَا ظَنَنتُمْ أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَدًا(7)}

سبب النزول:

نزول الآية (1):

{ قل: أوحي ...}: أخرج البخاري ومسلم والترمذي وغيرهم عن ابن عباس قال: ما قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم على الجن ولا رآهم، ولكنه انطلق في طائفة من أصحابه عامدين إلى سوق عُكَاظ، وقد حيل بين الشياطين وبين خبر السماء، وأرسلت عليهم الشهب، فرجعوا إلى قومهم، فقالوا: ما هذا إلا لشيء قد حدث، فاضربوا مشارق الأرض ومغاربها، فانظروا هذا الذي حدث، فانطلقوا فانصرف النفر الذين توجهوا نحو تِهَامة، إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو بنخلة، وهو يصلي بأصحابه صلاة الفجر، فلما سمعوا القرآن استمعوا له، فقالوا: هذا والله الذي حال بينكم وبين خبر السماء.

فهنالك رجعوا إلى قومهم، فقالوا: يا قومنا، إنا سمعنا قرآناً عجباً، فأنزل الله على نبيّه: {قل: أوحي إلي} وإنما أوحي إليه قول الجن.

نزول الآية (6):

{ وأنه كان رجال ..}: أخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ ابن حين في العظمة عن كردم بن أبي السائب الأنصاري قال: خرجت مع أبي إلى المدينة في حاجة، وذلك أول مرة ما ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فآوانا المبيت إلى راعي غنم، فلما انتصف الليل، جاء ذئب، فأخذ حَمَلاً من الغنم، فوثب الراعي، فقال: عامر الوادي، جارك، فنادى مناد، لا نراه يا سِرْحان، فأتى الْحَمَل يشتد حتى دخل في الغنم، وأنزل الله على رسوله بمكة: { وأنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجنّ } الآية.

وأخرج ابن سعد عن أبي رجاء العطاردي من بني تميم قال: بُعث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد رعيت على أهلي، وكفيت مهنتهم، فلما بعث النبي صلى الله عليه وسلم خرجنا هرباً، فأتينا على فلاة من الأرض، وكنا إذا أمسينا بمثلها قال شيخنا: إنا نعوذ بعزيز هذا الوادي من الجن الليلة، فقلنا ذاك، فقيل لنا: إنما سبيل هذا الرجل شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، من أقرَّ بها، أَمِن على دمه وماله، فرجعنا فدخلنا في الإسلام، قال أبو رجاء: إني لأرى هذه الآية نزلت فيّ وفي أصحابي: { وأنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن، فزادوهم رهقاً }.

{ قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنْ الْجِنِّ } أي قل يا محمد لقومك: إن ربي أوحى إلي أن جماعة من الجن استمعوا لتلاوتي للقرآن، فآمنوا به وصدقوه وأسلموا { فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا } أي فقالوا لقومهم حين رجعوا إِليهم: إنا سمعنا قرآناً عجيباً، مؤثراً في حسن نظمه، وبلاغة أسلوبه، وما حواه من بديع الحِكَم والعظات و{ عَجَبًا ً} مصدر وصف به للمبالغة، قال المفسرون : استمعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ القرآن في صلاة الفجر، ولم يشعر بهم ولا باستماعهم، وإنما أخبر به الرسول بواسطة الوحي بدليل قوله { قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ } ويؤيده ما قصه الله على نبيه في سورة الأحقاف من خبرهم { وإِذْ صرفنا إليك نفراً من الجن يستمعون القرآن فلما حضروه قالوا أنصتوا فلما قضي ولوا إلى قومهم منذرين } والغرض من الإِخبار عن استماع الجن، توبيخ وتقريع قريش والعرب في كونهم تباطؤوا عن الإِيمان، إذ كانت الجن خيراً منهم وأسرع إلى الإِيمان، فإنهم حين ما سمعوا القرآن استعظموه وآمنوا به ورجعوا إلى قومهم منذرين، بخلاف العرب الذين نزل بلسانهم، فإنهم كذبوا واستهزؤوا وهم يعلمون أنه كلام معجز، وأن محمداً أمي لا يقرأ ولا يكتب، وشتان ما بين موقف الإِنس والجن!! { يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ } أي يهدي هذا القرآن إلى الحق والرشاد والصواب فصدقنا به { وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا } أي ولن نعود إلى ما كنا عليه من الشرك، ولن نجعل لله شريكاً بعد اليوم من خلقه، قال الخازن : وفي الآية دليل على أن أولئك النفر كانوا مشركين { وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا } أي تعالت عظمة ربنا وجلاله { مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلا وَلَدًا } أي ليس له زوجة ولا ولد، لأن الزوجة تتخذ للحاجة، والولد للاستئناس، والله تعالى منزه عن النقائص { وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا عَلَى اللَّهِ شَطَطًا } أي وأن الأحمق الجاهل فينا كان ينسب إلى الله ما لا يليق بجلاله وقدسيته ويقول قولاً شططاً بعيداً عن الحق وحدِّ الاعتدال، قال مجاهد : السفيه هو إبليس دعاهم إلى عبادة غير الله { وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا } أي كنا نظن أن أحداً لن يكذب على الله تعالى لا من الإِنس ولا من الجن في نسبة الصاحبة والولد إليه، فلما سمعنا هذا القرآن وآمنا به علمنا أنهم كانوا يكذبون على الله في ذلك، قال الطبري : وإنما أنكر هؤلاء النفر من الجن أن تكون قد علمت أن أحداً يجترئ على الكذب على الله لما سمعت القرآن، لأنهم قبل أن يسمعوه وقبل أن يعلموا تكذيب الله للزاعمين لله الصاحبة والولد كانوا يحسبون أن إبليس صادق، فلما سمعوا القرآن أيقنوا أنه كان كاذباً في ذلك فسموه سفيهاً { وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنْ الإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنْ الْجِنِّ } أي كان خلائق من الإِنس يستجيرون برجال من الجن { فَزَادُوهُمْ رَهَقًا } أي فزاد الإِنس الجن باستعاذتهم بهم إِثماً وطغياناً، وعتواً وضلالاً، قال أبو السعود : كان الرجل إِذا أمسى في واد قفر وخاف على نفسه قال: أعوذ بسيد هذا الوادي من سفهاء قومه - يريد الجن وكبيرهم - فإذا سمعوا بذلك استكبروا وقالوا: سدنا الإِنس والجن، فزاد الرجال الجن تكبراً وعتواً، فذلك قوله { فزادوهم رهقاً } { وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَمَا ظَنَنتُمْ أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَدًا } أي وأن كفار الإِنس ظنوا كما ظننتم يا معشر الجن، أن الله لن يبعث أحداً بعد الموت، فقد أنكروا البعث كما أنكرتموه أنتم.

أحوال الجن بعد بعثة النبي صلى الله عليه وسلم

{ وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا(8)وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعْ الآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا(9)وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا(10)وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا(11)وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعجِزَ اللَّهَ فِي الأَرْضِ وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَبًا(12)وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدَى آمَنَّا بِهِ فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلا يَخَافُ بَخْسًا وَلا رَهَقًا(13)وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُوْلَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا(14)وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا(15)وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لأسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا(16)لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَابًا صَعَدًا(17)}

سبب النزول:

نزول الآية (16):

{ وأن لو استقاموا }: أخرج الخرائطي عن مقاتل في قوله: { وأن لو استقاموا على الطريقة لأسقيناهم ماءً غدقاً } قال: نزلت في كفار قريش حين مُنعوا المطر سبع سنين.

{ وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا } يقول الجن: وأنا طلبنا بلوغ السماء لاستماع كلام أهلها، فوجدناها قد ملئت بالملائكة الكثيرين الذين يحرسونها، وبالشهب المحرقة التي تقذف من يحاول الاقتراب منها { وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ } أي كنا قبل بعثة محمد نطرق السماء لنستمع إلى أخبارها ونلقيها إلى الكهان { فَمَنْ يَسْتَمِعْ الآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا } أي فمن يحاول الآن استراق السمع، يجد شهاباً ينتظره بالمرصاد يحرقه ويهلكه { وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الأَرْضِ } أي لا نعلم نحن معشر الجن ما الله فاعل بسكان الأرض، ولا نعلم هل امتلاء السماء بالحرس والشهب لعذاب يريد الله أن ينزله بأهل الأرض؟ { أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا } أي أم لخير يريده الله بهم، بأن يبعث فيهم رسولاً مرشداً يرشدهم إلى الحق؟ وهذا من أدب الجن حيث نسبوا الخير إلى الله، ولم ينسبوا الشر إليه فقالوا: أشر أريد بمن في الأرض ؟ أم أراد بهم ربهم رشداً ؟ قال ابن كثير : وقد كانت الكواكب يرمى بها قبل ذلك، وهذا هو الذي حملهم على تطلب السبب، فأخذوا يضربون مشارق الأرض ومغاربها، فرأوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ بأصحابه في الصلاة، فعرفوا أن هذا الذي حفظت من أجله السماء، فدنوا منه حرصاً على سماع القرآن ثم أسلموا { وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ } أي منا قوم صالحون أبرار، عاملون بما يرضي الله، ومنا قوم ليسوا صلحاء، قال ابن جزي : وأرادوا بقولهم { دُونَ ذَلكَ } أي الذين ليس صلاحهم كاملاً، أو الذين ليس لهم صالح { كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا } أي كنا فرقاً شتى، ومذاهب مختلفة، فمنا الصالح ومنا الطالح، وفينا التقي والشقي { وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعجِزَ اللَّهَ فِي الأَرْضِ وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَبًا } أي علمنا وأيقنا أن الله قادر علينا، وأننا في قبضته وسلطانه أينما كنا، لن نعجزه بهرب، ولن نتفلت من عقابه إذا أراد بنا سوءاً، قال القرطبي : أي علمنا بالاستدلال والتفكر في ءايات الله، أنا في قبضته وسلطانه لن نفوته بهرب ولا غيره .. ثم عادوا إلى شكر الله تعالى على نعمة الإِيمان واهتدائهم بسماع ءايات القرآن فقالوا { وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدَى آمَنَّا بِهِ } أي لما سمعنا القرآن العظيم آمنا به وبمن أنزله، وصدقنا محمداً صلى الله عليه وسلم في رسالته { فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلا يَخَافُ بَخْسًا وَلا رَهَقًا } أي فمن يؤمن بالله تعالى فلا يخشى نقصاناً من حسناته ولا ظلماً بزيادة سيئاته، قال ابن عباس : لا يخاف أن ينقص من حسناته، ولا أن يزاد في سيئاته، لأن البخس النقصان، والرهق العدوان { وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ } أي وأنا بعد سماعنا القرآن منا من أسلم، وصدق برسالة محمد صلى الله عليه وسلم، ومنا من جار عن الحق وكفر، قال المفسرون : يقال قسط الرجل إذا جار، وأقسط إذا عدل، واسم الفاعل من الأول قاسط، ومن الثاني مقسط ومنه { إن الله يحب التوابين ويحب المقسطين } وأما القاسط فهو الظالم الجائر { فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُوْلَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا } أي فمن اعتنق الإِسلام واتبع الرسول عليه السلام، فأولئك الذين قصدوا الرشد، واهتدوا إلى طريق السعادة والنجاة { وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا } أي وأما الكافرون الجائرون عن طريق الحق والإِيمان، فسيكونون وقوداً لجهنم، توقد بهم كما توقد بكفار الإِنس .. وإلى هنا انتهى كلام الجن، مما يدل على قوة إيمانهم، وصدقهم وإخلاصهم، ثم قال تعالى مخبراً عن أهل مكة { وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ } أي لو آمن هؤلاء الكفار، واستقاموا على شريعة الله { لأسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا } أي لبسطنا لهم في الرزق، ووسعنا عليهم في الدنيا، زيادة على ما يحصل لهم في الآخرة من النعيم الدائم، وبذلك يجوزون عز الدنيا والآخرة، قال ابن جزي : الماء الغدق: الكثير، وذلك استعارة في توسيع الرزق، والطريقة هي طريقة الإِسلام وطاعة الله والمعنى: لو استقاموا على ذلك لوسع الله أرزاقهم فهو كقوله { ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركاتٍ من السماء والأرض } { لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ } أي لنختبرهم به أيشكرون أم يكفرون؟ { وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَابًا صَعَدًا } أي ومن يعرض عن طاعة الله وعبادته، يدخله ربه عذاباً شديداً شاقاً لا راحة فيه، قال قتادة : { صَعَدًا } عذاباً لا راحة فيه، وقال عكرمة : هو صخرة ملساء في جهنم يكلف صعودها، فإذا انتهى إلى أعلاها حُدِر إلى جهنم.

المساجد لله ، والنافع والضار هو الله

{ وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا(18)وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا(19)قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِهِ أَحَدًا(20)قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا رَشَدًا(21)قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنْ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا(22)إِلا بَلاغًا مِنْ اللَّهِ وَرِسَالاتِهِ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا(23)حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ نَاصِرًا وَأَقَلُّ عَدَدًا(24)}

سبب النزول:

نزول الآية (18):

{ وأن المساجد لله }: أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: قالت الجن: يا رسول الله، ائذن لنا، فنشهد معك الصلوات في مسجدك، فأنزل الله: { وأن المساجد لله، فلا تدعوا مع الله أحداً }. وروي ذلك أيضاً عن الأعمش.

نزول الآية (20):

{ قل: إنما أدعو ربي }: سبب نزولها كما ذكر الشوكاني : أن كفار قريش قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: إنك جئت بأمر عظيم، وقد عاديت الناس كلهم، فارجع عن هذا فنحن نجيرك.

نزول الآية (22):

{ قل: إني لن يجيرني ..}: أخرج ابن جرير عن حضرمي أنه ذكر أن جنياً من الجن من أشرافهم ذا تَبَع قال: إنما يريد محمد أن يجيره الله، وأنا أجيره، فأنزل الله: { قل: إني لن يجيرني من الله أحد } الآية.

{ وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا } هذا من جملة الموحى به للرسول { قل أُوحي إلي } والمعنى وأوحي إلي أن المساجد وبيوت العبادة هي مختصة بالله، فلا تعبدوا فيها غيره وأخلصوا له العبادة فيها، قال مجاهد : كان اليهود والنصارى إذا دخلوا كنائسهم وبيعهم أشركوا بالله فيها، فأمر الله عز وجل نبيه والمؤمنين أن يخلصوا الدعوة لله إذا دخلوا المساجد كلها { وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ } أي وأنه لما قام محمد صلى الله عليه وسلم يعبد ربه { كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا } أي كاد الجن يركب بعضهم بعضاً من شدة الازدحام، حرصاً على سماع القرآن، قال ابن عباس : كادوا ينقضون عليه لاستماع القرآن، وإنما وصفه تعالى بالعبودية، ولم يذكره باسمه زيادة في تشريفه وتكريمه عليه السلام { قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِهِ أَحَدًا } أي قل يا محمد لهؤلاء الكفار الذين طلبوا منك أن ترجع عن دينك: إنما أعبد ربي وحده، ولا أشرك مع الله غيره بشراً ولا صنماً، قال الصاوي : سبب نزولها أن كفار قريش قالوا له: إنك جئت بأمر عظيم، وقد عاديت الناس كلهم، فارجع عن هذا فنحن نجيرك وننصرك فنزلت { قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا رَشَدًا } أي قل يا محمد في محاجَّة هؤلاء: إني لا أقدر أن أدفع عنكم ضراً، ولا أجلب لكم نفعاً، وإنما الذي يملك هذا هو الله رب العالمين { قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنْ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا } أي قل لهم أيضاً: إنّه لن ينقذني من عذاب الله أحد إن عصيته، ولن أجد لي نصيراً ولا ملجأً منه، فكيف أجيبكم إلى ما طلبتم؟ قال قتادة : { مُلْتَحَدًا } ملجأً ونصيراً { إِلا بَلاغًا مِنْ اللَّهِ وَرِسَالاتِهِ } أي لا أجد ملجأً إلا إذا بلغت رسالة ربي، ونصحتكم وأرشدتكم كما أمرني الله فحينئذ يجيرني ربي من العذاب كقوله تعالى { يا أيها الرسول بلغ ما أُنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلَّغت رسالته } قال ابن كثير : أي لا يجيرني منه ويخلصني إلا إبلاغي الرسالة التي أوجب أداءها عليَّ { وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا } أي ومن كذب الله ورسوله، ولم يؤمن بلقاء الله، وأعرض عن سماع الآيات وتدبر الرسالات، فإن جزاءه جهنم لا يخرج منها أبداً وإنما جمع { خَالِدِينَ } حملاً على معنى { مَن ْ} لأن لفظها مفرد ومعناها جمع { حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ } أي حتى إذا رأى المشركون ما يوعدون من العذاب { فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ نَاصِرًا وَأَقَلُّ عَدَدًا } أي فسيعلمون حينئذ من هم أضعف ناصراً ومعيناً، وأقل نفراً وجنداً؟ هل هم؟ أم المؤمنون الموحدون؟ ولا شك أن الله ناصر عباده المؤمنين، فهم الأقوى ناصراً والأكثر عدداً، لأن الله معهم وملائكته الأبرار.

قيام الساعة من خصوصيات الله عالم الغيب

{ قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ مَا تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَدًا(25)عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا(26)إِلا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا(27)لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا(28)}

سبب النزول:

قال مقاتل: إن المشركين لما سمعوا قوله تعالى: { حتى إذا رأوا ما يُوعَدون فسيَعْلَمون من أضعفُ ناصراً وأقلعدداً } قال النضر بن الحارث: متى يكون هذا اليوم الذي توعدنا به ؟ فأنزل الله تعالى: { قل إن أدري أقريب ما توعدون } إلى آخر الآيات.

{ قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ مَا تُوعَدُونَ }؟ أي قل لهم يا محمد: ما أدري هل هذا العذاب الذي وعدتم به قريب زمنه { أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَدًا } أي أم هو بعيد له مدة طويلة وأجل محدود؟ قال المفسرون : كان صلى الله عليه وسلم كلما خوف المكذبين نار جهنم، وحذرهم أهوال الساعة، أظهروا الاستخفاف بقوله، وسألوه متى هذا العذاب؟ ومتى تقوم هذه الساعة؟ فأمره تعالى أن يقول لهم: لا أدري وقت ذلك، هل هو قريب أم بعيد؟ { عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا } أي هو جل وعلا عالم بما غاب عن الأبصار، وخفي عن الأنظار، فلا يطلع على غيبه أحداً من خلقه { إِلا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ } أي إلا من اختاره الله وارتضاه لرسالته ونبوته، فيظهره الله على ما يشاء من الغيب، قال المفسرون : لا يطلع الله على غيبه أحداً إلا بعض الرسل، فإنه يطلعهم على بعض الغيب، ليكون معجزة لهم، إن الرسل مؤيدون بالمعجزات، ومنها الإِخبار عن بعض المغيبات، كما قال عن عيسى { وأُنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم } { فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا } أي فإنه تعالى يرسل من أمام الرسول ومن خلفه، ملائكة وحرساً يحفظونه من الجن، ويحرسونه في ضبط ما يلقيه تعالى إليه من علم الغيب، قال الطبري : أي فإنه تعالى يرسل من أمامه ومن خلفه حرساً وحفظةً يحفظونه من الجن { لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالاتِ رَبِّهِمْ } أي ليعلم الله - علم ظهور فإنه تعالى عالم بما كان وما يكون - أن رسله الكرام قد بلغوا عنه وحيه كما أوحاه إليهم محفوظاً من الزيادة والنقصان، قال ابن كثير : المعنى أن الله يحفظ رسله بملائكته ليتمكنوا من أداء رسالاته، ويحفظ ما ينزله إليهم من الوحي، ليعلم أن قد أبلغوا رسالات ربهم، مع العلم بأنه تعالى يعلم الأشياء قبل كونها قطعاً لا محالة { وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ } أي أحاط علمه بما عند الرسل، فلا يخفى عليه شيء من أمورهم { وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا } أي علم تعالى علم ضبط واستقصاء جميع الأشياء، المنبثَّة في الأرضين والسماوات من القطر، والرمل، وورق الأشجار، وزبد البحار، فلا يغيب عنه شيء، ولا يخفى عليه أمر، فكيف لا يحيط علماً بما عند رسله من رسالاته ووحيه، التي أمرهم بتبليغها إلى خلقه؟ وكيف يمكن لرسله أن يفرطوا في تلك الرسالات، أو يزيدوا أو ينقصوا أو يحرفوا فيها او يغيروا، وهو تعالى محيط بها، محص لجميع الأشياء جليلها وحقيرها؟ { وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو ويعلم ما في البر والبحر، وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين }.

Free Web Hosting