سورة الجمعة

بعثة خاتم الرسل والرحمة المهداة صلى الله عليه وسلم

عدم استجابة اليهود لأوامر التوراة

فريضة صلاة الجمعة

بَين يَدَيْ السُّورَة

* هذه السورة الكريمة مدنية وهي تتناول جانب التشريع، والمحور الذي تدور عليه السورة بيانُ أحكام "صلاة الجمعة" التي فرضها الله على المؤمنين.

* تناولت السورة الكريمة بعثة خاتم الرسل محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم وبيَّنت أنه الرحمة المهداة، أنقذ الله به العرب من ظلام الشرك والضلال، وأكرم به الإِنسانية، فكانت رسالته بلسماً لأمراض المجتمع البشري، بعد أن كان يتخبط في الظلام.

* ثم تحدثت السورة عن اليهود، وانحرافهم عن شريعة الله، حيث كُلِّفوا بالعمل بأحكام التوراة، ولكنهم أعرضوا عنها ونبذوها وراء ظهورهم، وضربت مثلاً لهم بالحمار، الذي يحمل على ظهره الكتب الكبيرة النافعة، ولكنه لا يناله منها إِلا العناء والتعب، وذلك نهاية الشقاء والتعاسة.

* ثم تناولت أحكام "صلاة الجمعة" فدعت المؤمنين إِلى المسارعة لأداء الصلاة، وحرمت عليهم البيع وقت الأذان ووقت النداء لها، وختمت بالتحذير من الانشغال عن الصلاة بالتجارة واللهو كحال المنافقين، الذين إذا قاموا إِلى الصلاة قاموا كسالى متثاقلين.

بعثة خاتم الرسل والرحمة المهداة صلى الله عليه وسلم

{ يُسبّح لله ما في السّماوات وما في الأرض الملِك القُدوس العزيز الحكيم(1)هو الذي بعثَ في الأُمِّيِّين رسولاً مِّنهم يتلوا عليهم ءاياته ويزكّيهم ويعلِّمهم الكتابَ والحكمة وإِن كانوا من قبلُ لفي ضلالٍ مبين(2)وآخرين منهم لمَّا يلحقوا بهم وهو العزيز الحكيم(3)ذلك فضلُ اللهِ يؤْتيه من يشاء واللهُ ذو الفضل العظيم(4)}.

{ يُسبّح لله ما في السماوات وما في الأرض } أي ينزِّه الله ويمجده ويقدِّسه كلُّ شيء في الكون من إنسانٍ، وحيوان، ونبات، وجماد، وصيغةُ المضارع { يُسبحُ } لإِفادة التجدد والاستمرار، فهو تسبيحٌ دائم على الدوام { الملِك } أي هو الإِله المالك لكل شيء، المتصرف في خلقه بالإِيجاد والإِعدام { القُدوس } أي المقدَّس والمنزَّه عن النقائص، المتصف بصفات الكمال { العزيز الحكيم } أي العزيز في ملكه، الحكيم في صنعه { هو الذي بعثَ في الأُميّين رسولاً منهم} أي هو جل وعلا برحمته وحكمته الذي بعث في العرب رسولاً من جملتهم، أمياً مثلهم لا يقرأ ولا يكتب قال المفسرون: سُمي العرب أميّين لأنهم لا يقرأون ولا يكتبون، فقد اشتهرت فيهم الأمية كما قال عليه الصلاة والسلام (نحن أمةٌ أمية، لا نكتب ولا نحسب) الحديث والحكمةُ في اقتصاره على ذكر الأميين، مع أنه رسولٌ إِلى كافة الخلق، تشريفُ العرب حيث أُضيف صلوات الله عليه إِليهم، وكفى بذلك شرفاً للعرب { يتلوا عليهم ءاياته } أي يقرأ عليهم ءايات القرآن { ويزكّيهم } أي ويطهرهم من دنس الكفر والذنوب قال ابن عباس : أي يجعلهم أزكياء القلوب بالإِيمان { ويعلّمهم الكتابَ والحكمة } أي ويعلمهم ما يتلى من الآيات والسنة النبوية المطهرة { وإِنْ كانوا من قبلُ لفي ضلالٍ مبين } أي وإِنَّ الحال والشأن أنهم كانوا من قبل إِرسال محمد صلى الله عليه وسلم إِليهم لفي ضلالٍ واضح، عن النهج القويم، والصراط المستقيم قال ابن كثير : بعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم على حين فترةٍ من الرسل، وطموسٍ من السُّبُل، وقد اشتدت الحاجة إِليه، فقد كان العرب متمسكين بدين إِبراهيم الخليل فبدلوه وغيَّروه، واستبدلوا بالتوحيد شركاً، وباليقين شكاً، وابتدعوا أشياء لم يأذن بها اللهُ، وكذلك كان أهل الكتاب قد بدَّلوا كتبهم وحرفوها، فبعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم بشرع عظيم، شامل كامل، فيه الهداية والبيان لكل ما يحتاج الناس إِليه من أمر معاشهم ومعادهم، وجمع له تعالى جميع المحاسن، وأعطاه ما لم يعط أحداً من الأولين والآخرين { وآخرين منهم لمَّا يلحقوا بهم } أي وبعث الرسول إِلى قومٍ آخرين، لم يكونوا في زمانهم وسيجيئون بعدهم، وهم جميع من أسلم إِلى يوم القيامة قال الصاوي: والمعنى أنه بعث إِلى المؤمنين الموجودين في زمانه، وإِلى الآتين منهم بعدهم، فليست رسالته خاصة بمن كان موجوداً في زمانه، بل هي عامة لهم ولغيرهم إِلى يوم القيامة، وفي الحديث عن أبي هريرة قال: كنا جلوساً عند النبي صلى الله عليه وسلم فأنزلت عليه سورة الجمعة { وآخرين منهم لمَّا يلحقوا بهم } قالوا: من هم يا رسول الله؟ قال: وفينا سلمان الفارسي، فوضع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده على سلمان ثم قال: "لو كان الإِيمان عند الثريا لناله رجالٌ من هؤلاء" قال مجاهد: في تفسير الآية: هم الأعاجم وكلُّ من صدَّق النبي صلى الله عليه وسلم من غير العرب { وهو العزيز الحكيم } أي القويُ الغالب في ملكه، الحكيم، في صنعه { ذلك فضلُ اللهِ يؤْتيه من يشاء } أي ذلك الشرف الذي امتاز به سيد البشر، وهو كونه مبعوثاً إِلى كافة الناس، وما شرَّف الله به العرب من نزول القرآن بلغتهم، وإِرسال خاتم الرسل إِليهم، هو فضلُ اللهِ يعطيه لمن يشاء من خلقه { واللهُ ذو الفضل العظيم } أي هو جل وعلا ذو الفضل الواسع على جميع خلقه في الدنيا والآخرة.

عدم استجابة اليهود لأوامر التوراة

{ مثلُ الذين حُمِّلوا التوراة ثمَّ لم يحملوها كمثل الحمار يحملُ أسفاراً بِئس مثلُ القوم الَّذين كذَّبوا بآيات الله واللهُ لا يهدي القوم الظالمين(5)قل يا أيُّها الذين هادوا إن زعمتم أنَّكم أولياءُ لله من دون النَّاس فتمنَّوا الموتَ إِن كنتم صادقين(6)ولا يتمنونه أبداً بما قدَّمت أيديهم واللهُ عليمٌ بالظَّالمين(7)قل إِن الموت الَّذي تفروُّن منه فإِنَّه ملاقيكم ثم تردَّون إِلى عالم الغيب والشَّهادة فينبِّئكم بما كنتم تعملون(8 )}.

ثم شرع تعالى في ذم اليهود الذين أكرمهم الله بالتوراة، فلم ينتفعوا بها ولم يطبقوها، وشبَّههم بالحمار الذي يحمل الأسفار فقال { مثلُ الذين حُمِّلوا التوراة } أي مثل اليهود الذين أعطوا التوراة، وكُلفوا العمل بما فيها { ثم لم يحملوها } أي ثم لم يعملوا بها، ولم ينتفعوا بهديها ونورها { كمثل الحمار يحملُ أسفاراً } أي مثلهم كمثل الحمار الذي يحمل الكتب النافعة الضخمة، ولا يناله منها إِلا التعب والعناء وقال القرطبي : شبههم تعالى - والتوراة في أيديهم وهم لا يعملون بها - بالحمار يحمل كتباً، وليس له إلاّ ثقل الحمل من غير فائدة، فهو يتعب في حملها ولا ينتفع بما فيها وقال في حاشية البيضاوي : ذمَّ تعالى اليهود بأنهم قراءُ التوراة، عالمون بما فيها، وفيها ءاياتٌ دالة على صحة نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ووجوب الإِيمان به، ولكنهم لم ينتفعوا بها مما ينجيهم من شقاوة الدارين، وشبههم بالحمار الذي يحمل أسفار العلم والحكمة ولا ينتفع بها، ووجه التشبيه حرمان الانتفاع بما هو أبلغ شيء في الانتفاع، مع الكدِّ والتعب { بِئس مثلُ القوم الَّذين كذَّبوا بآيات الله } أي بئس هذا المثل الذي ضربناه لليهود، مثلاً للقوم الذين كذبوا بآيات الله، الدالة على نبوة محمد عليه الصلاة والسلام { واللهُ لا يهدي القوم الظالمين } أي لا يوفق للخير، ولا يرشد للإِيمان من كان ظالماً فاسقاً قال عطاء : هم الذين ظلموا أنفسهم بتكذيبهم للأنبياء، ثم كذَّب تعالى اليهود في دعوى أنهم أحبابُ الله فقال {قل يا أيها الذين هادوا } أي قل يا محمد لهؤلاء الذين تهودوا وتمسكوا بملة اليهودية { إن زعمتم أنكم أولياءُ لله من دون الناس } أي إن كنتم أولياء الله وأحباءه حقاً كما تدَّعون { فتمنوا الموتَ إِن كنتم صادقين } أي فتمنوا من الله أن يميتكم، لتنقلوا سريعاً إِلى دار كرامته المعدَّة لأوليائه، إِن كنتم صادقين في هذه الدعوى قال أبو السعود : كان اليهود يقولون: { نحن أبناءُ الله وأحباؤهُ } ويدَّعون أن الدار الآخرة لهم عند الله خالصة، ويقولون { لن يدخل الجنة إِلا من كان هوداً } فأمر الله رسوله أن يقول لهم إِظهاراً لكذبهم: إِن زعمتم ذلك فتمنوا الموت، لتنقلوا من دار البلاء إِلى دار الكرامة، فإِنَّ من أيقن بأنه من أهل الجنة، أحبَّ أن يتخلص إِليها من هذه الدار التي هي مقرُّ الأكدار، قال تعالى فاضحاً لهم، ومبيناً كذبهم { ولا يتمنونه أبداً بما قدَّمت أيديهم } أي ولا يتمنون الموت بحالٍ من الأحوال، بسبب ما أسلفوه من الكفر والمعاصي وتكذيب محمد عليه السلام وفي الحديث "والذين نفسي بيده، لو تمنوا الموتَ ما بقي على ظهرها يهودي إِلا مات" قال الألوسي : لم يتمنَّ أحدٌ الموت منهم، لأنهم كانوا موقنين بصدقه عليه السلام، فعلموا أنهم لو تمنوه لماتوا من ساعتهم، وهذه إِحدى المعجزات، وجاء في سورة البقرة نفيُ هذا التمني بلفظ { ولن } وهو من باب التفنن على القول المشهور { واللهُ عليمٌ بالظالمين } أي عالمٌ بهم وما صدر عنهم من فنون الظلم والمعاصي، وإِنما وضع الظاهر موضع الضمير "عليمٌ بهم" ذماً لهم، وتسجيلاً عليهم بأنهم ظالمون { قل إِن الموت التي تفرون منه } أي قل لهم يا محمد: إن هذا الموت الذي تهربون منه، وتخافون أن تتمنوه حتى بلسانكم {فإِنه ملاقيكم } أي فإِنه آتيكم لا محالة، لا ينفعكم الفرار منه كقوله تعالى { أينما تكونوا يدرككم الموتُ ولو كنتم في بروجٍ مشيدَّة } لأنه قدرٌ محتوم، ولا يغني حذرٌ عن قدر { ثم تردون إِلى عالم الغيب والشهادة } أي ثم ترجعون إِلى الله الذي لا تخفى عليه خافية { فينبئكم بما كنتم تعملون } أي فيجازيكم على أعمالكم، وفيه وعيدٌ وتهديد ..

فريضة صلاة الجمعة

{ يا أيُّها الذين آمنوا إِذا نودي للصَّلاة من يوم الجمعة فاسْعوا إِلى ذكر الله وذروا البيع ذلكم خيرٌ لَّكم إن كنتم تعلمون(9)فإِذا قُضيت الصَّلاةُ فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضلِ الله واذكروا اللهَ كثيراً لَّعَّلكم تفلحون(10)وإِذا رأوا تجارةً أو لهواً انفضوا إِليها انفضُّوا إِليها وتركوك قائماً قل ما عند الله خيرٌ من اللَّهو ومن التِّجارة واللهُ خيرُ الرَّازقين(11)} .

سبب النزول:

نزول الآية (11):

{ وإذارأوا تجارة ..}: أخرج أحمد والشيخان (البخاري ومسلم) والترمذي عن جابر قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يخطب يوم الجمعة إذ أقبلت عِير قد قدمت، فخرجوا إليها حتى لم يبق معه إلا اثنا عشر رجلاً، فأنزل الله تعالى: { وإذا رأوا تجارة أو لهوا انفضوا إليها وتركوك قائماً }.

ثم شرع تعالى في بيان أحكام الجمعة فقال { يا أيها الذين آمنوا إِذا نودي للصلاة من يوم الجمعة } أي يا معشر المؤمنين المصدّقين بالله ورسوله، إِذا سمعتم المؤذن ينادي لصلاة الجمعة ويؤذن لها { فاسْعوا إِلى ذكر الله وذروا البيع } أي فامضوا إِلى سماع خطبة الجمعة وأداء الصلاة، واتركوا البيع والشراء، اتركوا التجارة الخاسرة واسعوا إِلى التجارة الرابحة قال ابن جزي : والسعيُ في الآية بمعنى المشي لا بمعنى الجري لحديث "إِذا أقيمت الصلاة فلا تأتوها وأنتم تسعون، وأتوها وأنتم تمشون وعليكم السكينة" .. وقال الحسن: واللهِ ما هو بالسعي على الأقدام، ولقد نُهوا أن يأتوا الصلاة إِلا وعليهم السكينة والوقار، ولكنه سعيٌ بالقلوب، والنية، والخشوع { ذلكم خيرٌ لكم } أي ذلك السعي إِلى مرضاة الله، وتركُ البيع والشراء، خيرٌ لكم وأنفع من تجارة الدنيا، فإِن نفع الآخرة أجلٌّ وأبقى { إن كنتم تعلمون } أي إن كنتم من أهل العلم القويم، والفهم السليم { فإِذا قُضيت الصلاةُ } أي فإِذا أديتم الصلاة وفرغتم منها { فانتشروا في الأرض } أي فتفرقوا في الأرض وانبثوا فيه للتجارة وقضاء مصالحكم { وابتغوا من فضلِ الله } أي واطلبوا من فضل الله وإِنعامه، فإِن الرزق بيده جلَّ وعلا وهو المنعم المتفضل، الذي لا يُضيع عمل العامل، ولا يخيّب أمل السائل { واذكروا اللهَ كثيراً } أي واذكروا ربكم ذكراً كثيراً، باللسان والجنان، لا وقت الصلاة فحسب { لعلكم تفلحون} أي كي تفوزوا بخير الدارين قال سعيد بن جبير: ذكرُ الله طاعته، فمن أطاع اللهَ فقد ذكره، ومن لم يطعه فليس بذاكرٍ ولو كان كثير التسبيح .. ثم أخبر تعالى أنَّ فريقاً من الناس يؤثرون الدنيا الفانية على الآخرة الباقية، ويفضلون العاجل على الآجل فقال { وإِذا رأوا تجارةً أو لهواً انفضوا إِليها } هذا عتابٌ لبعض الصحابة الذين انصرفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وتركوه قائماً يخطب يوم الجمعة، والمعنى: إِذا سمعوا بتجارة رابحة، أو صفقةٍ قادمة، أو شيء من لهو الدنيا وزينتها، تفرقوا عنك يا محمد وانصرفوا إِليها، وأعاد الضمير إِلى التجارة دون اللهو { انفضُّوا إِليها } لأنها الأهم المقصود { وتركوك قائماً } أي وتركوا الرسول قائماً على المنبر يخطب قال المفسرون : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قائماً على المنبر يخطب يوم الجمعة، فأقبلت عيرٌ من الشام بطعام قدم بها "دحية الكلبي" - وكان أصاب أهل المدينة جوعٌ وغلاء سعر - وكانت عادتهم أن تدخل العير المدينة بالطبل والصياح سروراً بها، فلما دخلت العير كذلك انفضَّ أهل المسجد إِليها، وتركوا رسول الله صلى الله عليه وسلم قائماً على المنبر، ولم يبق معه إِلا اثني عشر رجلاً قال جابر بن عبد الله: أنا أحدهم فنزلت الآية قال ابن كثير : وينبغي أن يعلم أن هذه القصة كانت لمَّا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقدم الصلاة يوم الجمعة على الخطبة كما هو الحال في العيدين، كما روى ذلك أبو داود { قل ما عند الله خيرٌ من اللهو ومن التجارة } أي قل لهم يا محمد: إِنَّ ما عند الله من الثواب والنعيم، خير مما أصبتموه من اللهو والتجارة { والله خير الرازقين } أي خير من رزق وأعطى، فاطلبوا منه الرزق، وبه استعينوا لنيل فضله وإِنعامه.

Free Web Hosting