سورة الْقَمَر

قصة قوم نوح عليه السلام

قصة عاد قوم هود عليه السلام

قصة ثمود قوم صالح عليه السلام

قصة قوم لوط عليه السلام

قصة آل فرعون

تخويف الله كفار مكة، وجزاء المجرمين والمتقين

بَين يَدَيْ السُّورَة

* سورة الْقَمَر من السور المكية، وقد عالجت أصول العقيدة الإِسلامية، وهي من بدئها إِلى نهايتها حملةٌ عنيفةٌ مفزعة على المكذبين بآيات القرآن، وطابع السورة الخاص، هو طابع التهديد والوعيد، والإِعذار والإِنذار، مع صور شتَّى من مشاهد العذاب والدمار.

* ابتدأت السورة الكريمة بذكر تلك "المعجزة الكونية" معجزة انشقاق القمر، التي هي إِحدى المعجزات العديدة لسيد البشر صلى الله عليه وسلم، وذلك حين طلب المشركون منه معجزة جلية تدل على صدقه، وخصصوا بالذكر أن يشق لهم القمر ليشهدوا له بالرسالة، ومع ذلك عاندوا وكابروا { اقْتَرَبَتْ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ* وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ.. } الآيات.

* ثم انتقلت للحديث عن أهوال القيامة وشدائدها، بأسلوب مخيف يهز المشاعر هزاً، ويحرك في النفس الرعب والفزع من هول ذلك اليوم العصيب { فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِي إِلَى شَيْءٍ نُكُرٍ * خُشَّعًا أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنتَشِرٌ * مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِي يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ }.

* وبعد الحديث عن كفار مكة، يأتي الحديث عن مصارع المكذبين، وما نالهم في الدنيا من ضروب العذاب والدمار بدءاً بقوم نوح { كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ ..}.

* ثم تلاه الحديث عن الطغاة المتجبرين من الأمم السالفة، الذين كذبوا الرسل فأهلكهم الله إِهلاكاً فظيعاً، ودمَّرهم عن بكرة أبيهم، وقد تحدثت الآيات عن قوم "عاد، وثمود، وقوم لوط، وقوم فرعون" وغيرهم من الطغاة المتجبرين بشيءٍ من الإِسهاب، مع تصوير أنواع العذاب.

* وبعد عرض هذه المشاهد الأليمة - مشاهد العذاب والنكال - الذي حلَّ بالمكذبين لرسل الله صلى الله عليه وسلم توجهت السورة إِلى مخاطبة قريش، وحذرتهم مصرعاً كهذه المصارع بل ما هو أشد وأنكى { سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ * بَلْ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ ...} الآيات.

* وختمت السورة ببيان مآل السعداء المتقين، بعد ذكر مآل الأشقياء المجرمين، على طريقة القرآن في الجمع بين الترغيب والترهيب، بأسلوبه العجيب { إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ* فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ }.

معجزة انشقاق القمر

{ اقْتَرَبَتْ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ(1)وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ(2)وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ(3)وَلَقَدْ جَاءهُمْ مِنَ الأَنْبَاءِ مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ(4)حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ(5)فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِي إِلَى شَيْءٍ نُكُرٍ(6)خُشَّعًا أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنتَشِرٌ(7)مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ(8)}

سبب النزول:

نزول الآية (1 - 2):

{ اقْتَرَبَتْ السَّاعَةُ ...}: أخرج الشيخان والحاكم - واللفظ له - عن ابن مسعود قال: رأيت القمر منشقاً شقين بمكة، قبل مخرج النّبي صلى الله عليه وسلم، فقالوا: سُحِرَ القمر، فنزلت: { اقْتَرَبَتْ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ.. .}.

وأخرج محمد بن جرير وأبو داود الطيالسي والبيهقي عن عبد الله بن مسعود قال: انشقّ القمر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت قريش: هذا سحر ابن أبي كَبْشة، سحركم، فاسألوا السُّفَّار، فسألوهم، فقالوا: نعم قد رأينا، فأنزل الله عزّ وجلّ: { اقْتَرَبَتْ السَّاعَةُ وَانشَقَّ الْقَمَرُ* وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ }.

{ اقْتَرَبَتْ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ } أي دنت القيامة وقد انشقِ القمر { وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا } أي وإِن ير كفار قريش علامة، واضحة ومعجزة ساطعة، تدل على صدق محمد صلى الله عليه وسلم يعرضوا عن الإِيمان { وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ } أي ويقولوا هذا سحرٌ دائم، سحر به محمدٌ أعيننا، قال المفسرون : إِن كفار مكة قالوا للرسول صلى الله عليه وسلم: إن كنت صادقاً فشقَّ لنا القمر فرقتين، ووعدوه بالإِيمان إِن فعل، وكانت ليلة بدر، فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم ربَّه أن يعطيه ما طلبوا، فانشقَّ القمر نصف على جبل الصفا، ونصفٌ على جبل قيقعان المقابل له، حتى رأوا حراء بينهما، فقالوا: سحرنا محمد، ثم قالوا: إن كان سحرنا فإِنه لا يستطيع أن يسحر الناس كلهم!! فقال أبو جهل : اصبروا حتى تأتينا أهل البوادي فإِن أخبروا بانشقاقه فهو صحيح، وإِلا فقد سحر محمد أعيننا، فجاءوا فأخبروا بانشقاق القمر فقال أبو جهل والمشركون: هذا سحرٌ مستمر أي دائم فأنزل الله { اقْتَرَبَتْ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ (1) وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ } قال الخازن : وانشقاقُ القمر من ءايات رسول الله صلى الله عليه وسلم الظاهرة، ومعجزاته الباهرة، يدل عليه ما أخرجه الشيخان عن أنس "أن أهل مكة سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه يُريهم آية، فأراهم انشقاق القمر مرتين" وما روي عن ابن مسعود قال "انشق القمر عل عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم شقتين فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اشهدوا" وما روي عن جبير بن مطعم قال "انشق القمر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فصار فرقتين، فقالت قريش: سحر محمد أعيننا فقال بعضهم: لئن كان سحرنا فما يستطيع أن يسحر الناس كلهم، فكانوا يتلقون الركبان فيخبرونهم بأنهم قد رأوه فيكذبونهم" فهذه الأحاديث الصحيحة، قد وردت بهذه المعجزة العظيمة، مع شهادة القرآن العظيم بذلك، فإِنه أدل دليل وأقوى مثبتٍ له وإِمكانه لا يشك فيه مؤمن، وقيل في معنى الآية: ينشق القمر يوم القيامة، وهذا قول باطل لا يحص، وشاذ لا يثبت، لإِجماع المفسرين على خلافه، ولأن الله ذكره بلفظ الماضي { وَانْشَقَّ الْقَمَرُ } وحمل الماضي على المستقبل بعيد { وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءهُمْ } أي وكذبوا النبي صلى الله عليه وسلم وما عاينوه من قدرة الله تعالى في انشقاق القمر، واتبعوا ما زين لهم الشيطان من الباطل { وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ } أي وكل أمرٍ من الأمور منتهٍ إِلى غاية يستقر عليها لا محالة إِن خيراً فخير، وإِن شراً فشر، قال مقاتل : لكل حديثٍ منتهى وحقيقة ينتهي إِليها، وقال قتادة : إِن الخير يستقر بأهل الخير، والشر يستقر بأهل الشر، وكل أمرٍ مستقر بأهله { وَلَقَدْ جَاءهُمْ مِنَ الأَنْبَاءِ مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ } أي ولقد جاء هؤلاء الكفار من أخبار الأمم الماضية المكذبين للرسل، ما فيه واعظ لهم عن التمادي في الكفر والضلال { حِكمَةٌ بَالِغَةٌ } أي هذا القرآن حكمة بالغة، بلغت النهاية في الهداية والبيان { فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ } أي أيَّ شيءٍ تُغني النُذُر عمن كتب الله عليه الشقاوة، وختم على سمعه وقلبه؟! قال المفسرون : المعنى لقد جاءهم القرآن وهو حكمة تامة قد بلغت الغاية، فماذا تنفع الإِنذارات والمواعيد لقومٍ أصموا آذانهم عن سماع كلام الله؟ كقوله تعالى { وما تُغني الآيات والنُذر عن قومٍ لا يؤمنون } { فَتَوَلَّ عَنْهُمْ } أي فأعرض يا محمد عن هؤلاء المجرمين وانتظرهم { يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلَى شَيْءٍ نُكُرٍ } أي يوم يدعو إِسرافيل إِلى شيءٍ منكر فظيع، تنكره النفوس لشدته وهوله، وهو يوم القيامة وما فيه من البلاء والأهوال { خُشَّعًا أَبْصَارُهُمْ } أي ذليلةً أبصارهم لا يستطيعون رفعها من شدة الهول { يَخْرُجُونَ مِنَ الأَجْدَاثِ } أي يخرجون من القبور { كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنتَشِرٌ } أي كأنهم في انتشارهم وسرعة إِجابتهم للداعي جرادٌ منتشر في الآفاق، لا يدرون أين يذهبون من الخوف والحيرة، قال ابن الجوزي : وإِنما شبههم بالجراد المنتشر، لأن الجراد لا جهة له يقصدها، فهم يخرجون من القبور فزعين ليس لأحدٍ منهم جهة يقصدها، والداعي هو إِسرافيل { مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِي } أي مسرعين مادّي أعناقهم إِلى الداعي لا يتكلئون ولا يتأخرون { يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ } أي يقول الكافرون هذا يوم صعبٌ شديد ، قال الخازن : وفيه إِشارة إلى أنَّ ذلك اليوم يومٌ شديد على الكافرين لا على المؤمنين كقوله تعالى { على الكافرين غيرُ يسير } .

قصة قوم نوح عليه السلام

{ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا وَقَالُوا مجْنُونٌ وَازْدُجِرَ(9)فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ(10)فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ(11)وَفَجَّرْنَا الأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ(12)وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ(13)تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ(14)وَلَقَدْ تَرَكْنَاهَا آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ(15)فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ(16)وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ(17)}.

ثم ذكر تعالى وقائع الأمم المكذبين وما حلَّ بهم من العذاب والنكال تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتحذيراً لكفار مكة فقال { كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ } أي كذب قبل قومك يا محمد قومُ نوح { فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ } أي فكذبوا عبدنا نوحاً وقالوا إِنه مجنون، وانتهروه وزجروه عن دعوى النبوة بالسب والتخويف والوعيد بقولهم { لئن لم تنته يا نوحُ لتكوننَّ من المرجومين } قال أبو حيّان : لم يقنعوا بتكذيبه حتى نسبوه إِلى الجنون أي أنه يقول ما لا يقبله عاقل وذلك مبالغة في تكذيبهم، وإِنما قال { عَبْدَنَا } تشريفاً له فمقام العبودية أعلى مقامات القرب{ فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ } أي فدعا نوح ربه وقال يا ربّ إِني ضعيف عن مقاومة هؤلاء المجرمين، فانتقم لي منهم وانتصر لدينك، قال أبو حيّان : وإِنما دعا عليهم بعدما يئس منهم وتفاقم أمرهم، وكان الواحد من قومه يخنقه إِلى أن يخر مغشياً عليه وهو يقول: اللهم اغفر لقومي فإِنهم لا يعلمون { فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ } أي فأرسلنا المطر من السماء منصباً بقوة وغزارة، قال أبو السعود: وهو تمثيلٌ لكثرة الأمطار وشدة انصبابها { وَفَجَّرْنَا الأَرْضَ عُيُونًا } أي جعلنا الأرض كلها عيوناً متفجرة بالماء { فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ } أي فالتقى ماء السماء وماء الأرض على حالٍ قد قدَّرها الله في الأزل وقضاها بإِهلاك المكذبين غرقاً، قال قتادة : قضى عليهم في أم الكتاب إِذا كفروا أن يُغرقوا { وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ } أي وحملنا نوحاً على السفينة ذات الألواح الخشبية العريضة المشدودة بالمسامير، قال في البحر : وذات الألواح والدُّسر هي السفينة التي أنشأها نوح عليه السلام، ويفهم من هذين الوصفين أنها "السفينة" فهي صفة تقوم مقام الموصوف وتنوب عنه ونحوه: قميصي مسرودة من حديد أي درع، وهذا من فصيح الكلام وبديعه، ولو جمعت بين الصفة والموصوف لم يكن بالفصيح، والدُّسُر: المسامير { تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا } أي تسير على وجه الماء بحفظنا وكلاءتنا وتحت رعايتنا { جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ } أي أغرقنا قوم نوح انتصاراً لعبدنا نوح لأنه كان قد كُذِّب وجُحد فضلُه، قال الألوسي : أي فعلنا ذلك جزاءً لنوح لأنه كان نعمةً أنعمها الله على قومه فكفروها، وكذلك كلُ نبيٍ نعمةٌ من الله تعالى على أمته { وَلَقَدْ تَرَكْنَاهَا آيَةً } أي تركنا تلك الحادثة "الطوفان" عبرة { فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ } أي فهل من معتبر ومتعظ؟ { فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ } استفهام تهويل وتعجيب أي فكيف كان عذابي وإِنذاري لمن كذب رسلي، ولم يتعظ بآياتي؟ { وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ } أي والله لقد سهلنا القرآن للحفظ والتدبر والاتعاظ، لما اشتمل عليه من أنواع المواعظ والعبر { فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ } أي فهل من متعظٍ بمواعظه، معتبرٍ بقصصه وزواجره؟ قال الخازن : وفيه الحث على تعليم القرآن والاشتغال به، لأنه قد يسره الله وسهله على من يشاء من عباده، بحيث يسهل حفظه للصغير والكبير، والعربي والعجمي، قال سعيد بن جبير : يسرناه للحفظ والقراءة، وليس شيء من كُتب الله تعالى يُقرأ كلُّه ظاهراً إِلا القرآن، وبالجملة فقد جعل الله القرآن مهيئاً ومسهلاً لمن أراد حفظه وفهمه أو الاتعاظ به، فهو رأس سعادة الدنيا والآخرة.

قصة عاد قوم هود عليه السلام

{ كَذَّبَتْ عَادٌ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ(18)إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ(19)تَنزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ(20)فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ(21)وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ(22)}.

{ كَذَّبَتْ عَادٌ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ } أي كذبت عادٌ رسولهم هوداً فكيف كان إِنذاري لهم بالعذاب؟ ثم شرع في بيان ما حلَّ بهم من العذاب الفظيع المدمر فقال { إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا } أي أرسلنا عليهم ريحاً عاصفة باردة شديدة الهبوب والصوت، قال ابن عباس : الصرصر: الشديدة البرد، وقال السدي : الشديدة ا لصوت { فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ } أي في يومٍ مشؤوم دائم الشؤم، استمر عليهم بشؤمه فلم يبق منهم أحدٌ إِلا هلك فيه، قال ابن كثير : استمر عليهم نحسه ودماره، لأنه يوم اتصل فيه عذابهم الدنيوي بالأخروي { تَنزِعُ النَّاسَ } أي تقلع الريح القوم ثم ترمي بهم على رؤوسهم فتدقُّ رقابهم وتتركهم { كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ } أي كأنهم أُصول نخلٍ قد انقلعت من مغارسها وسقطت على الأرض، شبهوا بالنخل لطولهم وضخامة أجسامهم، قال الخازن: كانت الريح تقلعهم ثم ترمي بهم على رؤوسهم فتدق رقابهم، وتفصل رؤوسهم من أجسامهم فتبقى أجسامهم بلا رءوس كعجز النخلة الملقاة على الأرض { فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ } تهويلٌ لما حلَّ بهم من العذاب وتعجيبٌ من أمرهم أي كيف كان عذابي وإِنذاري لهم؟ ألم يكن هائلاً فظيعاً؟ { وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ }؟ كرره للتنبيه على فضل الله على المؤمنين بتيسير حفظ القرآن أي ولقد سهلنا القرآن للحفظ والفهم، فهل من متعظٍ ومعتبر بزواجر القرآن!؟

قصة ثمود قوم صالح عليه السلام

{ كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ(23)فَقَالُوا أَبَشَرًا مِنَّا وَاحِدًا نَتَّبِعُهُ إِنَّا إِذًا لَفِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ(24)أَؤُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ(25)سَيَعْلَمُونَ غَدًا مَنْ الْكَذَّابُ الأَشِرُ(26)إِنَّا مُرْسِلُو النَّاقَةِ فِتْنَةً لَهُمْ فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ(27)وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْمَاءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ(28)فَنَادَوْا صَاحِبَهُمْ فَتَعَاطَى فَعَقَرَ(29)فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ(30)إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَكَانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ(31)وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ(32)}.

ثم أخبر تعالى عن قوم ثمود المكذبين لرسولهم صالح عليه السلام فقال { كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ } أي كذبت ثمود بالإِنذارات والمواعظ التي أنذرهم بها نبيهم صالح { فَقَالُوا أَبَشَرًا مِنَّا وَاحِدًا نَتَّبِعُهُ } أي أنتَّبع إِنساناً مثلنا من آحاد الناس، ليس من الأشراف ولا العظماء، ونحن جماعة كثيرون؟ قال أبو حيّان : قالوا ذلك حسداً منهم واستبعاداً أن يكون نوع البشر يفضل بعضُه بعضاً هذا الفضل، فقالوا: أنكون جمعاً ونتبع واحداً منا؟ ولم يعلموا أن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء، ويفيض نور الهدى على من رضيه { إِنَّا إِذًا لَفِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ } أي إنا إِذا اتبعناه لفي خطأٍ وذهابٍ عن الحقِّ واضح، وجنون دائم، قال ابن عباس : سُعُر أي جنون من قولهم ناقة مسعورة كأنها من شدة نشاطها مجنونة { أَؤُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنَا } استفهام إِنكاري أي هل خصَّ بالوحي والرسالة وحده دوننا، وفينا من هو أكثر منه مالاً وأحسن حالاً؟ قال الإِمام الفخر الرازي : وفي الآية إِشارة إِلى ما كانوا ينكرونه بطريق المبالغة، وذلك لأن الإِلقاء انزلاق بسرعة، فكأنهم قالوا: الملك جسيم والسماء بعيدة فكيف ينزل عليه الوحي في لحظة؟ وقولهم "عليه" إِنكارٌ آخر كأنهم قالوا: ما أُلقي عليه ذكرٌ أصلاً، وعلى فرض نزوله فلا يكون عليه من بيننا وفينا من هو فوقه في الشرف والذكاء؟ وقولهم { أَؤُلْقِيَ } بدلاً من قولهم { أألقى اللهُ } إِشارة إِلى أن الإِلقاء من السماء غير ممكن فضلاً عن أن يكون من الله تعالى { بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ } أي بل هو كاذب في دعوى النبوة، متجاوز في حد الكذب، متكبرٌ بطِرٌ يريد العلو علينا، وإِنما وصفوه بأنه { أَشِرٌ } مبالغة منهم في رفض دعواه كأنهم قالوا إنه كذب لا لضرورةٍ وحاجةٍ إِلى الخلاص كما يكذب الضعيف، وإِنما تكبَّر وبطر وطلب الرياسة عليكم وأراد أن تتبعوه فكذب على الله، فلا يلتفت إِلى كلامه لأنه جمع بين رذيلتين: الكذب والتكبر، وكلٌ منهما مانع من اتباعه، قال تعالى تهديداً لهم وردّاً لبهتانهم { سَيَعْلَمُونَ غَدًا مَنْ الْكَذَّابُ الأَشِرُ } أي سيعلمون في الآخرة من هو الكذَّاب الأشر، هل هو صالح عليه السلام أم قومه المكذبون المجرمون؟ قال الألوسي : المراد سيعلمون أنهم هم الكذابون الأشرون، لكنْ أورد ذلك مورد الإِبهام إِيماءً إِلى أنه مما لا يكاد يخفى { إِنَّا مُرْسِلُو النَّاقَةِ فِتْنَةً لَهُمْ } أي مخرجوا الناقة من الصخرة الصماء محنة لهم واختباراً كما شاءوا وطلبوا، قال ابن كثير : أخرج الله لهم ناقة عظيمة عشراء، من صخرة صماء طبق ما سألوا، لتكون حجة الله عليهم في تصديق صالح عليه السلام فيما جاءهم به { فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ } أي فانتظرهم وتبصَّر ما يصنعون وما يُصنع بهم، واصبر على أذاهم فإِن الله ناصرك عليهم { وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْمَاءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ } أي وأعلِمْهم أنَّ الماء الذي يمرُّ بواديهم مقسومٌ بين ثمود وبين الناقة كقوله تعالى {لها شربٌ ولكم شربُ يوم معلوم} قال ابن عباس : إِذا كان يوم شربهم لا تشرب الناقةُ شيئاً من الماء وتسقيهم لبناً وكانوا في نعيم، وإِذا كان يوم الناقة شربت الماء كله فلم تُبق لهم شيئاً، وإِنما قال تعالى { بَيْنَهُمْ } تغليباً للعقلاء { كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ } أي كل نصيب وحصة من الماء يحضرها من كانت نوبته، فإِذا كان يوم الناقة حضرت شربها، وإِذا كان يومهم حضروا شربهم { فَنَادَوْا صَاحِبَهُمْ فَتَعَاطَى فَعَقَرَ } أي فنادت قبيلة ثمود أشقى القوم واسمه "قدار بن سالف" لقتل الناقة فتناول الناقة بسيفه فقتلها غير مكترث بالأمر العظيم { فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ } أي فكيف كان عقابي وإِنذاري لهم؟ ألم يكن فظيعاً شديداً؟! { إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً وَاحِدَةً } أي أهلكناهم بصيحة واحدة صاح بها جبريل عليه السلام فلم تبق منهم عين تطْرف { فَكَانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ } أي فصاروا هشيماً متفتتاً كيابس الشجر إِذا بلي وتحطَّم وداسته الأقدام، قال الإِمام الجلال : المحتظر هو الذي يجعل لغنمه حظيرةً من يابس الشجر والشوك يحفظهن فيها من الذئاب والسباع، وما سقط من ذلك فداسته فهو الهشيم { وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ }أي يسرناه للحفظ والاتعاظ فهل من معتبر؟

قصة قوم لوط عليه السلام

{ كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ(33)إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَاصِبًا إِلا آلَ لُوطٍ نَجَّيْنَاهُمْ بِسَحَرٍ(34)نِعْمَةً مِنْ عِنْدِنَا كَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ(35)وَلَقَدْ أَنذَرَهُمْ بَطْشَتَنَا فَتَمَارَوْا بِالنُّذُرِ(36)وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ(37)وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً عَذَابٌ مُسْتَقِرٌّ(38)فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ(39)وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ(40)}.

{ كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ } أي كذبوا بالإِنذارات التي أنذرهم بها نبيهم لوط عليه السلام { إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَاصِبًا } أي أرسلنا عليهم حجارة قذفوا بها من السماء، قال ابن كثير : أمر تعالى جبريل فحمل مدائنهم حتى وصل بها إِلى عنان السماء، ثم قلبها عليهم وأرسلها واُتبعت بحجارةٍ من سجيلٍ منضود، والحاصب هي الحجارة { إِلا آلَ لُوطٍ } أي غير لوطٍ وأتباعه المؤمنين { نَجَّيْنَاهُمْ بِسَحَرٍ } أي نجيناهم من الهلاك قُبيل الصبح وقت السِّحر { نِعْمَةً مِنْ عِنْدِنَا } أي إِنعاماً منَّا عليهم نجيناهم من العذاب { كَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ } أي مثل ذلك الجزاء الكريم، نجزي من شكر نعمتنا بالإِيمان والطاعة { وَلَقَدْ أَنذَرَهُمْ بَطْشَتَنَا } أي ولقد خوفهم لوط عقوبتنا الشديدة، وانتقامنا منهم بالعذاب { فَتَمَارَوْا بِالنُّذُرِ } أي فتشككوا وكذبوا بالإِنذار والوعيد { وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ } أي طلبوا منه أن يسلّم لهم أضيافه وهم الملائكة ليفجروا بهم بطريق اللواطة { فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ } أي أعمينا أعينهم وأزلنا أثرها حتى فقدوا أبصارهم، قال المفسرون : لما جاءت الملائكة إِلى لوط في صورة شبابٍ مردٍ حسان، استضافهم لوط عليه السلام، فجاء قومه يُهرعون إِليه لقصد الفاحشة بهم، فأغلق لوط دونهم الباب، فجعلوا يحاولون كسر الباب، فخرج عليهم جبريل فضرب أعينهم بطرف جناحه فانطمست أعينهم وعموا { فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ } أي فذوقوا عذابي وإِنذاري الذي أنذركم به لوط { وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً عَذَابٌ مُسْتَقِرٌّ } أي جاءهم وقت الصبح عذابٌ دائم متصل بعذاب الآخرة، قال الصاوي : وذلك أن جبريل قلع بلادهم فرفعها ثم قلبها بهم وأمطر عليهم حجارة من سجيل، واتصل عذاب الدنيا بعذاب الآخرة فلا يزول عنهم حتى يصلوا إِلى النار { فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ } أي فذوقوا أيها المجرمون عذابي الأليم، وإِنذاري لكم على لسان رسولي { وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ } أي ولقد يسرنا القرآن للحفظ والتدبر فهل من متعظٍ ومعتبر؟ قال المفسرون : حكمة تكرار ذلك في كل قصة، التنبيهُ على الاتعاظ والتدبر في أنباء الغابرين، وللإِشارة إِلى أن تكذيب كل رسولٍ مقتضٍ لنزول العذاب كما كرر قوله { فبأي آلاء ربكما تكذبان } تقريراً للنعم المختلفة المعدودة، فكلما ذكر نعمةً وبَّخ على التكذيب بها.

قصة آل فرعون

{ وَلَقَدْ جَاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ(41)كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كُلِّهَا فَأَخَذْنَاهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ(42)}

{ وَلَقَدْ جَاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ } أي جاء فرعون وقومه الإِنذارات المتكررة فلم يعتبروا، قال أبو السعود : صُدّرت قصتهم بالقسم المؤكد لإِبراز كمال الاعتناء بشأنها، لغاية عظم ما فيها من الآيات وكثرتها، وهول ما لاقوه من العذاب، وفرعون رأس الطغيان { كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كُلِّهَا } أي كذَّبوا بالمعجزات التسع التي أعطيها موسى { فَأَخَذْنَاهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ } أي فانتقمنا منهم بإِغراقهم في البحر، وأخذناهم بالعذاب أخذ إِلهٍ غالب في انتقامه، قادرٍ على إِهلاكهم لا يعجزه شيء.

تخويف الله كفار مكة، وجزاء المجرمين والمتقين

{ أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُوْلَئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَرَاءةٌ فِي الزُّبُرِ(43)أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ(44)سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ(45)بَلْ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ(46)إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ(47)يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ(48)إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ(49)وَمَا أَمْرُنَا إِلا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ(50)وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا أَشْيَاعَكُمْ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ(51)وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ(52)وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ(53)إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ(54)فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ(55)} .

سبب النزول:

نزول الآية (45):

{ سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ ..}: أخرج ابن جرير عن ابن عباس قال: قالوا يوم بدر: { نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ }، فنزلت: { سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ }.

نزول الآية (47):

{ إِنَّ الْمُجْرِمِينَ ..}: أخرج مسلم والترمذي عن أبي هريرة قال: جاء مشركو قريش يخاصمون رسول الله صلى الله عليه وسلم في القدَر، فأنزل الله تعالى: { إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ } إلى قوله: { إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ }.

ثم خوَّف تعالى كفار مكة فقال { أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُوْلَئِكُمْ }؟ الاستفهام إِنكاري للتقريع والتوبيخ أي أكفاركم يا معشر العرب خيرٌ من أولئكم الكفار الذين أحللت بهم نقمتي مثل قوم نوح، وعاد، وثمود، وقوم لوط، وقوم فرعون، حتَّى لا أعذبهم؟ قال القرطبي : استفهام إِنكار ومعناه النفي أي ليس كفاركم خيراً من كفار من تقدم من الأمم الذين أهلكوا بكفرهم { أَمْ لَكُمْ بَرَاءةٌ فِي الزُّبُرِ } أي أم لكم يا كفار قريش براءة من العذاب في الكتب السماوية المنزلة على الأنبياء؟ { أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ } أي بل أيقولون نحن جمعٌ كثير، واثقون بكثرتنا وقوتنا، منتصرون على محمد؟ قال تعالى رداً عليهم { سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ } أي سيهزم جمع المشركين ويولون الأدبار منهزمين، قال ابن الجوزي : وهذا مما أخبر الله به نبيه من علم الغيب، فكانت الهزيمةُ يوم بدر { بَلْ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ } أي ليس هذا تمام عقابهم بل القيامة موعد عذابهم { وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ } أي أعظم داهيةً وأشدُّ مرارةً من القتل والأسر { إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ } أي إِن المجرمين في حيرةٍ وتخبطٍ في الدنيا، وفي نيرانٍ مسعَّرة في الآخرة، قال ابن عباس : في خسران وجنون { يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ } أي يوم يُجرُّون في النار على وجوههم عقاباً وإِذلالاً لهم { ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ } أي يقال لهم: ذوقوا أيها المكذبون عذاب جهنم، قال أبو السعود : وسقر علمٌ لجهنم ولذلك لم يُصرف { إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ } أي إنا خلقنا كل شيءٍ مقدَّراً مكتوباً في اللوح المحفوظ من الأزل { وَمَا أَمْرُنَا إِلا وَاحِدَةٌ كلَمْحٍ بِالْبَصَرِ } أي وما شأننا في الخلق والإِيجاد إِلا مرة واحدة كلمح البصر في السرعة نقول للشيء: كن فيكون، قال ابن كثير : أي إِنما نأمر بالشيء مرة واحدة لا نحتاج إِلى تأكيد بثانية، فيكون ذلك موجوداً كلمح البصر لا يتأخر طرفة عين { وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا أَشيَاعَكُمْ } أي ووالله لقد أهلكنا أشباهكم ونظراءكم في الكفر والضلال من الأمم السالفة { فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ } أي فهل من يتذكر ويتعظ؟ { وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ } أي وجميع ما فعلته الامم المكذبة من خير وشر مكتوب عليهم، مسجل في كتب الحفظة التي بأيدي الملائكة، قال ابن زيد: { في الزُّبر } أي في دواوين الحفظة { وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ } أي وكل صغيرٍ وكبير من الأعمال مسطورٌ في اللوح المحفوظ، مثبتٌ فيه { إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ } أي في جنات وأنهار، قال القرطبي : يعني أنهار الماء، والخمر، والعسل، واللبن { فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ } أي في مكان مرضيٍ، ومقام حسن { عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ } أي عند ربٍ عظيم جليل، قادرٍ في ملكه وسلطانه، لا يعجزه شيء، وهو الله رب العالمين.

Free Web Hosting