معاوية بن أبي سفيان

ترجمته :

هو معاوية بن أبي سفيان بن صخر بن حرب بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف « ولد بمكة قبل الهجرة بخمس عشرة سنة وفي يوم الفتح كان سنه 23سنة وفي ذلك اليوم دخل في الإسلام مع من أسلم من مسلمة الفتح وكان بعد إسلامه يكتب بين يدي رسول اللَّه r ، وفي خلافة أبي بكر ولاه قيادة جيش مدداً لأخيه يزيد بن أبي سفيان وأمره أن يلحق به فكان غازياً تحت إمرة أخيه وكان على مقدمته في فتح مدن صيدا وعرقه وجبيل وبيروت وهي سواحل دمشق ثم ولاه عمر ولاية الأردن « ولما توفي يزيد في طاعون عمواس ولاه عمر بن الخطاب عمل يزيد على دمشق وما معها « وفي عهد عثمان جمع لمعاوية الشام كلها فكان ولاة أمصارها تحت إمره، وما زال والياً حتى استشهد عثمان بن عفان وبويع علي بالمدينة فرأى أن لا يبايعه لأنه اتهمه بالهوادة في أمر عثمان وإيواء قتلته في جيشه وبايعه أهل الشام على المطالبة بدم عثمان وكان وراء ذلك أن حاربه علي بن أبي طالب في صفين وانتهت الموقعة بينهم بالتحكيم فلما اجتمع الحكمان واتفقا على خلع علي ومعاوية من الخلافة وأن يكون أمر المسلمين شوري ينتخبون لهم من يصلح لإمامتهم بايع أهل الشام معاوية بالخلافة فصار معاوية إمام أهل الشام وعلي إمام أهل العراق وما زال الخلاف محتدماً بينهما حتى قتل علي بن أبي طالب وسلم ابنه الحسن بن علي الخلافة إلى معاوية، وحينئذ اجتمع على بيعة معاوية أهل العراق والشام وسمي ذلك العام الحادي والأربعون من الهجرة عام الجماعة لاتفاق كلمة المسلمين بعد الفرقة وبذلك يكون ابتداء خلافة معاوية الخلافة العامة في ربيع الأول سنة 41.

طريقة انتخاب معاوية :

لم ينتخب معاوية للخلافة انتخاباً عاماً يعني من جميع أهل الحل والعقد من المسلمين وإنما انتخبه أهل الشام للخلافة بعد صدور حكم الحكمين، ولا يعتبره التاريخ بذلك خليفة، فلما قتل علي بن أبي طالب وبايع جند العراق ابنه الحسن رأى من مصلحة المسلمين أن يبايع معاوية ويسلم الأمر إليه، فبايعه في ربيع الأول سنة 41 فبيعته اختيار من أهل الشام وبطريق الغلبة والقهر من أهل العراق، إلا أنها انتهت في الآخر بالرضا عن معاوية والتسليم له في جميع الأمة ما عدا الخوارج.

حالة الأمة عند استلام معاوية الأمر:

تولى معاوية أمر الأمة، وهي أقسام ثلاثة:

القسم الأول: شيعة بني أمية من أهل الشام ومن غيرهم في سائر الأمصار الإسلامية.

القسم الثاني: شيعة علي بن أبي طالب وهم الذين كانوا يحبونه ويرون أنه أحق بالأمر من معاوية وغيره وأن أعاقبه أحق بولاية أمر المسلمين من غيرهم ومعظمهم هؤلاء كان ببلاد العراق وقليل منهم بمصر.

القسم الثالث: الخوارج وهم أعداء الفريقين يستحلون دماء مخالفتهم ويرونهم مارقين من الدين، وهم أشداء الشكيمة متفانون فيما يعتقدون، يرون أن أول واجب عليهم قتال معاوية ومن تبعه وقتال شيعة علي لأن كلا قد ألحد على زعمهم في الدين ومع ما بينهم من هذا التباين كانت أمة متمتعة بصفة الشجاعة والإقدام، ومثل هذه الأمة تحتاج لسياسة حكيمة في إدارة شؤونها وإفاضة ثوب من الأمن عليها، أما معاوية نفسه فلم يكن أحد أوفر منه يداً في السياسة، صانع رؤس العرب وقروم ومضر بالأعضاء والاحتمال والصبر على الأذى والمكروه، وكانت غايته في الحلم لا تدرك وعصابته فيه لا تنزع ومرقاته فيه نزل عنها الأقدام.

كان الذي يهم معاوية ويقلقه أمر الخوارج لأنهم قوم قلما ينفع معهم حسن السياسة لأنهم قوم غلو في الدين غلواً عظيماً وفهموا كثيراً منه على غير وجهه، ففرقوا كلمة الأمة ورأوا من واجبهم استعراض الأنفس وأخذ الأموال. ولنبدأ بذكر أخبارهم لبيان تفاصيل أحوالهم.
الخوارج :

لما بويع معاوية بالكوفة كان فروة بن نوفل الأشجعي معتزلاً في 500 من الخوارج فرأوا أن الوقت قد حان لتجريد السيف فأقبلوا حتى نزلوا النخيلة فأرسل إليهم معاوية جمعاً من أهل الشام فانهزم أهل الشام أمامهم، فقال معاوية لأهل الكوفة واللَّه لا أمان لكم عندي حتى تكفونهم، فخرج إليهم أهل الكوفة فقال لهم الخوارج أليس معاوية عدونا وعدوكم دعونا حتى نقاتله فإن أصبناه كنا قد كفيناكم عدوكم، وإن أصابنا كنتم قد كفيتمونا فقالوا لا بد لنا من قتالكم فأخذت أشجع صاحبهم فروة قهراً وأدخلوه الكوفة، فولى الخوارج عليهم عبد اللَّه بن أبي الحوساء الطائي فقاتلهم أهل الكوفة فقتلوهم، وكان ابن أبي الحوساء قد خوف بالصلب فقال:

ماذا فعلتم بأوصال وأبشار

ما إن أبالي إذا أرواحنا قبضت

والشمس والقمر الساري بمقدار

تجري المجرة والنسران عن قدر

أن السعيد الذي ينجو من النار

وقد علمت وخير القول أنفعه

فلما قتل ابن الحوساء ولي الخوارج أمرهم حوثرة الأسدي فسار حتى قدم النخيلة في 150 وانضم إليه فل ابن الحوساء وهم قليل فقال معاوية لأبي حوثرة اكفني أمر ابنك فسار إليه أبوه فدعاه إلى الرجوع فأبى فأداره.

تولية زياد بن سمية والمغيرة بن شعبة بلاد العراق :

ثم توالت الخوارج حتى أخافوا بلاد العراق فرأى معاوية أنه لا بد من تولية العراق رجالاً ذوي قدرة وحكمة يأخذون على أيدي السفهاء ويشتدون في طلب المريب فاختار رجلين كلاهما قد عرف بالسياسة وحسن الرأي وهما زياد بن سمية والمغيرة بن شعبة.

فأما زياد فقد كان من شيعة علي وكان والياً على فارس وقُتل علي وهو بها فذكر معاوية اعتصامه بفارس وأمهم ذلك فجعل المغيرة وسيطاً استقدامه فأتى المغيرة زياداً وقال له إن معاوية استخفه الوجل حتى بعثني إليك ولم يكن أحد يمد يده إلى هذا الأمر غير الحسن وقد بايع فخذ لنفسك قبل التوطين فيستغين عنك معاوية فقال زياد أشر علي وأرم الغرض الأقصى فإن المستشار مؤتمن فقال له المغيرة أرى أن تصل حبلك بحبله وتشخص إليه.

وكتب إليه معاوية بأمانة بعد عودة المغيرة فخرج زياد من فارس حتى أتى معاوية فسأله عن أموال فارس فأخبره بما أنفق منها وبما حمل إلى علي وبما بقي عنده، فصدقه معاوية وقبض منه ما بقي عنده.

توليته البصرة وخراسان وسجستان :

وفي السنة الخامسة والأربعين ولاه معاوية البصرة وخراسان وسجستان فقدم البصرة آخر شهر ربيع الأول سنة 45 والفسق ظاهر فاش فيها فخطبهم خطبته الشهيرة بالبتراء، وإنما قيل لها ذلك لأنه لم يحمد اللَّه فيها. ولما في هذه الخطبة من روائع الكلم وبديع الحكم، وبيان سياسته في حكم البلاد، أحببنا إيرادها أولها قال:

أما بعد فإن الجهالة الجهلاء والضلالة العمياء والغي الموفى بأهله على النار ما فيه سفهاؤكم ويشتمل عليه حلماؤكم من الأمور والعظام ينبت فيها الصغير ولا يتحاشى عنها الكبير كأنكم لم تقرءوا كتاب اللَّه ولم تسمعوا ما أعده من الثواب الكريم لأهل طاعته والعذاب الأليم لأهل معصيته في الزمن السرمدي الذي لا يزول. أتكونون كم طرفت عينيه في الدنيا وسدت مسامعه الشهوات واختار الفانية على الباقية ولا تظنون أنكم أحدثتم في الإسلام الحدث الذي لم تسبقوا إليه من ترككم الضعيف يقهر ويؤخذ ماله؛ ما هذه المواخير المنصوبة الضعيفة المسلوبة في النهار المبصر والعدد غير قليل؟

وكان زياد أول من شدد أمر السلطان وأكد الملك لمعاوية وجرد سيفه وأخذ بالظنة وعاقب على الشبهة وخافه الناس خوفاً شديداً حتى أمن بعضهم بعضاً وحتى كان الشيء يسقط من يد الرجل أو المرأة فلا يعرض له أحد حتى يأتيه صاحبه فيأخذه. ولا يغلق عن أحد بابه وأدر العطاء وبني مدينة الرزق وجعل الشرط أربعة آلاف.

معاملة زياد مع الخوارج :

قال أبو العباس المبرد في صفة زياد ومعاملته للخوارج كان يقتل المعلن ويستصلح المسر ولا يجرد السيف حتى تزول التهمة.

وبلغ زياداً عن رجل يكنى أبا الخير من أهل البأس والنجدة أنه يرى رأي الخوارج فدعاه فولاه جند نيسابور وما يليها ورزقه أربعة آلاف درهم كل شهر وجعل عمالته في كل سنة مائة ألف، فكان أبو الخير يقول ما رأيت شيئاً خيراً من لزوم الطاعة والتقلب بين أظهر الجماعة لم يزل والياً حتى أنكر منه زياد شيئاً فتنمر لزياد فحبسه فلم يخرج من حبسه حتى مات.

تولية زياد الكوفة :

وفي سنة 50 أضاف معاوية إلى زياد ولاية الكوفة بعد موت المغيرة بن شعبة فصار والي المصرين وهو أول من جمعا له فسار إلى الكوفة فلما وصلها خطب أهلها.

وفا ة زياد:

توفي زياد في سنة 53 بالطاعون.

والمطلع على الطريقة التي حكم بها زياد بلاد العراق يراها بمثابة إعلان حكم عرفي فإن أخذ الولي بالمولي والمقيم بالظاعن والمقبل بالمدبر والمطيع بالعاصي والصحيح في جسمه بالسقيم أمر ليس جارياً على القانون الشرعي الذي يقصر المسئولية على المجرم وإنما ذلك شيء يلجأ إليه الإداريون لتخفيف آلاف الجرائم وإرهاب الناس حتى يأمن الناس شرهم وفائدة ذلك في الغالب وقتيبة. ومن ذلك وضعه العقوبات التي شرعها للجرائم المحدثة كما قال من نقب عن بيت نقيب عن قلبه ومن نبش قبراً دفنته فيه حياً.

والتاريخ إنما يعطي الإنسان صفة السياسة والحكمة إذا تمكن من إصلاح الفاسد بقليل من العسف لا نقول ذلك هضماً لحق زياد لأنه يعتبر أقل ولاة العراق إسرافاً في الدماء، ولقد بذل من وعده ما يقول بوعيده فقال إنه لا يحتجب عن طالب حاجة وإن أتاه طارقاً بليل ولا يحبس عطاء ولا رزقاً عن إبانه ولا يجمر لهم بعثاً، وهذه الأشياء الثلاثة متى وفرها الوالي وصدقها لا تجد سبباً للثورات ولا الفتن، ولذلك يقول بعض المؤرخين إن زياداً لم يحتج لتنفيذ ما أوعد به من العقوبات إلا قليلاً لأن علمهم بصدقه في الإيعاد أخافهم وأرهبهم وصيرهم يقفون عند الحد المشروع لهم.

وعلى الجملة، فإن عهد زياد بالعراق على ما فيه من قسوة كان عهد رفاهة وأمن، وهذا مما يسطره التاريخ لعرب العراق آسفاً، وذلك أنهم قوم لا يصلحهم إلا الشدة، وإذا وليهم وال فيه لين ورحمة فسدوا وارتكبوا المصاعب وأجرموا إلى الأمراء أو الخلفاء من غير بينة واضحة.

حال المغيرة بن شعبة مع الخوارج :

أما المغيرة بن شعبة فكانت سياسته أرفق وألين. أحب العافية وأحسن في الناس السيرة ولم يفش أهل الأهواء عن أهوائهم وكان يؤتي فيقال إن فلاناً يرى رأي الشيعة وإن فلاناً يرى رأي الخوارج، فكان يقول قضى اللَّه أن لا يزالوا مختلفين وسيحكم اللَّه بين عبادهفيما كانوا فيه يختلفون فأمنه الناس وكانت الخوارج يلقي بعضهم بعضاً، ويتذاكرون مكان إخوانهم بالنهروان، ويرون أن في الإقامة الغبن والوكف وأن في الجهاد أهل القبلة الفضل والأجر.

وقد فزع الخوارج في عهده إلى ثلاثة نفر، منهم المستورد بن علفة التميمي، من تيم الرباب، وحيان بن ظبيان السلمي، ومعاد بن جوين بن حصين الطائي فولوا أمرهم بعد الشورى المستورد بن علفة لأنه كان أسن القوم واتعدوا أن يتجهزوا ويتيسروا ثم يخرجوا في غرة الهلال هلال شعبان سنة 43 فكانوا في جهازهم وعدتهم فجاء رئيس شرطة المغيرة إليه وأخبره أن القوم مجتمعون في منزل حيان بن ظبيان وأنهم اتعدوا الخروج في هلال شعبان فأمره المغيرة أن يسير بالشرطة ويحيط بدار حيان ويأتيه بهم فسار رئيس الشرطة وأحاط بدار حيان وقبض على المجتمعين هناك.

فقال لهم المغيرة ما حملكم على ما أردتم من شق عصا المسلمين فقالوا ما أردنا من ذلك شيئاً ومن الغريب أنهم يكذبون مع أن الخوارج تبورأ من الكاذب. قال المغيرة بلى قد بلغني ذلك عنكم قد صدق ذلك عندي جماعتكم.

قالوا له أما اجتماعنا في هذا المنزل فإن حيان بن ظبيان أقرؤنا للقرآن فنحن نجتمع عنده في منزله فنقرأ القرآن عليه فأمر بهم إلى السجن فلم يزالوا فيه نحواً من سنة وسمع إخوانهم بأخذهم فحذروا وخرج المستورد وأصحابه فبلغ الخبر المغيرة أن الخوارج خارجة عليه في أيامه تلك وأنهم قد اجتمعوا على رجل فقام في أهل الكوفة خطيباً فقال:

أما بعد فقد علمتم أيها الناس أني لم أزل أحب لجماعتكم العافية وأكف عنكم الأذى وإني واللَّه لقد خشيت أن يكون أدب سوء لسفهائكم فأما الحلماء الأتقياء فلا وايم اللَّه لقد خشي أن لا أجد بداً من أن يعصب الحليم التقي بذنب السفيه الجاهل فكفوا أيها الناس سفهاءكم قبل أن يشمل البلاء عوامكم وقد ذكر لي أن رجالاً منكم يريدون أن يظهروا في المصر بالشقاق والخلاف وايم اللَّه لا يخرجون في حي من أحياء العرب في هذا المصر إلا أبدتهم وجعلتهم نكالاً لمن بعدهم فنظر قوم لأنفسهم قبل الندم فقد قمت هذا المقام إرادة الحجة والإعذار.

فقام إليه معقل بن قيس الرياحي فقال أيها الأمير هل سمى لك أحد من هؤلاء القوم فإن كانوا سموا لك فأعلمنا من هم فإن كانوا منا كفياكهم وإن كانوا من غيرنا أمرت أهل الطاعة من أهل مصرنا فأتتك كل قبيلة بسفهائها فقال ما سمي لي أحد منهم ولكن قد قيل لي إن جماعة يريدون أن يخرجوا بالمصر، فقال معقل أصلحك اللَّه، فإني أسير في قومي وأكفيك ما هم فيه فليكفك كل امرىء من الرؤساء قومه. فنزل المغيرة وأرسل إلى الرؤساء وقال لهم لكيفيني كل امرىء من الرؤساء قومه وإلا فوالذي لا إله غيره لأتحولن عما كنت تعرفون إلى ما تنكرون وعما تحبون إلى ما تكرهون فلا يلم لائم إلا نفسه وقد أعذر من أنذر فخرجت الرؤساء إلى عشائرهم فناشدوهم اللَّه والإسلام إلا دلوهم على من يرون أنه يهيج فتنة أو يفارق جماعة.

ولاية عبيد اللَّه بن زياد البصرة:

من ولاة العراق الأشداء عبيد اللَّه بن زياد ولاه معاوية البصرة سنة 55 وقد اشتد على الخوارج شدة لم يفعلها أبوه زياد فقتل منهم سنة 58 جماعة كثيرة صبراً وفي الحرب جماعة أخرى. وممن قتل صبراً عروة بن أدية، أخو أبي بلال مرداس بن أدية.

ولم يزل عبيد اللَّه على البصرة حتى توفي معاوية.

مصر:

وفي مصر كان الوالي عمرو بن العاص فاتحها وأعرف الناس بها ولم يزل والياً عليها حتى مات سنة 43 فولي بدله ابنه، ثم عزله بعد ذلك وولي غيره.

الحجاز :

أما الحجاز فكان ولائه ولاء دائماً من بني أمية وكانت ولاية المدينة بين مروان بن الحكم وسعيد بن العاص يتداولانها وكان معاوية إذا أراد أن يولي رجلاً من بني حرب ولاه الطائف فإن رأى منه خيراً وما يعجبه ولاه مكة معها فإن أحسن الولاية وقام بما ولي قياماً حسناً جمع له معهما المدينة، فكان إذا ولي الطائف رجلاً قيل هو في أبي جاد، فإذا ولاه مكة قيل هو في القرآن، فإذا ولاه المدينة قيل هو قد حذق، وكان ولاة المدينة في الغالب هم الذين يقيمون للناس الحج فإن معاوية لم يحج بنفسه إلا مرتين سنة 44 وسنة 50 وفيما عداهما كان يقيمه هؤلاء الولاة وكلهم من بني أمية.

الفتوح في عهد معاوية:

لم يكن في الشرق على حدود بلاد الفرس إلا فتوح قليلة والذي كان إنما هو إرجاع الناكثين من أهل تلك البلاد إلى الطاعة وغزا عبد اللَّه بن سوار العبدي الذي كان أميراً على ثغر السند القيقان مرتين وفي المرة الثانية استعان القيقان بالترك فقتلوه وغزا المهلب بن أبي صفرة الأزدي ثغر السند فأتى بتة ولاهور وهما بين الملتان وكابل فلقيه العدو وقاتله ولقي المهلب ببلاد القيقان ثمانية عشر فارساً من الترك فقاتلوه فقتلوا جميعاً فقال المهلب ما جعل هؤلاء الأعاجم أولى بالتشمير منا فحذف الخيل وكان أول من حذفها من المسلمين.

وكانت همة المسلمين موجهة نحو الشمال والغرب حيث مملكة الروم. كان على عهد معاوية من ملوك الروم ملكان أحدهما قسطنطين الثاني ابن هرقل الثاني الذي ولي الملك من سنة 641 م إلى سنة 668 م، وقسطنطين الرابع بوغاناتس الذي ولي من سنة 668 م إلى سنة 685 م ودولة الروم لم تزل فيها الحياة تغير على البلاد الإسلامية لما بينهما من الجوار.

فرتب معاوية الغزو إليها براً وبحراً أما البحر فكانت الأساطيل في زمنه كثيرة لاهتمامه بأمرها وساعده على ذلك كثرة الغابات بجبال لبنان حتى بلغت أساطيله 1700 ألفاً وسبعمائة سفينة كاملة العدد والعدد وصار يسيرها في البحر فترجع غانمة وافتتح بها عدة جهات منها جزيرة قبرص وبعض جزائر اليونان وجزيرة رودس افتتحها جنادة بن أبي أمية الأزدي ونزلها المسلمون وهم على حذر من الروم وكانوا أشد شيء على الروم يعترضونهم في البحر ويأخذون سفنهم وكان معاوية يكثر لهم العطاء وكان العدو قد خافهم.
محاولة فتح القسطنطينية:

وأما في البر فرتب الشواتي _ جمع شاتية وهي الجيش الذي يغزو في الشتاء _ والصوائف _ جمع صائفة وهي الجيش الذي يغزو في الصيف _ فكانت الغزوات متتابعة والثغور محفوظة من العدو. وفي سنة 48 جهز معاوية جيشاً عظيماً لفتح القسطنطينية براً وبحراً وكان على الجيش سفيان بن عوف وأمر ابنه يزيد أن يغزو معهم وكان في هذا الجيش ابن عباس وابن عمر وابن الزبير وأبو أيوب الأنصاري وغيرهم وعبد العزيز بن زرارة الكلابي فساروا حتى بلغوا القسطنطينية فاقتتل المسلمون والروم في بعض الأيام واشتدت الحرب بينهم فلم يزل عبد العزيز يتعرض للشهادة فلم يقتل.

ثم حمل على من يليه فقتل فيهم وانغمس بينهم فشجره الروم برماحهم حتى قتلوه فبلغ خبر قتله معاوية فقال لأبيه واللَّه هلك فتى العرب فقال ابني أو ابنك قال ابنك فآجرك اللَّه.

ولم يتمكن هذا الجيش من فتح القسطنطينية لمتانة أسوارها ومنعة موقعها وفتك النار الإغريقية بسفنهم، وفي أثناء الحصار توفي أبو أيوب الأنصاري خالد بن زيد وهو الذي نزل عليه رسول اللَّه r بالمدينة حينما هاجر وقد دفن خارج المدينة قريباً من سور القسطنطينية ولا يزال قبره بها يزار للآن وعليه مسجد مشيد يتوج فيه خلفاء آل عثمان ثم اضطر المسلمون للعودة إلى الشام بعد أن فقدوا كثيراً من جنودهم ومراكبهم.
فتوح إفريقية:

ومن الفتوح العظيمة ما كان في إفريقية ففي سنة 50 ولي معاوية عقبة بن نافع وكان مقيماً ببرقة وزويلة مذ فتحها أيام عمرو بن العاص وله في تلك البلاد جهاد وفتوح، فلما استعمله معاوية سير إليه عشرة آلاف فدخل إفريقية وانضاف من أسلم من البربر فكثر جمعه ووضع السيف في أهل البلاد لأنهم كانوا إذا دخل عليهم أمير أطاعوا وأظهر بعضهم الإسلام فإذا عاد الأمير عنهم نكثوا وارتد من أسلم ثم رأى أن يتخذ مدينة يكون بها عسكر المسلمين وأهلهم وأموالهم ليأمنوا من ثورة تكون من أهل البلاد فقصد موضع القيروان وكان دجلة مشتبكة فقطع الأشجار وأمر ببناء المدينة فبنيت وبنى المسجد الجامع وبنى الناس مساجدهم ومساكنهم وكان دورها 3600 باع وتم أمرها سنة 55 وسكنها الناس وكان في أثناء عمارة المدينة يغزو ويرسل السرايا فتغير ودخل كثير من البربر في الإسلام واتسعت خطة المسلمين وقوي جنان من هناك من الجنود بمدينة القيروان وأمنوا واطمأنوا على المقام فثبت الإسلام فيها.
البيعة ليزيد بولاية العهد:

فكر معاوية أن يأخذ على الناس البيعة ليزيد ابنه بولاية العهد وكان الواضع لهذه الفكرة المغيرة بن شعبة قبل وفاته، دخل على يزيد وقال له قد ذهب أعيان أصحاب رسول اللَّه r وكبراء قريش وذوو أسنانهم وإنما بقي أباؤهم وأفضلهم وأحسنهم رأياً وأعلمهم بالسنة والسياسة، ولا أدري ما يمنع أمير المؤمنين أن يعقد لك البيعة. قال أو ترى ذلك يتم؟ قال نعم. فأخبر يزيد أباه بما قال المغيرة فأحضره معاوية وسأله عما قال ليزيد، فقال قد رأيت ما كان من سفك الدماء والاختلاف بعد عثمان وفي يزيد منك خلف فاعقد له فإن حدث بك حادث كان كهفاً للناس وخلفاً منك ولا تسفك دماء ولا تكون فتنة. قال ومن لي بذلك قال أكفيك أهل الكوفة، ويكفيك زياد أهل البصرة، وليس بعد هذين المصرين أحد يخالفك. قال فارجع إلى عملك وتحدث مع من تثق به في ذلك؟ وترى ونرى.

فسار المغيرة إلى الكوفة وذاكر من يثق به ومن يعلم أنه شيعة لبني أمية، أمر يزيد، فأجابوا إلى بيعته فأوفد منهم وفداً عليهم ابنه موسى فقدموا على معاوية فزينوا له بيعة يزيد فقال معاوية لا تعجلوا بإظهار هذا وكونوا على رأيكم. فرجعوا وقوي عزم معاوية على البيعة ليزيد، فأرسل إلى زياد يستشيره فأحضر زياد عبيد بن كعب النميري وقال إن لكل مستشير ثقة ولكل سر مستودعاً. وإن الناس قد أبدع بهم خصلتان إذاعة السر وإخراج النصيحة إلى غير أهلها وليس موضوع السر إلا أحد رجلين رجل آخرة يرجو ثوابها ورجل دنيا له شرف في نفسه وعقل يصون حبسه قد خبرتهما عنك وقد دعوتك لأمر اتهمت عليه بطون الصف، إن أمير المؤمنين كتب إلي يستشيرني في البيعة ليزيد، إنه يتخوف نفرة الناس ويرجو طاعتهم وعلاقة أمر الإسلام وضمانه عظيم ويزيد صاحب رسلة وتهاون مع ما قد أولع به من الصيد فالق أمير المؤمنين وأد إليه فعلات يزيد وقل له رويدك بالأمر فأحرى لك أن يتم لكولا تعجل فإن دركا في تأخير من فوت في عجلة.

وكان معاوية قد كتب إلى عماله بتقريظ يزيد ووصفه، وأن يوفدوا إليه الوفود من الأمصار. فكان فيمن أتاه محمد بن عمرو بن حزم من المدينة والأحنف بن قيس في وفد أهل البصرة، فقال محمد بن عمرو لمعاوية إن كل راع مسؤول عن رعيته فانظر من تولى أمر أمة محمد.

ثم إن معاوية قال للضحاك بن قيس الفهري لما اجتمعت الوفود عنده إني متكلم فإذا سكت فكن أنت الذي تدعو إلى بيعة يزيد وتحثني عليها، فلما جلس معاوية للناس تكلم فعظم أمر الإسلام وحرمة الخلافة وحقها وما أمر اللَّه به من طاعة ولاة الأمر ثم ذكر يزيد وفضله وعلمه بالسياسة وعرض بيعته.

فقام الضحاك فحمد اللَّه وأثنى عليه ثم قال يا أمير المؤمنين إن لا بد للناس من وال بعدك وقد بلونا الجماعة والألفة فوجدناهما أحقن للدماء وأصح للدهماء وآمن للسبل وخيراً في العاقبة، والأيام عوج رواجع واللَّه كل يوم هو في شأن، ويزيد ابن أمير المؤمنين في حسن هديه وقصد سيرته أعلى ما علمت، وهو من أفضلنا علماً وحلماً وأبعدنا رأياً فوله عهدك واجعله لنا علماً بعدك ومفزعاً نلجأ إليه ونسكن في ظله، ثم تكلم غيره بمثل كلامه. فقال معاوية للأحنف بن قيس ما تقول يا أبا بحر؟ فقال نخافكم إن صدقنا ونخاف اللَّه إن كذبنا وأنت يا أمير المؤمنين أعلم بيزيد في ليله ونهاره وسره وعلانيته ومدخله ومخرجه فإن كنت تعلمه للَّه وللأمة رضا فلا تشاور فيه، وإن كنت تعلم فيه غير ذلك فلا تزوده الدنيا وأنت صائر إلى الآخرة، وإنما علينا أن نقول سمعنا وأطعنا.

ونقول إن فكر معاوية في اختيار الخليفة يعده حسن جميل وإنه ما دام لم توضع قاعدة لانتخاب الخلفاء ولم يعين أهل الحل والعقد الذين يرجع إليهم الاختيار فأحسن ما يفعل هو أن يختار الخليفة ولي عهده قبل أن يموت لأن ذلك يبعد الاختلاف الذي هو شر على الأمة من جور إمامها وقد فعل معاوية ما يظهر معه أنه لم يستبد بالأمر دون الأمة فطلب وفود الأنصار فحضروا عنده وأجابوه إلى طلبته من بيعة يزيد ابنه والذي ينقده التاريخ من أمره هو:

1.أنه استهان أولئك النفر _ هم: هم عبد اللَّه بن الزبير، وابن عمر، والحسين بن علي _ الذين لم يرضوا بيعة يزيدوهم من سادة الأمة الذين يتطلعون لولاية أمر المسلمين فلم يهم بخلافهم بل ادعى أنهم بايعوا لينال بيعته أهل مكة، وهذا غير لائق بمقام خليفة المسلمين.

2.مما انتقده الناس أنه اختار ابنه للخلافة، وبذلك سن في الإسلام سنة الملك المنحصر في أسرة معينة بعد أن كان أساسه الشورى ويختار من عامة قريش وقالوا إن هذه الطريقة التي سنها معاوية، تدعو في الغالب إلى انتخاب غير الأفضل الأليق من الأمة، وتجعل في أسرة الخلافة الترف والانغماس في الشهوات والملاذ والرفعة على سائر الناس، أما رأينا في ذلك فإن هذا الانحصار كان أمراً لا بد منه لصلاح أمر المسلمين وألفتهم ولم شعثهم فإنه كان كلما اتسعت الدائرة التي منها يختار الخليفة كثر الذين يرشحون أنفسهم لنيل الخلافة، وإذا انضم إلى ذلك اتساع المملكة الإسلامية وصعوبة المواصلات بين أطرافها وعدم وجود قوم معينين يرجع إليهم الانتخاب فإن الاختلاف لا بد واقع، إن أعظم من ينتقد معاوية في تولية ابنه هم الشيعة مع أنهم يرون انحصار ولاية الأمر في آل علي ويسوقون الخلافة في بنية يتركها الأب منهم للابن، وبنو العباس أنفسهم ساروا على هذه الخطة فجعلوا الخلافة حقاً من حقوق بيتهم لا يعدوهم إلى غيرهم. والنتيجة أن ما فعله معاوية كان أمراً لا بد منه مع الحال التي كانت عليها البلاد الإسلامية.
الإنجازات في عهد معاوية:

1ــ من المحدثات الجميلة التي حدثت في عهد معاوية البريد ومعنى ذلك أن تقسم الطرق منازل في كل منزل دواب مهيأة معدة لحمل كتب الخليفة إلى البلدان المختلفة، فتسلم الكتب بالحاضرة فيأخذها صاحب البريد ويمر مسرعاً حتى إذا وصل إلى أول منزلة سلمها لصاحب البريد فيها فيفعل بها كالأول وبذلك كانت تصل الكتب إلى الأمراء والعمال في أسرع وقت يمكن.

2ــ معاوية أول من اتخذ الحرس ولم يكن شيء من ذلك في عهد الخلفاء الراشدين وإنما اتخذه بعد أن كان من إرادة الخارجي قتله.

3ــ اتخذ معاوية ديوان الخاتم. وكان سبب ذلك أنه أمر لعمرو بن الزبير بمائة ألف درهم وكتب له بذلك إلى زياد. ففتح عمرو الكتاب وصير المائة مائتين فلما رفع زياد حسابه أنكرها معاوية وطلبها من عمرو وحبسه فقضاها عنه أخوه عبد اللَّه بن الزبير فأحدث معاوية عند ذلك ديوان الخاتم وحزم الكتب وكانت قبل لا تحزم.

4ــ كان كاتب معاوية سرجون الرومي لأن ديوان الشام كان لعهده بالرومية ويظهر أنه كاتب الخوارج، وكان سرجون صاحب أمره ومدبره ومشيره.

وكان حاجبه سعد مولاه.

وقاضيه فضالة بن عبيد الأنصاري ثم أبو إدريس الخولاني ومعنى ذلك أنه كان قاضي الشام وكان لكل ولاية قاض خاص.
وفاة معاوية :

مرض معاوية بدمشق في جمادي الثانية وكان يزيد ابنه غائباً، فأحضر معاوية الضحاك بن قيس ومسلم بن عقبة المري وأدى إليهما وصيته إلى يزيد وكان فيها: يا بني إني قد كفيتك الشد والترحال ووطأت لك الأمور وذللت لك الأعداء وأخضعت رقاب العرب وجمعت لك ما لم يجمعه أحد، فانظر أهل الحجاز فإنه أصلك وأكرم من قدم عليك منهم وتعاهد من غاب وانظر أهل العراق فإن سألوك أن تعزل عنهم كل يوم عاملاً فافعل فإن عزل عامل أسهل من أن يشهر عليك مائة ألف سيف، وانظر أهل الشام فليكونوا بطانتك وغيبتك فإن رابك من عدوك شيء فانتصر بهم فإذا أصبتهم فأردد أهل الشام إلى بلادك فإنهم إن قاموا بغير بلادهم تغيرت أخلاقهم. وإني لست أخاف أن ينازعك في هذا الأمر إلا أربعة من قريش الحسين بن علي وعبد اللَّه بن عمر وعبد اللَّه بن الزبير وعبد الرحمن بن أبي بكر.

فأما ابن عمر فإنه رجل قد وقدته العبادة فإذا لم يبق أحد غيره بايعك.

وأما الحسين بن علي فهو رجل خفيف ولن يتركه أهل العراق حتى يخرجوه فإن خرج وظفرت به فأصفح عنه فإن له رحماً ماسة وحقاً عظيماً وقرابة من محمد .

وأما ابن أبي بكر فإن رأى أصحابه صنعوا شيئاً صنع مثله ليس له همة إلا في النساء واللهو.

وأما الذي يجثم لك جثوم الأسد ويراوغك مراوغة الثعلب فذاك ابن الزبير فإن هو فعلها فظفرت به فقطعه إرباً أرباً، واحقن دماء قومك ما استطعت.

ثم مات بدمشق لهلال رجب سنة 60 هـ أبريل سنة 980 م. فخرج الضحاك بن قيس حتى صعد المنبر وأكفان معاوية على يديه فحمد اللَّه وأثنى عليه ثم قال إن معاوية كان عود العرب وحد العرب وجد العرب قطع اللَّه به الفتنة وملكه على العباد وفتح البلاد إلا أنه قد مات وهذه أكفانه ونحن مدرجوه فيها ومدخلوه قبره ومخلون بينه وبين عمله ثم هو الهرج إلى يوم القيامة، فمن كان يريد أن يشهده فعنده الأولى وصلى عليه الضحاك وكان قد أرسل الخبر إلى يزيد ثم أقبل يزيد وقد دفن معاوية فأتى قبره فصلى عليه.

يزيد الأول :

ترجمته:

هو يزيد بن أبي سفيان، وأمه ميسون بنت بحدل ولد سنة 26 هـ وأبوه أمير الشام لعثمان بن عفان فتربى في حجر الإمارة ولما شب في خلافة أبيه كان يرشحه للإمارة فولاه الحج مرتين وولاه الصائفة وأرسله في الجيش الذي غزا القسطنطينية لأول مرة وكان مغرماً بالصيد وهذا مما أخذه عليه الناس إذ ذاك لأنهم لم يكونوا فارقوا البداوة العربية والجد الإسلامي بعد.

كيفية انتخابه :

عهد إليه أبوه بالخلافة من بعده بعد أن استشار في ذلك وفود الأمصار فبايعه الناس ولم يتخلف عن البيعة إلا نفر قليل من أهل المدينة وهم الحسين بن علي وعبد اللَّه بن الزبير وعبد اللَّه بن عمر.

فلما توفي معاوية لم يكن ليزيد إلا مبايعتهم له فأرسل إلى الوليد بن عتبة بن أبي سفيان أمير المدينة يقول له أما بعد فخذ حسيناً وعبد اللَّه بن عمر وابن الزبير أخذاً ليس فيه رخصة حتى يبايعوا والسلام فلما أتاه نعى معاوية فظع به وكبر عليه فأرسل إلى هؤلاء النفر فأما حسين فجاءه فلما عرض عليه البيعة وأخبره بموت معاوية استرجع وترحم على معاوية وقال أما البيعة فإن مثلي لا يبايع سراً ولا يجتزي بها مني سراً فإذا خرجت إلى الناس ودعوتهم إلى البيعة ودعوتنا معهم كان الأمر واحداً. فقال له الوليد وكان يحب العافية انصرف. وأما ابن الزبير فترك المدينة وذهب إلى مكة وقال إني عائذ بالبيت ولم يكن يصلي بصلاتهم ولا يفيض في الحج بإفاضتهم وكان يقف هو وأصحابه ناحية وخرج من المدينة بعده الحسين بن علي وأخذ معه بنيه وإخوته وبني أخيه إلا محمد بن الحنفية فإنه أبى الخروج معه ونصحه فلم يقبل نصحه.

أما ابن عمر فإنه قال إذا بايع الناس بايعت فتركوه وكانوا لا يتخوفونه ولما بايع الناس بايع هو وابن عباس.

حادثة الحسين:

جاء الحسين مكة فكان أهلها يختلفون إليه ويأتونه ومن بها من المعتمرين وأهل الآفاق وابن الزبير قد لزم جانب الكعبة فهو قائم يصلي عندها عامة النهار ويطوف ويأتي الحسين فيمن يأتيه ولا يزال يشير عليه بالرأي وهو أثقل خلق اللَّه على ابن الزبير لأن أهل الحجاز لا يبايعوه ما دام الحسين بالبلد. لما بلغ أهل الكوفة موت معاوية وبيعة يزيد أرجفوا بيزيد واجتمعت الشيعة إلى منزل كبيرهم سليمان بن صرد الخزاعي واتفقوا أن يكتبوا إلى الحسين يستقدمونه ليبايعوه، فكتبوا إلى نحواً من 150 صحيفة. ولما اجتمعت الكتب عنده كتب إليهم أما بعد فقد فهمت كل الذي اقتصصتم وقد بعثت إليكم بأخي وابن عمي وثقتي من أهل بيتي مسلم بن عقيل وأمرته أن يكتب إلي بحالكم وأمركم ورأيكم فإن كتب إلي أنه قد اجتمع رأى ملئكم وذوي الحجى منكم على مثل ما قدمت به رسلكم أقدم إليكم وشيكاً إن شاء اللَّه فلعمري ما الإمام إلا العامل بالكتاب والقائم والدائن بدين الحق والسلام. ثم دعا الحسين مسلم بن عقيل فسيره نحو الكوفة. وأمره بتقوى اللَّه وكتمان أمره واللطف، فإن رأى الناس مجتمعين عجل إليه بذلك فسار مسلم نحو الكوفة وأميرها النعمان بن بشير الأنصاري فأقبلت إليه الشيعة تختلف إليه.
:خروج الحسين إلى الكوفةأما أمر الحسين فإنه لما عزم على المسير إلى الكوفة جاءه عمرو بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام فقال له بلغني أنك تريد العراق وإني مشفق عليك أن تأتي بلداً فيه عماله وأمراؤه ومعهم بيوت الأموال، وإنما الناس عبيد الدرهم والدينار فلا آمن عليك أن يقاتلك من وعدك نصره ومن أنت أحب إليه ممن يقاتلك معه فجزاه الحسين خيراً.

وجاءه ابن عباس فقال له قد أرجف الناس أنك تريد العراق فخبرني ما أنت صانع؟ فقال قد أجمعت المسير في أحد يومي هذين فقال له ابن عباس أعيذك باللَّه من ذلك خبرني رحمك اللَّه أتسير إلى قوم قتلوا أميرهم وضبطوا بلادهم ونفوا عدوهم فإن كانوا فعلوا ذلك فسر إليهم وإن كانوا إنما دعوك إليهم وأميرهم عليهم قاهر لهم وعماله تجبي بلادهم فإنما دعوك إلى الحرب ولا آمن عليك أن يغروك ويكذبوك ويخالفوك ويخذلوك ويستنفروا إليك فيكونوا أشد الناس عليك، فقال الحسين فإني أستخير اللَّه وأنظر ما يكون.

ثم جاءه ابن عباس ثاني يوم فقال يا ابن عم إني أتخوف عليك في هذا الوجه الهلاك والاستئصال. فإن أهل العراق قوم غدر فلا تقربنهم أقم بهذا البلد فإنك سيد أهل الحجاز فإن كان أهل العراق يريدونك كما زعموا فاكتب إليهم فلينفوا عاملهم وعدوهم، ثم اقدم عليهم فإن أبيت إلا أن تخرج فسر إلى اليمن فإن بها حصوناً وشعاباً وهي أرض عريضة طويلة ولأبيك بها شيعة وأنت عن الناس في عزلة فتكتب إلى الناس وترسل وتبث دعاتك فإني أرجوك أن يأتيك عند ذلك الذي تحب في عافية.

فلم يسمع منه الحسين فقال له ابن عباس فإن كنت سائراً فلا تسر بنسائك وصبيتك فإني لخائف أن تقتل كما قتل عثمان ونساؤه وولده ينظرون إليه فلم يفد كلامه شيئاً.

ثم سار بأهله وأولاده فقابله بالطريق الفرزدق الشاعر فسأله عن خبر الناس فقال له قلوب الناس معك وسيوفهم مع بني أمية والقضاء ينزل من السماء واللَّه يفعل ما يشاء.

ثم جاء كتاب من عبد اللَّه بن جعفر يقسم عليه باللَّه إلا ما انصرف ومع كتابه كتاب من عمرو بن سعيد أمير المدينة فيه الأمان له ويسأله الرجوع فأبى وتم على وجهه فقابله عبد اللَّه بن مطيع ولما علم بوجهه قال له أذكرك اللَّه يا ابن بنت رسول اللَّه r وحرمة الإسلام أن تنتهك أنشدك اللَّه في حرمة العرب. فواللَّه لئن طلبت ما في أيدي بني أمية ليقتلنك ولئن قتلوك لا يهابون بعدك أحداً. واللَّه إنها لحرمة الإسلام وحرمة قريش وحرمة العرب فلا تفعل ولا تأت الكوفة ولا تعرض نفسك لبني أمية، فأبى إلا يمضي.

ولما كان بالثعلبية جاءه مقتل مسلم بن عقيل فقال له بعض أصحابه ننشدك اللَّه إلا ما رجعت من مكانك فإنه ليس لك بالكوفة ناصر ولا شيعة بل نتخوف أن يكونوا عليك. فوثب بنو عقيل وقالوا واللَّه لا نبرح حتى ندرك ثأرنا أو نذوق كما ذاق مسلم.

فسار حتى نزل بطن العقبة وهناك لقيه رجل من العرب فقال أنشدك اللَّه إلا ما انصرفت فواللَّه ما تقدم إلا على الأسنة وحد السيوف. إن هؤلاء الذين بعثوا إليك لو كانوا كفوك مؤنة القتال ووطئوا لك الأشياء فقدمت عليهم لكان ذلك رأياً. فأما على هذه الحال التي تذكر فلا أرى إلا أن ترجع.

ولما ترك شراف قابلته خيل عدتها ألف فارس مع الحر بن يزيد التميمي فقال لهم الحسين أيها الناس إنها معذرة إلى اللَّه وإليكم وإني لم آتكم حتى أتتني كتبكم ورسلكم أن أقدم علينا فليس لنا إمام لعل اللَّه أن يجعلنا بك على الهدى جئتكم فإن تعطوني ما أطمئن إليه من عهود أقدم مصركم وإن لم تفعلوا وكنتم لمقدمي كارهين انصرفت عنكم إلى المكان الذي أقبلنا منه فلم يجيبوه بشيء في ذلك ثم قال له الحر إنا أمرنا إذا نحن لقيناك أن لا نفارقك حتى نقدمك الكوفة على عبيد اللَّه بن زياد فقال الحسين الموت أدنى إليك من ذلك ثم أمر أصحابه فركبوا لينصرفوا فمنعهم الحر من ذلك، فقال الحسين ثكلتك أمك ما تريد؟

فقال أما واللَّه لو غيرك من العرب يقولها ما تركت ذكر أمه بالثكل كائناً من كان ولكني واللَّه مالي إلى ذكر أمك من سبيل إلا بأحسن ما يقدر عليه ثم صار براقبه حتى لا يتمكن من الانصراف إلى المدينة فسار الحسين يتجه إلى الشمال حتى وصل نينوى وحينذاك قدم عليهم جيش سيره ابن زياد لقتال الحسين رسولاً يسأله ما الذي جاء به فقال الحسين كتب إلى أهل مصركم هذا أن أقدم عليهم فأما إذا كرهوني فإني أنصرف عنهم فكتب عمر إلى ابن زياد بذلك فقال:

الآن إذا عرضت مخالبنا به

يرجو النجاة ولا حين مناص

ثم كتب إلى ابن سعد يأمره أن يعرض على الحسين بيعة يزيد، فإذا قبل ذلك رأينا، وأن ينمعه وهو من معه الماء؛ وكان الحسين يعرض عليهم أن يدعوه يرجع إلى المكان الذي خرج منه، وليس بصحيح أنه عرض عليهم أن يضع يده في يد يزيد فلم يقبلوا منه تلك العودة وعرضوا عليه أن ينزل على حكم ابن زياد ومثل هذا الطلب لا يقبله الحسين مهما يكن من الأمر فلم يكن إلا القتال.

وفي عاشر المحرم سنة 61 انتشب القتال بين هاتين الفتئتين جيش العراق الذي لم يكن فيه أحد من أهل الشام وهذه الفئة القليلة ومن معه. وهم لا يزيدون عن 80 رجلاً ولم يكن إلا قليل وقت حتى قتل الحسين وسائر من معه، وعدة من قتل اثنان وسبعون رجلاً وقتل من أصحاب ابن سعد 88 رجلاً ثم أخذوا رأس الحسين وحملوها إلى ابن زياد ومعها بنات الحسين وإخوته ومعهم علي بن الحسين صغير مريض فأمر ابن زياد بحمل الرأس ومعها النساء والصبيان إلى يزيد فلما بلغوا الشام وأخبر يزيد بالخبر دمعت عيناه وقال كنت أرضى من طاعتكم بدون قتل الحسين لعن اللَّه ابن سمية أما واللَّه لو أني صاحبه لعفوت عنه.
وقعة الحرة:

لم تقف مصائب المسلمين عند قتل الحسين ومن معه بل حدثت حادثة هي في نظرنا أدهى وأشنع وهي انتهاك حرمة مدينة الرسول r ومهبط الوحي الإلهي وهي التي حرمها عليه السلام كما حرم إبراهيم مكة فصارت هاتان المدينتان مقدستين لا يحل فيهما القتال فانتهاك حرمة إحداهما من الشرور العظيمة والمصائب الكبرى فكيف انتهاك حرمتهما معاً في سنة واحدة؟

أما حادثة المدينة فإنه في عهد إمارة عثمان بن أبي سفيان عليها أوفد إلى يزيد بدمشق وفداً من أشراف أهل المدينة فيهم عبد اللَّه بن حنظلة الأنصاري وعبد اللَّه بن أبي عمرو بن حفص بن المغيرة المخزومي والمنذر بن الزبير وغيرهم ولما قدموا على يزيد أكرمهم وأحسن إليهم وأعظم جوائزهم فأعطى عبد اللَّه بن حنظلة وكان شريفاً فاضلاً عابداً سيداً مائة ألف درهم وكان معه ثمانية بنين فأعطى كل ولد عشرة آلاف وأعطى المنذر بن الزبير مائة ألف فلما قدموا إلى المدينة أقاموا أهلها فأظهروا شتم يزيد وعيبه وأعلنوا أنهم خلعوه فتابعهم الناس وولوا أمرهم عبد اللَّه قومه فجاءهم وأمرهم بلزومهم الطاعة وخوفهم الفتنة وقال لهم إنكم لا طاقة لكم بأهل الشام فلم تجد نصيحته نفعاً فعاد عنهم وحينذاك قام هؤلاء الثائرون وحصروا من في المدينة من بني أمية في دار مروان فكتبوا إلى يزيد يتسغيثون به فلما جاءه كتابهم قال متمثلاً:

لقد بدلوا الحكم الذي في سجيتي

فبدلت قومي غلظة بليان

وحينذاك جهز جيشاً أمر عليه مسلم بن عقبة المري وكان عدة من تجهز معاً اثنا عشر ألفاً وقال له يزيد ادع القوم ثلاثاً فإن أجابوك وإلا فقاتلهم فإن ظهرت عليهم فأبحها ثلاثاً فكل ما فيها من مال أو دابة أو سلاح أو طعام فهو للجند فإذا مضت الثلاث فأكفف عن الناس وانظر علي بن الحسين فأكفف عنه واستوصي به خيراً فإنه لم يدخل مع الناس وإنه قد أتاني كتابه.

ثم سار مسلم حسب وصية عبد الملك فلما ورد المدينة دعا أهلها وقال إن أمير المؤمنين يزعم أنكم الأصل وإني أكره إراقة دمائكم وإني أؤجلكم ثلاثاً فمن ارعوى وراجع الحق قبلنا منه وانصرفت عنكم وسرت إلى هذا المحل الذي بمكة وإن أبيتم كنا قد أعذرنا إليكم فلم يبالوا وحاربوا وكان القتال بين الفريقين شديداً جداً ولكن انتهى بهزيمة أهل المدينة بعد أن قتلت ساداتهم وأباح مسلم المدينة ثلاثاً يقتلون الناس ويأخذون المتاع والأموال وبعد ذلك دعا مسلم الناس للبيعة ليزيد على أنهم خول له يحكم في دمائهم وأموالهم وأهليهم، فمن امتنع عن ذلك قتله. ثم أتى بعلي بن الحسين فأكرمه لوصية يزيد ولم يلزمه بالبيعة وكانت هذه الواقعة لليلتين بقيتا من ذي الحجة سنة 63.
حصار مكة:

وثالثة الحوادث التي يقع معظم تبعتها على عبد اللَّه بن الزبير حصار مكة فإن مسلماً لما انتهى من أمر المدينة سار قاصداً مكة لحرب ابن الزبير واستخلف على مكة روح بن زنباع الجذامي، وقد أدركت المنية مسلماً بالشلل فاستخلف على الجند الحصين بن نهير كما أمر يزيد فسار بالجند إلى مكة فقدمها لأربع بقين من المحرم سنة 64 وقد بايع أهلها وأهل الحجاز لعبد اللَّه بن الزبير وقدم عليه نجدة بن عامر الحنفي الخارجي لمنع البيت، فخرج ابن الزبير للقاء أهل الشام فحاربهم حرباً انكشف فيها أصحابه فسار راجعاً إلى مكة فأقاموا عليه يقتلونه بقية المحرم وصفر كله حتى إذا مضت ثلاثة أيام من ربيع الأول رموا البلد بالمنجنيق ولم يزل الحصار حتى بلغهم نعي يزيد بن معاوية فوقف القتال.

هذه ثلاث فتن كبرى داخلية حصلت في أيام يزيد جعلت اسمه عند عامة المسلمين مكروهاً حتى استحل بعضهم لعنه ونحن بعد أن بسطنا أمامكم هذه الحوادث وآثارها لا نرى من العدل أن يتحمل يزيد كل تبعتها بل إن الذي يتحمله جزء صغير منها لأنه بايعه معظم المسلمين وخالف عليه قليل منهم من المعقول أن يتركهم وما يشتهون لتفرق الكلمة وليس من السهل أن ينزل لهم عما تقلده فيما ترى على فعل ما فعل وإنما الذي عليه تلك الشدة التي أجرتها جنوده بعد أن تم لها النصر.
الفتوح في عهد يزيد:استعمل يزيد عقبة بن نافع على إفريقية كما وعده معاوية بذلك، فسار إليها ولما وصل إلى القيروان قبض على أبي المهاجر وأوثقه في الحديد وترك بالقيروان جنداً مع الذراري والأموال ثم سار في عسكر حتى دخل مدينة باغاية وقد اجتمع بها كثير من الروم فقاتلوه قتالاً شديداً وانهزموا عنه ودخل المنهزمون المدينة.

فحاصرهم عقبة ثم كره المقام عليهم فسار إلى بلاد الزاب وهي بلاد واسعة فيها عدة مدن وقرى كثيرة فقصد مدينتها العظمى واسمهاأربعة فامتنع من بها من الروم فقاتلتهم الجنود الإسلامية حتى هزمتهم ثم رحل إلى تاهرت، فلما بلغ الروم خبره استعانوا بالبربر فأجابوهم ونصروهم فاجتمعوا في جمع كثير واشتد الأمر على المسلمين لكثرة العدو ولكن العاقبة كانت لهم فانهزمت الروم والبربر وغنم المسلمون أموالهم وسلاحهم.ثم سار حتى نزل على طنجة فلقيه بطريق رومي اسمه يليان فأهدى له هدية حسنة ونزل على حكمه ثم سار نحو السوس الأدنى وهو مغرب طنجة فلقيته البربر في جموع كثيرة فقاتلهم وهزمهم هزيمة منكرة.

ثم سار نحو السوس الأقصى وقد اجتمع له جمع عظيم من البربر فقاتلهم وهزمهم.

وسار بعد ذلك حتى بلغ بحر الظلمات، فقال يا رب لولا هذا البحر لمضيت في البلاد مجاهداً في سبيلك ثم عاد فنفر الروم من طريقة خوفاً منه.
معاوية الثاني :

بعد موت يزيد كانت هناك بيعتان إحداهما بالشام لمعاوية بن يزيد، والثانية بمكة والحجاز لعبد اللَّه بن الزبير.

فأما معاوية فكانت سنه إحدى وعشرين سنة اختاره أهل الشام للخلافة بعد موت أبيه إلا أنه بعد قليل من خلافته نادى الصلاة جامعة فاجتمع الناس فحمد اللَّه وأثنى عليه ثم قال أما بعد فإني قد ضعفت عن أمركم فابتغيت لكم مثل عمر بن الخطاب حين استخلفه أبو بكر فلم أجده فابتغيت ستة مثل ستة الشورى فلم أجدهم فأنتم أولى بأمركم فاختاروا له من أحببتم ثم دخل منزله وتغيب حتى مات بعد ثلاثة أشهر من خلافته.

هكذا فعل الشاب الضعيف حينما رأى عصا المسلمين منشقة ولم ير من نفسه القدرة على لَم شعثها وإصلاح أمرها.

عبد اللَّه بن الزبير:

أما ابن الزبير فإن يزيد مات وحصين بن نمير محاصر له وقد اشتد الحصار عليه فجاءه الخبر قبل أن يصل لرئيس الجند المحاصر فناداه علام تقاتلون وقد هلك طاغيتكم فلم يصدقوه لما وصل الخبر الحصين بعث إلى ابن الزبير يريد محادثته فجاءه فكان فيما قال له أنت أحق بهذا الأمر هلم فلنبايعك ثم أخرج معنا إلى الشام فإن هذا الجند الذين معي هم وجوه الشام وفرسانه فواللَّه لا يختلف عليك اثنان وتؤمن الناس وتهدر هذه الدماء التي كانت بيننا وبينك وبين أهل الحرم فقال له أنا لا أهدر الدماء واللَّه لا أرضى أن أقتل بكل رجل منهم عشرة منكم وأخذ الحصين يكلمه سراً وهو يجهر ويقول واللَّه لا أفعل فقال له الحصين قد كنت أظن لك رأياً وأنا أكلمك سراً وتكلمني جهراً وأدعوك إلى الخلافة، وأنت لا تريد إلا القتل والهلكة. ثم فارقه ورحل إلى المدينة فالشام فوصلوها وقد بويع لمعاوية بن يزيد.

هذا حال الشام لا إمام فيه والحجاز فيه ابن الزبير. أما العراق فإن عبيد اللَّه بن زياد لم بلغه نعي يزيد نادى الصلاة جامعة فلما اجتمع الناس قال يا أهل البصرة إن مهاجرنا إليكم ودارنا فيكم ومولدي فيكم وليتكم... الخ ثم دعا لنفسه بالبيعة. فقالوا له قد سمعنا مقالتك وما نعلم أحداً أقوى عليها منك فهلم فلنبايعك فأبى عليهم ذلك ثلاثاً ثم بسط يده فبايعوه ثم انصرفوا عنه يمسحون أيديهم بالحيطان ويقولون أيظن ابن مرجانة أنا ننقاد له في الجماعة والفرقة ثم أرسل إلى أهل الكوفة من يطلب بيعتهم له فأبوا عليه. ولما علم أهل البصرة بآبائهم أظهروا النفرة منه وخلعوه ودعا بعضهم إلى بيعة ابن الزبير فأجابه إلى ذلك أكثرهم وضعف أمر ابن زياد وخاف أهل البصرة على نفسه فاستجار بالحارث بن قيس الأزدي ثم بمسعود بن عمر سيد الأزد فأجاره حتى هرب إلى الشام. واختار أهل البصرة والياً عليهم عبد اللَّه بن الحارث بن نوفل الملقب ببية فبايعوه وأقبلوا به إلى دار الإمارة وذلك أول جمادى الآخرة سنة 64 وكذلك اختار أهل الكوفة لهم أميراً وكتب أهل المصرين إلى ابن الزبير بالبيعة فأرسل لهم العمال من عنده. وكذلك دخل في بيعة ابن الزبير أهل مصر ولم يبق إلا الشام.
حال الشام:

كان رأس بني أمية بالشام مروان بن الحكم، وكان أمير دمشق الضحاك بن قيس وكان هواه في ابن الزبير يدعو له وأمير حمص النعمان بن بشير وأمير قنسرين زفر بن الحارث الكلابي وهواهم كلهم في ابن الزبير يدعون له وكان أمير فلسطين حسان بن مالك الكلبي وهواه في بني أمية وقد بايعه على الدعوة لهم أهل الأردن على شرط أن يجنبهم هذين الغلامين عبد اللَّه وخالداً ابني يزيد لأنهم قالوا إنا نكره أن يأتينا الناس بشيخ نأتيهم بغلام فكتب حسان إلى الضحاك بن قيس كتاباً يعظم فيه حق بني أمية وحسن بلائهم عنده ويذم ابن الزبير وأنه خلع خليفتين وأمره أن يقرأ كتابه على الناس وكتب كتاباً آخر سلمه لرسوله وقال له إن قرأ الضحاك كتابي على الناس وإلا ففم واقرأه عليهم فلما ورد كتابه على الضحاك لم يقرأه على الناس فقام رسول حسان وقرأ عليهم الكتاب فقال الوليد بن عتبة بن أبي سفيان صدق حسان وقام غيره فقالوا مثل مقاله فأمر بهم الضحاك فحبسوا ولكن عشائرهم أخرجوهم من الحبس وكان الذين في دمشق فريقين فقيس تدعوا إلى ابن الزبير وكلب تدعو إلى بني أمية.
مروان بن الحكم:

خرج الضحاك بمجموعة فنزل مرج راهط بيده واجتمع بنو أمية بالجابية فتشاورا فيمن يلي أمر المسلمين واتفق رأيهم أخيراً على تولية مروان ابن الحكم فبايعوه لثلاث خلون من ذي القعدة سنة 64 هـ.

ولما تمت بيعته بالناس من الجابية إلى مرج راهط وبه الضحاك بن قيس ومن على رأيه واجتمع على مروان كلب وغسان والسكاسك والكون وكانت بين الفريقين مواقع هائلة عشرين ليلة في مرج راهط وكانت الغلبة أخيراً لمروان.

ولما تم الأمر لمروان بالشام سار إلى مصر فافتتحها وبايعه أهلها ثم عاد إلى دمشق فأقام بها.

لم تطل مدة مروان في سلطانه فإنه توفي في رمضان سنة 65 هـ وكان قد عهد بالخلافة لأبنيه عبد الملك ثم عبد العزيز.
ترجمة مروان :

هو مروان بن الحكم بن أبي العاص بن أمية وأمه آمنة بنت علقمة بن صفوان الكناني ولد في السنة الثانية من الهجرة وأسلم أبوه الحكم يوم الفتح فنشأ مروان مسلماً وكان في عهد عثمان بن عفان كاتباً له ومدبراً وولي لمعاوية المدينة جملة مرات ولما مات يزيد أوشك أن يذهب إلى ابن الزبير فبايعه لولا عبد اللَّه بن زياد فإنه أشار عليه أن يطلب الخلافة لنفسه لأنه شيخ بني أمية فاستشرف لها ووجد من ينصره على ذلك وتم له الأمر بعد وقعة مرج راهط وكان أمره في الشام ومصر لم يتجاوزهما حتى مات وولي أمر الأمة من بعده ابنه.


 

Free Web Hosting