عبد الملك بن مروان :

ترجمته:

هو عبد الملك بن مروان بن الحكم ولد سنة 26 هـ بالمدينة وأمه عائشة بنت معاوية بن الوليد بن المغيرة بن العاص بن أمية. ولما شب كان عاقلاً حازماً أديباً لبيباً وكان معدوداً من فقهاء المدينة يقرن بسعيد بن المسيب وعروة بن الزبير وقال الشعبي ما ذاكرت أحداً إلا وجدت لي الفضل عليه إلا عبد الملك فإني ما ذاكرته حديثاً إلا زادني فيه، ولا شعراً إلا زادني فيه.

توليه الحكم :

ولي الخلافة بعد أبيه بعهد منه. وكانت الحال في البلاد الإسلامية على غاية الاضطراب. فإن الحجاز به عبد اللَّه بن الزبير. وقد بايعه أهله وبلاد العراق أهلها ثلاث فرق زبيرية قد بايعوا ابن الزبير ودخلوا في طاعته، وشيعة تدعوا إلى آل البيت، وخوارج وهم من عرفتم حديثهم قبل. فتلقى الأمر بقلب ثابت وعزيمة صادقة حتى دان الناس واجتمعت الكلمة عليه.

المعركة مع التوابين:

كان مروان قبل وفاته قد جهز جيشاً يقوده عبد اللَّه بن زياد إلى الجزيرة ومحاربة زفر بن الحارث بقرقيسيا واستعمله على كل ما يفتحه فإذا فرغ من الجزيرة توجه إلى العراق وأخذه من ابن الزبير فلما كان بالجزيرة بلغه موت مروان وأتاه كتاب عبد الملك يستعمله على ما استعمله عليه أبوه ويحثه على المسير إلى العراق فسار حتى إذا كان بعين الوردة قابلته جنود مقبلة من العراق لم يبعثهم أمير ولكنهم خرجوا للمطالبة بدم الحسين وسموا أنفسهم التوابين وهم جماعة الشيعة ندموا على خذلانهم الحسين بن علي ولم يروا أنهم يخرجون من هذا الذنب إلا إذا قاموا للمطالبة بثأره وقتلوا قتلته وكان رئيسهم كبير الشيعة بالكوفة سليمان بن صرد الخزاعي فما زالوا يجمعون آلة الحرب ويدعون الناس سراً إلى ما عزموا عليه حتى تم لهم ما أرادوا سنة 65 فخرجوا حتى إذا كانوا بعين الوردة قابلتهم جنود الشام فكان بين الفريقين موقعة عظيمة قتل فيها سليمان بن صرد رئيس الشيعة ومعظم من معه ونجا قليل منهم وكانوا نحواً من ستة آلاف ولما بلغ عبد الملك قتل سليمان قام خطيباً في أهل الشام فقال إن اللَّه قد أهلك من رؤوس أهل العراق ملقح فتنه ورأس ضلالة سليمان بن صرد ألا وإن السيوف قد تركت رأس المسيب خذاريف وقد قتل اللَّه منهم رأسين عظيمين ضالين مضلين عبد اللَّه بن سعد الأزدي وعبد اللَّه بن وال البكري. ولم يبق بعدهم من عنده امتناع.

بعد مقتل هؤلاء ثار بالكوفة رجل الفتنة الكبير المختار بن أبي عبيد الثقفي وكان وثوبه بها رابع عشر ربيع الأول سنة 66 فأخرج منها عامل ابن الزبير وهو عبد اللَّه بن مطيع وكان وثوبه باسم محمد بن الحنفية. زاعماً أنه هو الذي أرسله للأخذ بثأر الحسين ولقبه بالإمام المهدي.

ثم إن المختار تخير الجند لمحاربة ابن زياد وجعل قائدهم إبراهيم بن الأشتر فسار حتى التقى بجنود الشام على نهر الخارز فكان بين الفريقين موقعة هائلة انتصر فيها ابن الأشتر وقتل عبيد اللَّه بن زياد بعد أن ذهب من جند الشام عدد وافر قتلاً وغرقاً في نهر الخازر ولما انتهت الموقعة أرسل ابن الأشتر العمال إلى البلاد الجزرية.

وبذلك عاد أمر العراق لابن الزبير وكان الأمر بالشام ومصر لعبد الملكبن مروان أن يجمع كلمة الناس عليه فتجهز لقصد العراق.

ثم سار عبد الملك إلى العراق فبلغ خبره مصعباً فتجهز له وجعل على مقدمته إبراهيم بن الأشتر فتقابل الجيشان بمسكن، وكان كثير من أهل العراق كاتبوا عبد الملك وكاتبهم فكانت نياتهم فاسدة فلما حصلت الموقعة انهزم أهل العراق وبقي مصعب مع قليل من المخلصين له.

بذلك لم يبق خارجاً عن سلطان عبد الملك إلا الحجاز فوجه وهو بالكوفة جنداً إلى مكة بقيادة الحجاج بن يوسف الثقفي لقتال عبد اللَّه بن الزبير فسار إليه في جمادي الأولى سنة 72 هـ فلما وصل مكة حصر ابن الزبير بها ورماها بالمجانيق ولم يزل الأمر على ذلك حتى اشتدت الحال على أهل مكة من الحصار فتفرقوا عن ابن الزبير وخرجوا بالأمان إلى الحجاج وكان ممن فارقه ابناه حمزة وحبيب ولما رأى ابن الزبير أنه لم يبق معه إلا قليل لا يغنون عنه شيئاً.

فقاتل ابن الزبير حتى قتل وكانت سنه ثلاثاً وسبعين سنة وبعد قتله صلبت جثته ثم أنزلت بأمر من عبد الملك.

مكث ابن الزبير خليفة بالحجاز تسع سنين لأنه بويع له سنة 64 وبقتل ابن الزبير صفا الأمر لعبد الملك في جميع الأمصار الإسلامية، واجتمعت عليه الكلمة وبقي الحجاج والياً على مكة والمدينة حتى سنة 75 وفيها عزله عبد الملك عنهما وولاه العراقين فسار إلى الكوفة في اثني عشر راكباً على النجائب حتى دخلها فبدأ بالمسجد فصعد المنبر وهو متلثم بعمامة خز حمراء فاجتمع إليه الناس. وهو ساكت قد أطال السكوت حتى أراد بعضهم أن يحصبه ثم كشف اللثام عن وجهه.

وفي سنة 89 ولى الحجاج عبيد اللَّه بن أبي بكرة سجستان فغزا رتبيل وقد كان يفعل مصالحاً وقد كانت العرب قبل ذلك تأخذ منه خراجاً وربما امتنع فلم يفعل فبعث الحجاج إلى ابن أبي بكرة يأمره بغزوه فتوغلوا في بلاده فأصيبوا وهلك معظمهم ونجا أقلهم فرأى الحجاج أن يجهز إليهم جنداً فجهز عشرين ألفاً من البصرة ومثلهم من الكوفة.

وجد في ذلك وشمر وأعطى الناس أعطياتهم كملاً وأخذهم بالخيول الروائع والسلاح الكامل واستعرض ولا يرى رجلاً تذكر منه شجاعة إلا أحسن معوفته ولما استتب أمر ذينك الجندين ولى عليهم عبد الرحمن بن الأشعث فسار حتى قدم سجستان فصعد منبرها وقال أيها الناس إن الأمير الحجاج ولاني ثغركم وأمرني بجهاد عدوكم الذي استباح بلادكم وأباد أخياركم فإياكم أن يتخلف منكم رجل فيحل بنفسه العقوبة اخرجوا إلى معسكركم فعسكروا به مع الناس.

ولما دخل الناس فارس قال بعضهم لبعض إذا خلعنا الحجاج فقد خلعنا عبد الملك فخلعوه وبايعوا عبد الرحمن على كتاب اللَّه وسنه ورسوله وخلع أئمة الضلالة وجهاد المحلين، ولما بلغ الحجاج خبره بعث إلى عبد الملك يخبره ويسأله أن يوجه الجنود إليه فهاله الأمر وبادر بإرسال الجنود الشامية إليه والحجاج مقيم بالبصرة فلما اجتمعت الجنود إليه سار بها حتى نزل تستر وقدم بين يديه مقدمته فقابلتها جنود ابن الأشعث فهزمت مقدمة الحجاج يوم الأضحى سنة 81 وأتت الحجاج الهزيمة فانصرف راجعاً حتى نزل الزاوية وجاءت جنود ابن الأشعث حتى نزلت البصرة فبايعه أهلها وكان دخوله إليها في آخر ذي الحجة ثم تقابل الجندان بالزاوية فهزمت جنود الحجاج.

أما ابن الأشعث، فقد تقلبت به الأحوال؛ وانتهى أمره إلى أن توجه إلى رتبيل مستغيثاً به، فكتب الحجاج إلى رتبيل يأمره أن يرسل إليه ابن الأشعث ويتوعده إن لم يفعل، فأراد رتبيل أن يرسله، فقتل ابن الأشعث نفسه بأن ألقى نفسه من فوق قصر فمات ثم ضرب رتبيل عنق بضعة عشر رجلاً من أقاربه، وأرسل بالرؤوس إلى الحجاج.
وفاة عبد الملك:

في يوم الخميس منتصف شوال سنة 86 هـ (أكتوبر سنة 705 م) توفي عبد الملك بدمشق فكانت مدة خلافته منذ بويع بالشام إحدى وعشرين سنة وشهراً ونصفاً من مستهل رمضان سنة 65 هـ إلى منتصف شوال سنة 86 هـ وكانت خلافته منذ قتل ابن الزبير واجتمعت عليه الكلمة ثلاث عشرة سنة وخمسة أشهر بناء على أن ابن الزبير قتل في 17 جمادي الأولى سنة 73 وكان عمر عبد الملك ستين سنة لأنه ولد سنة 26 هـ.
بيت عبد الملك:

تزوج عبد الملك:

1ــ ولادة بنت العباس بن جزء العبسي فولدت له الوليد وسليمان ومروان الأكبر.

2ــ عاتكة بنت يزيد بن معاوية فولدت له يزيد ومروان ومعاوية وأم كلثوم.

3ــ أم هشام بنت هشام بن إسماعيل المخزومي« فولدت له هشاماً.

4ــ عائشة بنت موسى بن طلحة التيمي فولدت له أبا بكر واسمه بكار.

5ــ أم أيوب بنت عمرو بن عثمان بن عفان فولدت له الحكم.

6ــ أم المغيرة بنت المغيرة بن خالد المخزومي فولدت له فاطمة.

7ــ شقراء بنت سلمة بن حليس الطائي.

8ــ ابنة لعلي بن أبي طالب.

9ــ أم أبيها بنت عبد اللَّه بن جعفر.

وله من الأولاد عبد اللَّه ومسلمة والمنذر وعنبسة ومحمد وسعيد الخير والحجاج لأمهات الأولاد.
صفة عبد الملك:

كان عبد الملك قوي العزيمة ثابت النفس لا تعزعزه الشدائد، ولي أمر الأمة في غاية الاضطراب والاختلاف فما زال حتى جمعها وصيرها واحدة تدين لخليفة واحد وسلمها لابنه الوليد وهي على غاية من الهدوء والطمأنينة.
الوليد بن عبد الملك (الأول):

ترجمته:

هو الوليد بن عبد الملك بن مروان وأمه ولادة بنت العباس بن جزء العبسي. ولد سنة 50 من الهجرة ولم تكن له ولاية العهد إلا بعد وفاة عمه عبد العزيز بن مروان ولما توفي أبوه عبد الملك بويع بالخلافة في اليوم الذي مات فيه. لما رجع من دفنه بدمشق لم يدخل منزله حتى صعد على منبر دمشق، فحمد اللَّه وأثنى عليه بما هو أهله ثم قال: أيها الناس إنه لا مقدم لما أخر اللَّه، ولا مؤخر لما قدم اللَّه، وقد كان من قضايا اللَّه وسابق علمه، وما كتب على أنبيائه وحملة عرشه الموت وقد صار إلى منازل الأبرار ولي هذه الأمة بالذي يحق عليه للَّه من الشدة على المريب واللين لأهل الحق والفضل وإقامة ما أقام اللَّه من منار الإسلام وأعلامه من حج البيت وغزو هذه الثغور وشن هذه الغارة على أعداء اللَّه فلم يكن عاجزاً ولا مفرطاً. أيها الناس عليكم بالطاعة ولزوج الجماعة فإن الشيطان مع الفرد. أيها الناس من أبدى لنا ذات نفسه ضربنا الذي فيه عيناه ومن سكت مات بدائه. ثم قام إليه الناس فبايعوه.

الحال في عهد الوليد :

كانت مدة الوليد غرّة في جبين الدولة الأموية ففيها قام بإصلاح داخلي عظيم، واشتهر في الأمة قواد عظام فتحوا الفتوح العظيمة وأضافوا إلى المملكة الإسلامية بلاداً واسعة واستردوا هيبتها في أنفس الأمم المجاورة لها. وسبب ذلك أن الوليد تولى بعد أن وطأ عبد الملك الأمور ومهدها فاستلمها الوليد والأمة هادئة مطمئنة مجتمعة الكلمة وخبت نار الأهواء فإن الخوارج ذهبت حدتهم وشوكتهم وقلت جموعهم وشيعة آل البيت نالهم ما جعلهم يهتمون بأنفسهم، فلم يحركوا ساكناً، ولم يوقظوا فتنة.

الإصلاح الداخلي :

كان الوليد ميالاً إلى العمارة فاهتم في زمنه بإصلاح الطرق وتسهيل السبل في الحجاز وغيره في سنة 88 إلى عامله بالمدينة عمر بن عبد العزيز في تسهيل الثنايا وحفر الآبار في البلدان وكتب إلى سائر البلاد بذلك فعمل عمر بالمدينة الفوارة التي يستقي منها أهل المدينة وأجرى إليها الماء وأمر لها بقوام يقومون عليها.

وإصلاح الطرق من أهم ما يذكر لولاة الأمر في إصلاح البلاد.

ومن أعماله العظيمة بناء ذينك المسجدين العظيمين مسجد المدينة وجامع دمشق ففي السنة المتقدمة أمر عمر بن عبد العزيز بهدم المسجد النبوي وهدم بيوت أزواج الرسول وإدخالها في المسجد وأن يشتري دوراً في مؤخره ونواحيه ليتسع حتى يكون مئتي ذراع في مثلها ومن أبى فليقوم داره قيمة عدل وتهدم ويدفع إليهم ثمنها فإن لك في ذلك سلف وصدق عمر وعثمان.

وأرسل إليه الوليد بالفعلة والبنائين من الشام فعمل في ذلك عمر مع فقهاء المدينة وبعث الوليد إلى ملك الروم يعلمه أنه أمر بهدم مسجد رسول اللَّه r ويطلب منه أن يعينه فيه فبعث إليه بمائة ألف مثقال ذهب وبعث إليه بمائة عامل وبعث إليه من الفسيفساء بأربعين جملاً فابتدىء بعمارته وأدخلت جمع الحجر التي لأزواج رسول اللَّه r ولم يبق إلا حجرة عائشة التي فيها القبور الثلاثة وكان من رأي بعض أهل المدينة أن لا تكون في المسجد حذر أن يستقبلها بعض المسلمين في صلاتهم يشبهونها بالكعبة ففكر في ذلك عمر وقد هداه الفكر أن يثلث جهتها الشمالية حتى تنتهي بزاوية لا يمكن استقبالها فصار شكل الحجرة مخمساً.

أما جامع دمشق وهو المعروف بالجامع الأموي فإن الوليد احتفل له احتفالاً عظيماً حتى خرج مناسباً لعظمة المملكة الإسلامية ولا يزال شيء من آثاره شاهداً بتلك العظمة وكان الناس في حايته قد شغفوا بالعمارة تبعاً له حتى كانت مسألتهم عنها إذا تقابلوا. وبنى الوليد المصانع في الشام لتسهيل الاستقاء.

ومن الإصلاح العظيم حجره على المجذومين أن يسألوا الناس وجعل لهم من العطاء ما يقوم بحياتهم وأعطى كل مقعد خادماً وكل ضرير قائداً.

ومن حسنات الوليد استعانته في عمله بعمر بن عبد العزيز الذي أعاد سيرة سلف هذه الأمة الصالح فقد ولاه المدينة سنة 77 فقدمها وسنه 25 سنة فنزل دار مروان ولما صلى الظهر دعا عشرة من فقهاء المدينة عروة بن الزبير وعبد اللَّه بن عبد اللَّه بن عتبة وأبا بكر بن عبد الرحمن وأبا بكر بن سليمان بن أبي خيثمة وسليمان بن يسار والقاسم بن محمد بن أبي بكر وسالم بن عبد اللَّه بن عمرو وعبد اللَّه بن عمر وعبد اللَّه بن عامر بن ربيعة وخارجة بن زيد وهم إذ ذاك سادة فقهاء الدنيا فلما دخلوا عليه أجلسهم ثم حمد اللَّه وأثنى عليه إني إنما دعوتكم لأمر تؤجرون عليه وتكونون فيه أعواناً على الحق ما أريد أن أقطع أمراً إلا برأيكم أو برأي من حضر منكم فإن رأيتم أحداً يتعدى أو بلغكم عن عامل لي ظلامة فأحرج اللَّه على من بلغه ذلك إلا بلغني. فخرجوا يجزونه خيراً وافترقوا وبهذا العمل جدد فيهم سيرة عمر بن الخطاب وهو جده من قبل أمه.

قد عزله الوليد عن المدينة سنة بسبب شكوى من الحجاج.

الفتوح في عهد الوليد :

اشتهر في زمن الوليدأربعة قواد عظام كان لهم أجمل الأثر في الفتح الإسلامي وهم:

1 ــ محمد بن القاسم بن محمد الثقفي.

2 ــ قتيبة بن مسلم الباهلي.

3 ــموسى بن نصير.

4 ــ مسلمة بن عبد الملك بن مروان.

فأما القاسم بن محمد: فإنه كان أميراً على ثغر السند من قبل الحجاج بن يوسف وكان الحجاج قد ضم إليه ستة آلاف من جند أهل الشام وجهزه بكل مااحتاج إليه فسار القاسم إلى بلاد السند حتى أتى الديبل فنزل عليه وكان به بد عظيم والبد منارة عظيمة تتخذ في بناء لهم فيه صنم أو أصنام لهم وكان كل شيء أعظموه من طريق العبادة فهو عندهم بد وكانت كتب الحجاج ترد على محمد وكتب محمد ترد على الحجاج بصفة ما قبله واستطلاع رأيه فيما يعمل به كل ثلاثة. ولم يزل القاسم حاصراً للديبل حتى خرج العدو إليه مرة فهزمهم ثم أمر بالسلاليم فوضعت وصعد عليها الرجال ففتحت عنوة وقتل عامل داهر عليها ثم بنى مسجداً وأنزلها أربعة آلاف، ثم أتى البيرون فأقام أهله العلوفة للقاسم وأدخلوه مدينتهم وكانوا قد بعثوا سمينين إلى الحجاج فصالحوه فوفى لهم محمد بن القاسم بالصلح ثم جعل لا يمر بمدينة إلا فتحها حتى عبر نهر دون مهران فأتاه سمين سريبدس فصالحوه على من خلفهم ووظف عليهم الخراج وسار إلى سهبان ففتحها ثم إلى مهران فبلغ ذلك داهر ملك السند فاستعد لمحاربته ثم إن محمد عبر مهران وهو نهر السند على جسر عقد فالتقى بداهر في جنوده الكثيرة؛ وهو على فيل وحوله الفيلة فاقتتلوا قتالاً شديداً لم يسمع وترجل داهر وقاتل فقتل عند المساء وانهزم المشركون.

ولما قتل داهر غلب محمد على بلاد السند، ثم فتحوا راور عنوة ثم أتى برهمناباذ العتيقة فقاتله بها فل داهر ولكنهم انهزموا فخلف بها عاملاً، ثم سار فتلقاه أهل ساوندرى وسألوه الأمان فأعطاهم الأمان فأعطاهم إياه واشترط عليهم ضيافة المسلمين، ودولتهم ثم تقدم إلى يسمد فصالح أهلها على مثل صلح مثل صلح ساوندرى.

ثم انتهى إلى الرور وهي من مدائن السند فحصر أهلها ثم فتحها صلحاً على أن يقتلهم ولا يعرض لبدهم؛ وقال ما البد إلا ككنائس النصارى، واليهود، وبيوت نيران المجوس، ووضع عليهم الخراج وبنى بالرور مسجداً، ثم سار حتى قطع نهر بباس إلى الملتان فقاتله أهل الملتان فهزمهم حتى أدخلهم المدينة وحصرهم ثم نزلوا على حكمه فقتل كثيراً منهم وأصاب فيها مغانم كثيرة وافرة وكان بد الملتان تهدي إليه الأموال وتنذر له لنذور ويحج ويحلقون رؤوسهم ولحاهم عنده فحاز محمد ذلك كله.

وفي ذلك الوقت بلغته وفاة الحجاج فرجع عن الملتان إلى الرور وبغرور وكان قد فتحها فأعطى الناس ووجه إلى البيلمان جيشاً فلم يقاتلوه وأعطوا الطاعة وسالمه أهل سرست ثم أتى الكرج فخرج إليه دوهر فقاتله فانهزم العدو وهرب دوهر. بعد هذه الفتوح العظيمة التي نشرت ظل الإسلام على جميع بلاد السند مات الوليد بن عبد الملك فوقف أمر محمد وسنتكلم بعد على خاتمة حياته.

وأما قتيبة بن مسلم: فكان أميراً على خراسان للحجاج بن يوسف ولاه عليها بعد المفضل بن المهلب سنة 86.

ثم عرض الجند في السلاح والكراع وسار واستخلف على مرو. فلما كان بالطالقان تلقاه دهاقين بلخ وعظماؤهم فساروا معه ولما قطع النهر تلقاه ملك الصغانيان بهدايا ومفتاح من ذهب فدعاه إلى بلاد فأتاه وأتى ملك مفتان بهدايا وأموال، ودعاه إلى بلاده فمضى مع الصغانيان فسلم إليه بلاده وكان ملك آخرون وشومان قد أساءه جواره وضيق عليه فسار قتيبة إلى آخرون وشومان وهما من طخستان فجاءه الملك فصالحه على فدية أداها فقبلها قتيبة ورضي ثم عاد إلى مرو واستخلف على الجند ولما علم بذلك الحجاج كتب إليه يلومه ويعجز رأيه في تخليفه الجند وكتب إليه إذا غزوت فكن في مقدم الناس وإذا قفلت فكن في أخرياتهم وساقتهم.

وفي سنة 87 قدم على قتيبة نيزك وصالحه وكان سبب ذلك أنه كان في يد نيزك أسرى من المسلمين، فكتب إليه قتيبة يأمره بإطلاقهم ويتهدده، فخالفه نيزك فأطلق الأسرى فوجه إليه قتيبة يطلب منه القدوم عليه وحلف باللَّه لئن لم يفعل ليغزونه وليطلبنه حيث كان لا يقلع عنه حتى يظفر به أو يموت قبل ذلك. فقدم عليه نيزك وصالحه على أهل بادغيس على أن لا يدخلها.

وبعد ذلك غزا قتيبة بيكند وهي أدنى مدائن بخارى إلى النهر فلما نزل بهم استنصر الصغد واستمدوا من حولهم فأتوهم في جمع كثير وأخذوا بالطريق فلم ينفذ لقتيبة رسول ولم يصل إليه رسول ولم يجز له خبر شهرين وأبطأ خبره على الحجاج فأشفق على الجند والقتال دائر بين قتيبة وعدوه وذات يوم لقي المسلمون عدوهم بجد أنزل اللَّه عليهم نصرهم فانهزم العدو عنهم يريدون دخول المدينة فحال المسلمون بينهم وبينها فتفرقوا وركب المسلمون أكنافهم واعتصم بالمدينة عدد قليل دخلها ولما رأوا قتيبة ابتدأ بهدمها سألوه الصلح فصالحهم وولى عليهم أميراً وسار عنهم فلما كان على خمسة فراسخ بلغه أن أهل بيكند غدروا بالعامل فقتلوه وأصحابه فرجع إليهم وفتح المدينة عنوة فقتل مقاتلها وأصاب فيها مغانم كثيرة ثم عاد إلى مرو.

ولما كان الربيع سار عن مرو في عدة حسنة من الدواب السلاح وعبر النهر حتى أتى نومشكث وهي من بخارى فصالحه أهلها ثم سار إلى رامثينة فصالحه أهلها فانصرف عنهم وزحف إليه الترك معهم الصغد وأهل فرغانة فاعترضوا المسلمين في طريقهم فقاتلهم المسلمون قتالاً شديداً أبلى فيه نيزك بلاء حسناً وهو مع قتيبة حتى انهزم الترك وفض جمعهم ثم رجع إلى مرو فقطع النهر من ترمذ يريد بلخ ثم أتى مرو.

ثم أراد أن يفتح بخارى فعبر النهر ومضى إلى بخارى فنزل خرقانة السفلى فلقيته جموع كثيرة فقاتلهم وهزمهم ولما وصل بخارى استعد له ملكها فلم يظفر من البلد بشيء فرجع إلى مرو وكتب إلى الحجاج فكتب إليه الحجاج أن صورها لي فبعث إليه بصورتها فكتب إليه الحجاج أن ارجع إلى مراغتك فتب إلى اللَّه مما كان منك وائتها من مكان كذا فخرج قتيبة من مرور سنة 90 فانتصر ملك بخارى بالصغد والترك من حولهم، ولكن قتيبة سبقهم إلى بخارى فحصروها وفي أثناء الحصار جاء أهل بخارى المدد فخرجوا لقتال المسلمين فصبروا لهم ثم جال المسلمون وركبهم المشركون فحطموهم حتى دخلوا عسكر قتيبة في القلب وجاوزه حتى ضرب النساء وجوه الخيل وبكين فكر الناس راجعين وانطوت مجنبتا المسلمين على الترك فقاتلوهم حتى ردهم إلى مواقفهم فوقف الترك على نشر فقال قتيبة من يزيلهم لنا من هذا الموضع فلم يجبه أحد فمشى إلى بني تميم وقال لهم يوم كأيامكم أبي لكم الفداء فأخذ وكيع وهو رأسهم اللواء بيده وقال يا بني تميم أتسلمونني اليوم قالوا لا يا أبا مطرف وكان هزيم بن أبي طلحة المجاشعي على خيل بني تميم فقال وكيع اقدم يا هزيم ودفع إليه الراية وقال قدم خيلك فتقدم هزيم ودب وكيع في الرجال فانتهى هزيم إلى نهر بينه وبين العدو فقال له وكيع أقحم يا هزيم فنظر إليه هزيم نظر الجمل الصؤول وقال أنا أقحم خيلي هذا النهر فإن انكشفت كان هلاكها واللَّه إنك لأحمق فقال وكيع مغضباً أتخالفني وحذفه بعمود كان معه فضرب هزيم فأقحمه قال ما بعد أشد منه وعبر هزيم في الخيل وانتهى وكيع إلى النهر فدعا بخشب فقنطر النهر وقال لأصحابه من وطن منكم نفسه على الموت فليعبر ومن لا فليثبت مكانه فعبر معه 800 راجل فدب فيهم حتى إذا أعيوا أقعدهم فأراحوا ثم دنا العدو فجعل الخيل مجنبتيه وقال هزيم إني مطاعن القوم فأشغلهم عنا بالخيل وقال للناس شدوا فحملوا فما تثنوا حتى خالطوهم وحمل هزيم خيله عليهم فطاعنونهم بالرماح فما كفوا عنهم حتى حدروهم عن موقفهم وهزموهم وجرح في هذا اليوم خاقان ملك الترك وابنه. ولما تم الفتح كتب به قتيبة إلى الحجاج ولما تم لقتيبة ما أراد من بخارى هابه أهل الصغد فطلبوا صلحه فصالحهم على فدية يؤدونها.

وفي سنة 93 فتح قتيبة مدائن خوارزم صلحاً وكانت مدينة الفيل أحصنهم ثم غزا سمرقند وهي مدينة الصغد ففتحها بعد قتال شديد وبنى بها مسجداً وصلى فيه وكان معه في هذه الغزوة أهل بخارى وخوارزم ولما فتحها دعا نهار بن توسعة فقال يا نهار أين قولك:

ومات الندى والجود بعد المهلب
وقد غيبا عن كل شرق ومغرب

ألا ذهب الغزو المقرب للغني
أقام بمرو الروذ رهن ضريحه

أفغزوا هذا يا نهار قال هذا أحسن وأنا الذي أقول:

ولا هو فيما بعدنا كابن مسلم
وأكثر فينا مقسماً بعد مقسم

وما كان مذ كنا ولا كان قبلنا
أعم لأهل الترك قتلا بسيفه

ثم ارتحل قتيبة راجعاً إلى مرو واستخلف على سمرقند عبد اللَّه بن مسلم وخلف عنده جنداً كثيفاً وآله من آلات الحرب كثيرة. ثم انصرف إلى مرو فأقام بها.

وفي سنة 94 غزا قتيبة شاش وفرعانة حتى بلغ خجندة وكاشان مدينتي فرغانة وقاتله أهل خجندة قتالاً شديداً فهزمهم ثم أتى كاشان فافتتحها وفي سنة 96 افتتح مدينة كاشغر وهي أدنى مدائن الصين سار إليها من مرو فمر بفرغاته وجاءه وهو بها موت الوليد بن عبد الملك فلم يقعده ذلك عن الغزو وسار إلى كاشغر فافتتحها وكان بينه وبين ملك الصين هناك مراسلات وأرسل إليه قتيبة وفداً عليهم هبيرة بن المشمرخ الكلابي فلما كلمهم ملك الصين قال لهم قولوا لقتيبة ينصرف فإني قد عرفت حرصه وقلة أصحابه وإلا بعثت إليكم من يهلككم ويهلكه، فقال له هبيرة كيف يكون قليل الأصحاب من أول خيله في بلادك وآخرها في منابت الزيتون وكيف يكون حريصاً من خلف الدنيا قادراً عليها وغزاك وأما تخويفك إيانا بالقتل فإنا لنا آجالاً إذا حضرت فأكرمها القتل فلسنا نكرهه ولا نخافه. قال فما الذي يرضي صاحبك، قال إنه قد حلف أن لا ينصرف حتى يطأ أرضكم ويختم ملوككم ويعطي الجزية. قال فأنا نخرجه من يمينه نبعث إليه بتراب من تراب أرضنا فيطؤه ونبعث ببعض أبنائنا فيختمهم ونبعث إليه بجزية يرضاها ثم دعا بصحاف من ذهب فيها تراب وبعث بحرير وذهب وأربعة غلمان من ملوكهم ثم أجاز الوفد فساروا حتى قدموا على قتيبة فقبل الجزية وختم الغلمة وردهم ووطىء التراب ثم عاد إلى مرو.

هكذا فتح هذا القائد العظيم تلك البلاد الواسعة وضمها إلى المملكة الإسلامية فانتشر فيها الإسلام حتى أخرجت العظماء من كتاب المسلمين وفقائهم ومحدثيهم وعلمائهم. كانت لقتيبة همة لم تعرف عن الكثير من قواد الجنود وكان له في سياسة جنده الغاية فأحبهم وأحبوه وساقهم إلى الموت فلم يبالوا وسنتكلم بعد على خاتمة حياته.

وأما موسى بن نصير: فإنه ذلك القائد العظيم الذي فتح الأندلس وأدخل الإسلام في قارة أوروبا.

وأما مسلمة بن عبد الملك فإن عزيمته ظهرت في حروب الروم فكان كل سنة يسير الجنود فيفتتح ما أمامه من الحصون العظيمة التي أقامها الروم لحفظ بلادهم وربما كان يغزو معه العباس بن الوليد بن عبد الملك. ومن الحصون التي افتتحوها حصن طوانة وحصن عمورية وإذاورلية وهرقلة وقمونية وسيسطية والمرزبانين وطرسوس وكثير وغيرها حتى هابهم الروم.

ولاية العهد :

كان عبد الملك قد ولي عهده ابنيه الوليد ثم سليمان ولم يعتبر بما كان منه في حق أخيه عبد العزيز وقد أعاد الوليد عمل أبيه فأراد عزل سليمان وتولية عبد العزيز بن الوليد ودعا الناس إلى ذلك فلم يجبه إلا الحجاج بن يوسف وقتيبة بن مسلم وخواص من الناس فأشار على الوليد بعض خاصته أن يستقدم سليمان ويريده على خلع نفسه وبيعة عبد العزيز فكتب إليه فاعتل فأراد الوليد أن يسير إليه فأمر الناس بالتأهب ولكن منيته حالت دون ذلك. ومن هذا كان الجفاء الشديد بين سليمان والحجاج ومن على رأيه.

وفاة الوليد بن عبد الملك :

في منتصف جمادى الآخرة سنة 96 هـ توفي بدير مران الوليد بن عبد الملك (25 فبراير سنة 715 م) بعد أن مكث في الخلافة تسع سنين وثمانية أشهر من منتصف شوال سنة 86 إلى منتصف جمادى الثانية سنة 96.وكانت سنه إذ توفي ستاً وأربعين سنة وكان له من الأولاد تسعة عشر ابناً.

سليمان بن عبد الملك :

هو سليمان بن عبد الملك بن مروان ولد سنة 54 من الهجرة.

بويع بالخلافة بعد موت أخيه وكان بالرملة من أرض فلسطين، وكانت لأول عهده أحداث خير وشر.

كان سليمان يبغض الحجاج وأهله وولاته وكان الحجاج يخشى أن يموت الوليد قبله فيقع في يد سليمان فعجل اللَّه به وكان على العكس من ذلك يميل إلى يزيد بن المهلب عدو الحجاج الألد، فلما ولي سليمان كان أول عمل بدأ به أن ولي يزيد بن أبي كبشة السكسي السند فأخذ محمد بن القاسم وقيده وحمله إلى العراق فقال محمد ممثلاً:

ليوم كريهة وسداد ثغر

أضاعوني وأي فتى أضاعوا

فبكى أهل السند على محمد، فلما وصل إلى العراق حبس بواسط.

ثم عذبه صالح بن عبد الرحمن في رجال من آل أبي عقيل حتى قتلهم وبذلك انتهت حياة هذا القائد إرضاء لأهواء الخليفة حتى تقر نفسه بالانتقام وتناسى ما فعله ذلك القائد من عظيم الأعمال، ولا ندري كيف تنبغ القواد وتخلص قلوبهم إذا رأوا أن نتيجة أعمالهم تكون على مثل ذلك.

أما القائد الثاني قتيبة بن مسلم فإنه كان ممن وافق الوليد على غرضه في عزل سليمان وتولية ابنه عبد العزيز فاضطغنها عليه سليمان وهو يعد من صنائع الحجاج فلما ولي سليمان أشفق منه قتيبة وخاف أن يولي خراسان يزيد بن المهلب، فكتب إليه كتاباً يهنئه ويعزيه عن الوليد وبعلمه بلاءه وطاعته لعبد الملك والوليد وأنه لو على مثل ما كان لهما عليه من الطاعة والنصيحة إن لم يعزله عن خراسان وكتب كتاباً ثانياً يعلمه فيه فتوحه ونكايته وعظم قدره عند ملوك العجم وهيبته في صدورهم وعظم صوته. ويذم المهلب وآل المهلب ويحلف لئن استعمل يزيد على خراسان ليخلعنه.

وكتب كتاباً ثالثاً فيه خلعه وأرسل الكتب الثلاثة مع رجل باهلي وقال له ادفع إليه الكتاب الأول. فإن كان يزيد بن المهلب حاضراً فقرأ ورماه إليه فادفع إليه الثاني، فإن قرأه ورماه إليه فادفع إليه الثالث. فإن قرأ الكتاب الأول ولم يرمه إليه، فاحتبس الكتابين الآخرين. فقدم رسول قتيبة على سليمان وعنده يزيد بن المهلب فدفع إليه الكتاب الأول فقرأه ورماه إلى يزيد فدفع إليه الثاني فقرأه ورماه إلى يزيد فأعطاه الثالث فقرأه.

فتعمر وجهه واحتبس الكتاب في يده وحول الرسول إلى دار الضيافة. ولما أمسى أجاز الرسول وأعطاه عهد قتيبة على خراسان فخرج حتى إذا كان بحلوان بلغه ما كان من أن قتيبة غير مطمئن إلى سليمان فأجمع رأيه على خلعه فدعا الناس الذين معه إلى ذلك فأبى عليه الناس وولوا أمرهم وكيعاً سيد بني تميم فثاروا على قتيبة حتى قتلوه هو وإخوته وأكثر بنيه. قال رجل من عجم خراسان يا معشر العرب قتلتم قتيبة واللَّه لو كان منا فمات فينا جعلناه في تابوت فكنا نستفتح به إذا غزونا وما صنع أحد قط بخراسان ما صنع قتيبة إلا أنه قد غدر وذلك أن الحجاج كتب إليه أن أحتلهم واقتلهم وكانوا يسمون قتيبة هناك ملك العرب فانظروا كيف كانت قوة قتيبة وسيادته في الجماعة وكيف ضاع ذلك كله بسبب هذه الفتنة التي تعجلها قتيبة وما كان ضره لو تأنى.

كانت قيس تزعم أن قتيبة لم يخلع وإنما تجنى عليه وكيع وعلى كل حال فإن الذي حصل كان موافقاً لهوى سليمان بن عبد الملك.

وأما القائد الثالث وهو موسى بن نصير فإن خاتمة حياته كانت أتعس من صاحبيه فإنه قبل أن يتوفى الوليد استقدمه إلى دمشق فقدم وقد مات الوليد وكان سليمان منحرفاً عنه فعزله عن جميع الأعمال وحبسه وأغرمه مالاً عظيماً لم يقدر على وفائه فكان يسأل العرب في معونته وعلى الجملة فإن فاتحة عهد سليمان لم تكن مما يسر لما أصاب هؤلاء القواد العظام من التعس بعد بلائهم.

أما العامة فإنهم استبشروا به لأنه أزاح عنهم عمال الجور والعسف الذين كانوا عليهم في عهد أخيه وأطلق الأسارى وخلى أهل السجون وأحسن إلى الناس.

الفتوح في عهد يزيد :

في عهد إمارة يزيد بن المهلب خراسان فتح دهستان بعد أن حاصرها مدة طويلة ثم أتى جرجان فصالحه أهلها وخلف فيهم جنداً وسار إلى طبرستان فقاتله بها الأصبهبذ قتالاً شديداً ثم صالحه أخيراً وبينا هو محاصر طبرستان بلغه أن أهل جرجان غدروا بعامله وقتلوه هو ومن معه فعاد إليهم وفتح جرجان الفتح الأخير وقتل من أهلها مقتلة عظيمة وكان فتحه لهذه البلاد فتحاً عظيماً لأنها كانت ارتدت وقطعت الطريق على المسلمين وكتب يزيد إلى سليمان بن عبد الملك أما بعد فإن اللَّه قد فتح لأمير المؤمنين فتحاً عظيماً وصنع للمسلمين أحسن الصنع فلربنا الحمد على نعمه وإحسانه في خلافة أمير المؤمنين على جرجان وطبرستان وقد أعيا ذلك سابور ذا الأكتاف وكسرى ابن قباذ وكسرى بن هرمز وأعيا الفاروق عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان ومن بعدهما من خلفاء اللَّه حتى فتح اللَّه ذلك لأمير المؤمنين كرامة من اللَّه له وزيادة في نعمه عليه وقد صار عندي من خمس ما أفاء اللَّه وأنا حامل ذلك لأمير المؤمنين إن شاء اللَّه.

في بلاد الروم :

في عهد سليمان سنة جهز أخاه مسلمة بن عبد الملك بجند عظيم لفتح القسطنطينية وأمره أن يقيم عليها حتى يفتحها أو يأتيه بها أمره فجاءها وحصرها وشتى بها وصاف ومات سليمان وهو له محاصر.

ولاية العهد :

كان سليمان بن عبد الملك قد عهد لابنه أيوب فمات وهو ولي عهده فلما مرض سليمان استشار رجاء بن حيوة في تولية عمر بن عبد العزيز فوافقه على ذلك وكتب بسم اللَّه الرحمن الرحيم هذا كتاب من عبد اللَّه سليمان أمير المؤمنين لعمر بن عبد العزيز إني قد وليتك الخلافة من بعدي ومن بعدك يزيد بن عبد الملك فاسمعوا له وأطيعوا واتقوا اللَّه ولا تختلفوا فيطمع فيكم عدوكم وختم الكتاب وأمر بجمع أهل بيته فلما اجتمعوا قال لرجاء اذهب بكتابي هذا إليهم فأخبرهم أن هذا كتابي ومرهم فليبايعوا من وليت فبايعوا كلهم من غير أن يعلموا من سماه. وفاة سليمان :

يوم الجمعة لعشر بقين من صفر سنة 99 هـ توفي سليمان بن عبد الملك بدابق من أرض قنسرين بعد أن حكم سنتين وثمانية أشهر وخمسة أيام وكانت سنه إذ توفي 45 سنة «

عمر بن عبد العزيز :

ترجمته:

هو عمر بن عبد العزيز بن مروان ولد سنة 62 هجرية وأمه أم عاصم بنت عاصم بن عمر بن الخطاب. ولي الخلافة بعد سليمان بن عبد الملك باستخلافه إياه.

لما مات سليمان خرج رجاء بعهده الذي لم يكن فتح وجمع بني أمية في مسجد دابق وطلب منهم المبايعة مرة ثانية لمن سماه سليمان في كتابه فلما تمت بيعتهم أخبرهم بوفاة أمير المؤمنين وقرأ عليهم الكتاب ولما انتهى أخذ بضبعي عمر فأجلسه على المنبر وهو يسترجع لما وقع فيه وهشام بن عبد الملك يسترجع لما أخطأه.

ولما تمت البيعة بمراكب الخلافة البراذين والخيل والبغال ولكل دابة سائس فقال ما هذا قالوا مركب الخلافة قال دابتي أوفق لي وركب دابته فصرفت تلك الدواب ثم أقبل سائراً فقيل له منزل الخلافة فقال فيه عيال أبي أيوب وفي فسطاطي كفاية حتى يتحولوا فأقام في منزله حتى فرغوه بعد.

كان عمر بن عبد العزيز بعيداً عن كبرياء الملوك وجبروتهم فأعاد إلى الناس سيرة الخلفاء الراشدين الذين كانوا ينظرون إلى أمتهم نظر الأب البار ويعدلون بينهم في الحقوق ويعفون عن أموال الرعية والدنيا عندهم أهون من أن يهتم بجمعها كذلك كان عمر بن عبد العزيز.

في أول خلافته أرسل كتاباً عاماً إلى جميع العمال بالأمصار هذه نسخته أما بعد فإن سليمان بن عبد الملك كان عبداً من عبيد اللَّه أنعم اللَّه عليه ثم قبضه واستخلفني ويزيد بن عبد الملك من بعدي إن كان، وإن الذي ولاني اللَّه من ذلك وقدر لي ليس على بهين ولو كانت رغبتي في اتخاذ أزواج واعتقال أموال كان في الذي أعطاني من ذلك ما قد بلغ بي أفضل ما بلغ بأحد من خلقه وأنا أخاف فيما ابتليت به حساباً شديداً ومسألة غليظة إلا ما عافى اللَّه ورحم وقد بايع من قبلنا فبايع من قبلك. وهذا الكتاب ينبىء عن حقيقة الرجل وتواضعه وبعده عن الزهو والكبرياء وشعوره بعظيم ما ألقي عليه من أمر المسلمين.

مما يدل على حبه للعدل والوفاء أن أهل سمرقند قالوا لعاملهم سليمان بن أبي السرح إن قتيبة غدر بنا وظلمنا وأخذ بلادنا وقد أظهر اللَّه العدل والإنصاف فأذن لنا فليفد منا وفد إلى أمير المؤمنين يشكون ظلامتنا فإن كان لنا حق أعطيناه فإن بنا إلى ذلك حاجة فأذن لهم فوجهوا منهم قوماً إلى عمر فلما علم عمر ظلامتهم كتب إلى سليمان يقول له إن أهل سمرقند قد شكوا ظلماً أصابهم وتحاملاً من قتيبة عليهم حتى أخرجهم من أرضهم فإذا أتاك كتابي فأجلس لهم القاضي فلينظر في أمرهم فإن قضى لهم فأخرجهم إلى معسكرهم كما كانوا وكنتم قبل أن ظهر عليهم قتيبة فأجلس لهم سليمان جميع بن حاضر.

ومن أعماله العظيمة تركه لسب علي بن أبي طالب على المنابر وكان بنو أمية يفعلونه فتركه وكتب إلى الأمصار بتركه. وكان الذي وقر ذلك في قلبه أنه لما ولي المدينة كان من خاصته عبيد اللَّه بن عتبة بن مسعود من فقهاء المدينة فبلغه عن عمر شيء مما يقول بنو أمية فقال عبيد اللَّه متى علمت أن اللَّه غضب على أهل بدر وبيعة الرضوان بعد أن رضيعنهمفقال لم أسمع ذلك قال فما الذي بلغني عنك في علي فقال عمر معذرة إلى اللَّه وإليك وترك ما كان عليه فلما استخلف وضع مكان ذلك {إن اللَّه يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهي عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون} [النحل: 9] فأي شر رفع وأي خير وضع قال في ذلك كثير عزة:

بريا ولم تتبع مقالة مجرم
تبين آيات الهدى بالتكلم
فعلت فأضحى راضياً كل مسلم
من الأود البادي ثقات المقوم

وليت فلم تشتم عليا ولم تخف
تكلمت بالحق المبين وإنما
وصدقت معروف الذي قلت بالذي
ألا إنما يكفي الفتى بعد زيغه

ومن إصلاحه أمره بعمل الخانات في البلدان القاصية فقد كتب إلى سليمان بن أبي السرح أن اعمل خانات فمن مر بك من المسلمين فأقروه يوماً وليلة وتعهدوا دوابهم ومن كانت به علة فأقروه يومين وليلتين وإن كان منقطعاً فأبلغه بلده.

ومما يذكر له أن أبطل مغارم كثيرة كانت قد استحدثت في عهد الحجاج بن يوسف فقد كتب إلى أمير العراق أما بعد فإن أهل الكوفة قد أصابهم بلاء وشدة وجور في أحكام اللَّه وسنة خبيثة سنها عليهم عمال السوء وإن قوام الدين العدل والإحسان فلا يكون شيء أهم إليك من نفسك فلا تحملها إلا قليلاً من الإثم ولا تحمل خراباً على عامر وخذ منه ما طاق وأصلحه حتى يعمر ولا يؤخذن من العامر إلا وظيفة الخراج في رفق وتسكين لأهل الأرض ولا تأخذ أجور البيوت ولا درهم النكاح ولا خراج على من أسلم من أهل الذمة فاتبع في ذلك أمري فإني قد وليتك من ذلك ما ولاني اللَّه.

ومما فعله أنه نهى عن تنفيذ حكم أو قطع إلا بعد أن يراجع فيه بعد أن كانت الدماء قبله تراق من غير حساب بل على حسب هوى الأمير.

ومن الحكمة أن لا يتساهل في مثل هذه الحدود وضم رأي الخليفة إلى رأي القاضي الذي حكم ضمان كبير لأن يكون الحكم قد وقع موقعه.

رده المظالم لأهلها لما ولى الخلافة أحضر قريشاً ووجوه الناس فقال لهم إن فدك كانت بيد رسول اللَّه r فكان يضعها حيث أراد اللَّه ثم وليها أبو بكر وعمر كذلك ثم أقطعها مروان ثم إنها قد صارت إلي ولم تكن من مالي أعود منها علي وإني أشهدكم قد رددتها على ما كانت عليه في عهد رسول اللَّه r وقال لمولاه مزاحم أن أهلي أقطعوني ما لم يكن لي أن آخذ ولا لهم أن يعطونيه وإني قد هممت برده على أربابه.

كان عمر غير مترف فكان مصرفه كل يوم درهمين وكان يتقشف في ملبسه كجده عمر بن الخطاب ولم يتزوج كعمر غير فاطمة بنت عبد الملك بن مروان وكان أولاده يعينونه على الخير وكان أشدهم معونة له ابنه عبد الملك.

وعلى الجملة فإن عمر بن عبد العزيز من أفراد الخلفاء الذين لا يسمح بهم القدر كثيراً ويرى المسلمون أن عمر هو الذي بعث على رأس المائة الثانية ليجدد للأمة أمر دينها كما جاء في حديث » إن اللَّه يبعث على رأس كل مائة سنة من يجدد لهذه الأمة أمر دينها «.

لم يحدث في عهد عمر شيء من الحوادث الداخلية المهمة إلا ما كان من القبض على يزيد بن المهلب واحضاره إلى عمر فسأله عن الأموال التي كتب بها إلى سليمان بن عبد الملك فقال كنت من سليمان بالمكان الذي قد رأيت وإنما كتبت إلى سليمان لأسمع الناس وقد علمت أن سليمان لم يكن ليأخذني به فقال لا أحد في أمرك إلا حبسك فاتق اللَّه وأد ما قبلك فإنها حقوق المسلمين ولا يسعني تركها وحبس بحصن حلب.

ومن الحوادث الخارجية في عهده أنه كتب إلى ملوك السند يدعوهم إلى الإسلام وقد كانت سيرته بلغتهم فأسلم ملوك السند وتسموا بأسماء العرب.

واستقدم مسلمة بن عبد الملك من حصار القسطنيطينية وأمر أهل طرندة بالقفول عنها إلى ملطية وطرندة داخلة في البلاد الرومية من ملطية ثلاث مراحل وكان عبد اللَّه بن عبد اللَّه قد أسكنها المسلمين بعد أن غزاها سنة 83 وملطية يومئذ خراب وكان يأتيهم جند من الجزيرة يقيمون عندهم إلى أن ينزل الثلج ويعودون إلى بلادهم فلم يزالوا إلى أن ولي عمر فأمرهم بالعودة إلى ملطية وأخلى طرندة خوفاً على المسلمين من العدو وأخرب طرندة.

وفاة عمر بن عبد العزيز:

في 25 رجب سنة 101 توفي عمر بن عبد العزيز بدير سمعان وكانت مدته سنتين وخمسة أشهر وأربعة أيام.

يزيد بن عبد الملك :

ترجمته:

هو يزيد بن عبد الملك بن مروان ولد سنة 65 وعهد إليه سليمان بن عبد الملك بالخلافة بعد عمر بن عبد العزيز فلما توفي عمر بويع بها فلما تولى عمد إلى كل صالح فعله عمر فأعاده إلى ما كان عليه وهو أول خليفة من بني أمية عرف بالشراب وقتل الوقت في معاشرة القيان. وفي أول عهده كانت فتنة يزيد بن المهلب فإنه لما هرب من محبس عمر وبلغه موته وخلافة يزيد بن عبد الملك قصد البصرة وعليها عدي بن أرطاة فاستولى عليها وعلى ما يليها من فارس والأهواز فبعث إليه يزيد بن عبد الملك جيشاً عظيماً يقوده أخوه مسلمة بن عبد الملك. خطب ابن المهلب أهل البصرة وأخبرهم أنه يدعوهم إلى كتاب اللَّه وسنته وحثهم على الجهاد وزعم أن جهاد أهل الشام أعظم ثواباً من جهاد الترك والديلم. فسمعه الحسن البصري سيد فقهاء أهل البصرة فقال واللَّه لقد رأيناك والياً وموالياً عليك فما ينبغي لك ذلك فقام إليه أناس فأسكتوه خوفاً من أن يسمعه ابن المهلب.

وروى الطبري أن الحسن مر على الناس وقد اصطفوا صفين وقد نصبوا الرايات والرماح وهم ينتظرون خروج ابن المهلب وهم يقولون يدعونا إلى سنة العمرين فقال الحسن إنما كان يزيد بالأمس يضرب أعناق هؤلاء الذين ترون ثم يسرح بها إلى بني مروان يريد بهلاك هؤلاء القوم رضاهم فلما غضب غضبة نصب نصباً ثم وضع عليها خرقاً ثم قال إني قد خالفتهم فخالفوهم قال هؤلاء القوم نعم وقال إني أدعوكم إلى سنة العمرين وإن من سنة العمرين أن يوضع قيد في رجله يرد إلى محبس عمر الذي فيه حبسه.

وولي ابن هبيرة سعيد الخرشي على خراسان وكانت له مع الصغد أهل سمرقند وقائع عظيمة من كثرة ما نقضوا كاد يستأصلهم فيها.

وفي عهده دخل جيش للمسلمين بلاد الخزر من أرمينية وعليهم ثبيت النهراني فاجتمعت الخزر في جمع كثير وأعانهم قفجاق وغيرهم من أنواع الترك فلقوا المسلمين بمكان يعرف بمرج الحجارة فاقتتلوا هناك قتالاً شديداً فقتل من المسلمين بشر كثير واحتوت الخزر على عسكرهم وغنموا جميع ما فيه وأقبل المنهزمون إلى الشام فقدموا على يزيد بن عبد الملك وفيهم ثبيت فوبخهم يزيد على الهزيمة فقال يا أمير المؤمنين ما جبنت ولا نكبت عن لقاء العدو ولقد لصقت الخيل بالخيل والرجل بالرجل ولقد طاعنت حتى انقصف رمحي وضاربت حتى انقطع سيفي، غير أن اللَّه تبارك وتعالى يفعل ما يريد.

ولما غلب الخزر هذه المرة طمعوا في بلاد المسلمين فجمعوا وحشدوا واستعمل يزيد الجراح بن عبد اللَّه الحكمي حينئذ على أرمينية وأمده بجيش كثيف وأمره بغزو الخزر وغيرهم من الأعداء فسار الجراح حتى وصل برذعة، وبعد أن استراح سار نحو الخزر فعبر نهر الكرو، ولما وصل إلى مدينة الباب والأبواب لم يجد فيها أحداً من الخزر فدخلها بغير قتال ثم أقبل إليه الخزر وعليهم ابن ملكهم فقاتلهم الجراح وظفر بهم ظفراً عظيماً ثم سار حتى نزل على حصن يعرف بالحصين أهله بالأمان على مال يحملونه فأمنهم وتسلم حصنهم ونقلهم عنه.

ثم سار إلى بلنجر، وهو حصن عظيم من حصونهم فنازله وافتتحه عنوة بعد قتال زاغت فيه الأبصار، ثم إن الجراح أخذ أولاد صاحب بلنجر وأهله وأرسل إليه فحضر ورد إليه أمواله وأهله وحصنه وجعله عيناً لهم يخبره بما يفعل العدو، ثم سار عن بلنجر فنزل على حصن الوبندر وبه نحو أربعين ألفاً من الترك فصالحوا الخراج على مال يؤدونه، وعلى الجملة فقد كان الجراح أعظم الولادة أثراً وفتحاً في تلك البلاد القاصية.

ولاية العهد:

كان يزيد يريد تولية ابنه الوليد من بعده، فقيل له إنه صغير، فولى أخاه هشاماً ومن بعده ابنه الوليد.

وفاة يزيد :

لأربع عشرة من شهر ربيع الأول سنة 64 (10 نوفمبر سنة 683 م) توفي يزيد بن معاوية بحوران من أرض الشام وسنه تسع وثلاثون سنة ومدة خلافته ثلاث سنوات وثمانية أشهر وأربعة عشر يوماً.

هشام بن عبد الملك :

ترجمته:

هو هشام بن عبد الملك بن مروان عاشر الأمويين وسابع المروانيين ولد سنة 92 من الهجرة وكان أبوه عبد الملك إذ ذاك يحارب مصعب بن الزبير، وأمه عائشة بنت هشام بن المخزومية.

وكان حين مات أخوه يزيد مقيماً بحمص وهناك جاءه البريد بالعصا والخاتم وسلم عليه بالخلافة فأقبل حتى أتى دمشق وتمت له البيعة فأقام خليفة إلى سادس ربيع الأول سنة 125 أي تسع عشرة سنة وستة أشهر وأحد عشر يوماً وكان هشام معدوداً من خير خلفاء بني أمية ولعمري إن من كان من خلقه الحلم والعفة لجدير من ذلك.

الأحوال الداخلية في عهده :

في العراق والشرق ــ كان أمير العراق ــ حين ولي هشام عمر بن هبيرة وكان لهشام فكر حسن في أهل اليمن فعزل ابن هبيرة وولي بدله خالد بن عبد اللَّه القسري وهو قحطاني. فاختار لولاية خراسان أخاه أسد بن عبد اللَّه واستعمل الجنيد بن عبد الرحمن على السند.

ولَّى هشام خراسان أشرس بن عبد اللَّه السلمي وأمره أن يكاتب خالداً وكان أشرس فاضلاً خيراً وكانوا يسمونه الكامل لفضله، فلما قدم خراسان فرحوا به ولأول عهده أرسل إلى أهل سمرقند وما وراء النهر يدعوهم إلى الإسلام على أن توضع عنهم الجزية فسارع الناس هناك إلى الإسلام فكتب صاحب الخراج إلى أشرس إن الخراج قد انكسر فكتب أشرس سمرقند إن في الخراج قوة للمسلمين وقد بلغني أن أهل الصغد وأشباههم لم يسلموا رغبة إنما أسلموا تعوذاً من الجزية فانظر من اختتن وأقام الفرائض وقرأ سورة من القرآن فارفع خراجه.

كان رسول أشرس إلى الصغد بدعوة الإسلام أبا الصيداء صالح بن طريف فلما رأى العمال يطالبون من أسلم بالجزية منعهم من ذلك فلجوا ولج وكانت النتيجة أن عصى الصغد وأعانهم أبو الصيداء ومن كان معه فاحتال أمير جند أشرس على أبي الصيداء وبقية الرؤساء الذين ساعدوه حتى جيء بهم فحبسهم واستخف بعدذلك بعظماء العجم والدهاقين فكفر أهل الصغد واستجاشوا الترك فأعانوهم.

لما علم بذلك أشرس خرج غازياً في جنوده حتى عبر النهر من عند آهل فأقبل الصغد والترك وكانت بين الفريقين موقعة عظيمة كاد المسلمون ينهزمون فيها لولا أن رجعوا فثبتواحتى هزموا عدوهم، ثم سار أشرس حتى نزل بيكند فقطع العدو عنهم الماء وكادوا يهلكون عطشاً لولا أن انتدب شجعانهم إلى الترك فأزالوهم عن الماء واستقى الناس ثم غلبوهم على مواقعهم فأزالوا عنها وهزموهم.

وفي سنة 111 عزل هشام أشرس بن عبد اللَّه عن خراسان واستعمل بدله الجنيد بن عبد الرحمن المري فلما جاء خراسان فرق عماله ولم يستعمل إلا مضرياً.

وفي سنة 112 خرج غازياً يريد طارستان فوجه جنداً عدده ثمانية عشر ألفاً إلى طخارستان وجنداً عدده عشر آلاف إلى وجه آخر فكتب إليه أمير سمرقند أن خاقان ملك الترك جاش فخرجت إليهم فلم أطلق أن أمنع حائط سمرقند فالغوث الغوث فأمر الجنيد الجند بعبور النهر. فقال له ذوو الرأي ممن معه إن أمير خراسان لا يعبر النهر في أقل من خمسين ألفاً وأنت قد فرقت جندك، قال فكيف بسورة (أمير سمرقند) ومن المسلمين لو لم أكن إلا في بني مرة أو من طلع معي من الشام لعبرت ثم عبر فنزل كش وتأهب للمسير فبلغ الترك خبره فغوروا الآبار فسار الجند بالناس حتى صار بينه وبين سمرقند أربعة فراسخ ودخل الشعب فصبحه خاقان في جمع عظيم وزحف إليه أهل الصغد وفرغانة والشاش وطائفة من الترك وهنا ظهرت العزائم الثابتة من قواد المسلمين فأبلوا بلاء حسناً مع قلة عددهم وكثرة عدوهم ولما اشتد القتال ورأى الجنيد شدة الأمر استشار أصحابه فقال له عبد اللَّه بن حبيب اختر إما تهلك أنت أو سورة بن الحر، قال هلاك سورة أهون علي قال فاكتب إليه فليأتك في أهل سمرقند فإنه إذا بلغ الترك إقباله توجهوا إليه فقاتلوه فكتب الجنيد إلى سورة يأمره بالقدوم، فرحل سورة عن سمرقند في اثني عشر ألفاً فلما كان بينه وبين الجنود فرسخ واحد لقيهم فقاتلهم أشد قتال فانكشف الترك وثار الغبار فلم يبصروا وكان من وراء الترك لهب فسقطوا فيه وسقط العدو والمسلمون وسقط سورة فاتقدت فخذه وتفرق الناس فقتلهم الترك ولم ينج منهم إلا القليل.

وفي سنة 116 عزل الجنيد عن خراسان وولي بدله عاصم بن عبد اللَّه الهلالي وكان هشام قد غضب على الجنيد لأنه تزوج الفاصلة بنت يزيد المهلب فقال لعاصم إن أدركته وبه رمق فأزهق نفسه فجاء عاصم وقد مات الجنيد فأراحه اللَّه من هذا الشر الذي صار عادة في هذه الدولة ولم يكتف عاصم بذلك بل أخذ عمال الجنيد وعذبهم.

وفي عهده خرج عليه الحارث بن سريج لابساً السواد داعياً إلى كتاب اللَّه وسنة نبيه والبيعة للرضا وتبعه خلق كثير فاستولى على البلخ والجوزجان ثم قصد مرو بها عاصم فقابله على أبوابها فهزمه هزيمة منكرة وغرق من جنده بشر كثير في أنهار مرو وفي النهر الأعظم وهرب الحارث.

وفي سنة 119 غزا أسد الختل وغلب على قلعتهم العظمى وفرق العسكر في أودية الختل فملئوا أيديهم من الغنائم والسبي وهرب أهله إلى الصين وفي سنة 120 توفي أسد ببلخ وكان من خيرة الولاة بخراسان وأبعدهم همة وأشدهم شكيمة.

وفي سنة 111 عزل هشام مسلمة ورد الجراح فدخل بلاد الخزر من ناحية نفليس ففتح مدينتهم البيضاء وانصرف سالماً فجمعت الخزر جموعها واحتشدت وساعدتهم الترك من ناحية اللان فلقيهم الجراح فيمن معه من أهل الشام فاقتتلوا أشد قتال رآه الناس فصبر الفريقان وتكاثرت الخزر والترك على المسلمين فقتل الجراح ومن معه بمرج أردبيل، وبذلك طمع الخزر في البلاد وأوغلوا فيها حتى قاربوا الوصل وعظم الخطب. فلما علم ذلك هشام استعمل على تلك البلاد سعيداً الحرشي وأتبعه بالجنود، ولما وصل وأرزن فلول الجراح فأخبرهم معه حتى وصل إلى خلاط فافتتحها عنوة ثم سار عنها وفتح القلاع والحصون شيئاً بعد شيء إلى أن وصل برذع فنزلها.

وفي سنة 114 قدم على هشام مروان بن محمد فشكا إليه مسلمة وأنه لم يفعل شيئاً مع هذا العدو الشديد وطلب إليه أن يوليه أرمينية وأن يمده بمائة وعشرين ألف مقاتل ليوقع بالخزر والترك وقعة يؤدبهم بها فأجابه إلى ذلك هشام وعزل مسلمة وولي مروان الجزيرة وأرمينية وأذربيجان وسير الجنود إليه فدخل مروان بلاد الخزر وسار فيها حتى انتهى إلى آخرها وملك الخزر ينفض بجموعه أمامه ذليلاً فأقام مروان في تلك البلاد أياماً ودخل بلاد السرير فأوقع بأهله وفتح أقلاها ودان له الملك ولما رأى أهل تلك البلاد ما عليه مروان من القوة صالحوه فعاد عنهم وكان مروان أن يلح على أهل تلك البلاد بإظهار القوة حتى لم يكونوا يحدثون أنفسهم بحربه وخافه الترك خوفاً شديداً ودانت له جميع البلاد على شاطىء بحر الخزر.

في الشمال :

كانت الحرب لا تنقطع بين المسلمين والروم من جهة الحد الشمالي للبلاد الإسلامية ولتلك كانت حماية الثغور مما يهتم به الخلفاء جد الاهتمام ويولون أمرها كبار القواد وكانت الشواتي والصوائف دائمة الحركة، وممن اشتهر بقيادة الجيوش في تلك الأصقاع مروان بن محمد قبل أن يولي أرمينية ومسلمة بن عبد الملك ومعاوية بن هشام وسعيد بن هشام وسليمان بن هشام، وقد افتتحوا في غزواتهم بلداناً كثيرة رومية منها قونية وخرشنة وقيسارية وكثيراً من الحصون والقلاع.

وكانت مراكب البحر لا تزال تغير على الروم من البحر وكان أمير البحر في عهد هشام عبد الرحمن بن معاوية بن خديج ومن أكبر القواد عبد اللَّه بن عقبة.

ومما ينبغي ذكره في حروب الروم قتل عبد الوهاب بن بخت سنة 113، وكان يعزو مع عبد اللَّه البطال أرض الروم فانهزم الناس عن البطال فحمل عبد الوهاب وصاح أنا عبد الوهاب بن بخت، أمن الجنة تفرون ثم تقدم في نحر العدو فمر برجل يقول واعطشاه، فقال تقدم الري أمامك فخالط القوم فقتل، وفي سنة 122 قتل عبد اللَّه البطال وكان كثير الغزو إلى بلاد الروم والإغارة على بلادهم وله عندهم ذكر عظيم وكانوا يخافونه خوفاً شديداً وسيره عبد الملك بن مروان مع ابنه مسلمة إلى بلاد الروم وأمره على رؤوس أهل الجزيرة والشام وأمره أن يجعله على مقدمته وطلائعه وقال إنه ثقة شجاع مقدام فجعله مسلمة على عشرة آلاف فارس فكان بينه وبين الروم.

في الحجاز :

كان والي الحجاز محمد بن هشام المخزومي خال عبد الملك بن مروان وفي سنة 106 حج هشام بن عبد الملك.

واستمر أمير الحجاز محمد بن هشام وهو الذي يقيم الناس حجهم إلا في سنة 116 فإن الذي أقام الحج هو الوليد بن يزيد بن عبد الملك ولي العهد وفي سنة 123 حج يزيد بن هشام بن عبد الملك.

ولم يحصل في الحجاز حوادث ولا ثورات في عهد هشام.

ولاية العهد:

كان ولي العهد بحسب وصية يزيد بن عبد الملك هو الوليد بن يزيد فبدا لهشام أن يعزله ويولي بدله ابنه مسلمة واحتال لذلك فلم يفلح وإن كان قد أجابه بعض القواد إلى ما أراد وقد انتهى زمن هشام والوليد مباعد له نازل بالأزرق على ماء له بالأردن.

وفاة هشام :

لست خلون من شهر ربيع الآخر سنة 125 توفي هشام بن عبد الملك وكانت خلافته تسع عشرة سنة وستة أشهر وأحد عشر يوماً من 25 شعبان سنة 105 إلى ربيع الأول سنة 125

صف ة هشام:

كان هشام مشهوراً بالحلم والعفة، شتم مرة رجلاً من الأشراف فقال له الرجل أما تستحي أن تشتمني وأنت خليفة اللَّه في الأرض. فاستحيا منه هشام وقال اقتص مني قال إن أنا سفيه مثلك قال فخذ مني عوضاً من المال قال ما كنت لأفعل، قال فهبها للَّه، قال هي للَّه ثم لك. فنكث هشام رأسه واستحيا وقال واللَّه لا أعود لمثلها أبداً.

الوليد بن يزيد الثاني :

هو الوليد بن يزيد بن عبد الملك بن مروان وأمه أم الحجاج بنت محمد بن يوسف الثقفي كان والياً للعهد بعد هشام وكان مغاضباً له في حياته حتى خرج وأقام في البرية كما ذكرناه.

ولم يزل مقيماً في تلك البرية حتى مات هشام فجاءه الكتاب بموته وبيعة الناس له فكان أول ما فعله أن كتب إلى العباس بن عبد الملك بن مروان أن يأتي الرصافة فيحمي ما فيها من أموال هشام وولده وعياله وحشمه إلا مسلمة بن هشام فإنه كلم أباه في الرفق بالوليد فقدم العباس الرصافة ففعل ما كتب به الوليد.

كان مما يهم الوليد أن ينتقم من كل من أعان هشاماً عليه وهم كثير من سادة الأمة وأفراد البيت الأموي.

كان ممن أجاب هشاماً إلى خلع الوليد محمد وإبراهيم ابنا هشام بن إسماعيل المخزوميان فوجه الوليد إلى المدينة يوسف بن محمد الثقفي والياً عليها ودفع إليه محمداً وإبراهيم موثقين في عباءتين فقدم بهما المدينة فأقامهما للناس ثم حملا الشام فأحضرا عند الوليد فأمر بجلدهما فقال محمد أسألك بالقرابة. قال أي قرابة بيننا قال فقد نهى رسول اللَّه r عن ضرب بسوط إلا في حد قال ففي حد أضربك وقود أنت أول ما فعل بالعرجى وهو ابن عمي وابن أمير المؤمنين عثمان وكان محمد قد أخذه وقيده وأقامه للناس وجلده وسجنه إلى أن مات بعد تسع سنين لهجاء العرجي إياه ثم أمر به الوليد فجلد هو وأخوه إبراهيم ثم أوقفهما حديداً وأمر أن يبعث بهما إلى يوسف بن عمر وهو على العراق فلما قدم بهما عليه عذبهما حتى ماتا.

وأخذ سليمان بن عبد الملك فضربه مائة سوط وحلق رأسه ولحيته وغربه إلى عمان من أرض الشام وحبس يزيد بن هشام وفرق بين زوج بن الوليد وبين امرأته وحبس عدة من ولد الوليد وهؤلاء الثلاثة من أفراد البيت المالك.

وكان خالد بن عبد اللَّه القسري سيداً من سادات اليمن فطلب إليه الوليد أن يبايع لابنيه الحكم وعثمان بولاية العهد من بعده فأبى فغضب عليه الوليد وكان ذلك سبباً في أن أرسله إلى يوسف بن عمر الثقفي والي العراق فنزع ثيابه وألبسه عباءة وحمل في محمل بغير وطاء وعذبه عذاباً شديداً وهو لا يكلمه كلمة ثم حمله إلى الكوفة فعذبه عذاباً شديداً حتى مات فأفسد ذلك على الوليد قلوب اليمانية وفسدت عليه قضاعة وهم أكبر جند الشام.

وصار بنو أمية يشيعون عن الوليد بين الناس القبائح ورموه بالكفر وكان أكثرهم فيه يزيد بن عبد الملك وكان الناس إلى قوله أميل لأنه كان يظهر النسك.

بذلك كله نفرت من الوليد قلوب الخاصة والعامة وما سبب ذلك كله إلا شهوة الانتقام التي لا يستقيم بها ملك ولا يكون معهاصلاح وإذا كان الانتقام يقبح بالناس فهو من الملوك أقبح وبذهاب ملكهم أسرع.

أتت اليمانية يزيد بن الوليد فأرادوه على البيعة فاستشار في ذلك أخاه العباس بن الوليد فنهاه عن ذلك ولكنه لم ينته وبايعه الناس سراً وبعث دعاته فدعوا إليه الناس وبلغ الخبر مروان بن محمد بن مروان وهو بآرمينية فكتب إلى سعيد بن عبد الملك يأمره أن ينهى الناس ويكفهم ويحذرهم الفتنة ويخوفهم خروج الأمر عنهم فأعظم سعيد ذلك وبعث بكتاب مروان بن العباس بن الوليد فاستدعى العباس يزيد وتهدده فكتمه يزيد الخبر فصدقه ولما اجتمع ليزيد أمره أقبل إلى دمشق وقد بايع له أكثر أهلها سراً وكان واليها عبد الملك بن محمد بن الحجاج فاستولى يزيد على دمشق وجهز جيشاً لمقاتلة الوليد عليه عبد العزيز بن الحجاج بن عبد الملك فذهب إليه وهو بالأغدف من أرض عمان فقاتله ولما أحس الوليد بالغلبة دخل قصره وأغلق عليه بابه وجلس وأخذ مصحفاً فنشره يقرأ فيه وقال يوم كيوم عثمان فصعدوا على الحائط ودخلوا عليه فقتلوه وحزوا رأسه وذهبوا به إلى يزيد فنصبه على رمح وطيف به في دمشق. وكان قتله لليلتين بقيتا من جمادي الآخرة سنة 126 وكانت مدة خلافته سنة وثلاثة أشهر « وبقتله افتتح باب الشؤم على بني أمية.

يزيد بن الوليد بن عبد الملك (الثالث):

هو يزيد بن الوليد بن عبد الملك بن مروان وأمه أم ولد اسمها شاه آفريد بنت فيروز بن جرد بن شهريار بن كسرى.

بويع بالخلافة بعد مقتل الوليد بن يزيد بن عبد الملك لليلتين بقيتا من جمادي الآخرة سنة 126، وكان يسمى يزيد الناقص، قيل لأنه نقص من أعطيات الناس ما زاده الوليد بن يزيد وردها إلى ما كانت عليه زمن هشام. وكانت ولاية يزيد فاتحة اضطراب في البيت الأموي ومبدأ انحلاله وذهاب سعادته.

وأول ما كان من الاضطرابات بالشام قيام أهل حمص ليأخذوا بثأر الوليد ممن قتله وأمروا عليه معاوية بن يزيد بن حصين ونابعهم على ما أرادوا من ذلك مروان بن عبد اللَّه بن عبد الملك وكان عاملاً للوليد على حمص وهو من سادة بني مروان نبلاً وكرماً وعقلاً وجمالاً؛ فلما بلغ يزيد خبرهم أرسل إليهم رسلاً فيهم يعقوب بن هانىء وكتب إليهم أنه ليس يدعو إلى نفسه وإنما يدعو إلى الشورى فلم يرضى بذلك أهل حمص وطردوا رسل يزيد وحينئذ جهز لهم جيشاً عليه سليمان بن هشام فسار ذلك الجيش حتى نزل حوارين. كان أهل حمص يريدون الذهاب إلى دمشق فأشار عليهم مروان بن عبد اللَّه أن يبدءوا بقتال هذا الجيش فاتهموه فقتلوه هو وابنه وولوا أبا محمد السقباني وتركوا جيش سليمان ذات اليسار وساروا إلى دمشق فسار سليمان مجداً في أثرهم فلحقهم بالسليمانية وكان يزيد قد أرسل جنداً آخر يقدمه عبد العزيز بن الحجاج فاجتمع الجندان على أهل حمص فهزموهم وقتلوا منهم عدداً عظيماً ولما رأوا ذلك دانوا ليزيد وبايعوه.

وكما فعل أهل حمص فعل أهل فلسطين فإنهم طردوا عاملهم وولوا أمرهم يزيد بن سليمان بن عبد الملك وكذلك فعل أهل الأردن وولوا محمد بن عبد الملك واجتمعوا مع أهل فلسطين على قتال يزيد بن عبد الملك فسير إليهم يزيد سليمان بن هشام في أهل دمشق وأهل حمص الذين كانوا مع السقباني وكانت عدتهم أربعة وثمانين ألفاً ولم تتم لأهل فلسطين والأردن لأنهم اختلفوا فتفرق أمرهم وانتهوا بالبيعة ليزيد.

وكما كان هذا الخلاف والشقاق بالشام كان الأمر على أشد من ذلك بالعراق والمشرق فإن يزيد ولي العراق منصور بن جمهور وعزل عنه يوسف بن عمر فذهب منصور إلى الكوفة وأخذ البيعة بها ليزيد ثم أرسل العمال إلى خراسان فامتنع نصر بن سيار من تسليم عمله إلى عمال منصور وضبط البلاد وأعطى الناس بعض أعطياتهم فطالبوه ببقية العطاء فأبى ذلك عليهم، فقام في وجهه رجل من كبار اليمن هو جديع بن علي الأزدي المعني ويلقب بالكرماني لأنه ولد بكرمان وقام معه اليمانية يريدون إفساد الأمر على نصر فقامت النزارية مع نصر عصبية له وبذلك نبض عرق العصبية الجاهلية بين الحيين العظيمين من العرب وهما اليمانية والنزارية، فاستحضر نصر الكرماني وحبسه فاحتالت الأزد حتى أخرجوه من محبسه وجمع الناس لحرب وكادت تقع بينهما لولا أن سعى الناس للصلح بينهما ولكنه صلح على فساد لأن كلاً منهما كان يخاف الآخر وبهذا صارت بلاد خراسان مرعى هنيئاً لدعاة بني العباس، ولم يكن عند ولاة الأمر من بني أمية بالشام ما يمكنهم من سد هذه الثلمة التي أثاروها على أنفسهم بهذا الانشقاق المؤذن بالانحلال.

لم تطل مدة يزيد في الخلافة فإنه توفي لعشر بقين من ذي الحجة سنة 126 بعد خمسة أشهر واثنين وعشرين يوماً من استخلافه وكان قد عهد بالولاية من بعده لأخيه إبراهيم بن الوليد ثم لعبد العزيز بن عبد الملك. فلما توفي يزيد قام بالأمر من بعده أخوه إبراهيم غير أنه لم يتم له الأمر فكان تارة يسلم عليه بالخلافة وتارة بالإمارة وتارة لا يسلم عليه بواحدة منهما.

وسبب ذلك أن مروان بن محمد بن مروان والي الجزيرة وأرمينية لم يرضى ولاية إبراهيم فسار إلى الشام في جنود الجزيرة فاستولى على قنسرين وحمص ولما وصل عين الحر قابلته جنود أرسلت لحربه من قبل إبراهيم بن الوليد فانتصر عليهم مروان وخزمهم هزيمة منكرة ثم أخذ عليهم مروان البيعة له ثم سار حتى أتى دمشق فاستولى عليها وبايعه أهلها وهرب إبراهيم بن الوليد فأمنه مروان ولعدم تمام الأمر لإبراهيم لم يعده المؤرخون من الخلفاء.

مروان بن محمد بن مروان (الثاني):

ترجمته:

هو مروان بن محمد بن مروان بن الحكم وأمه أم ولد كردية كانت لإبراهيم بن الأشتر فأخذها محمد بن مروان يوم قتل إبراهيم فولدت له مروان سنة 70 من الهجرة وكان والياً على الجزيرة وأرمينيا كما كان أبوه قبل ذلك وكان الناس يلقبونه بالجعدي لأنه تعلم من الجعد بن درهم مذهبه في القول بخلق القرآن والقدرة وغير ذلك. وبويع بالخلافة في دمشق بعد انتصاره على أهلها سنة 127.

كانت مدة مروان كلها مملوءة بالفتن والاضطرابات منذ بويع إلى أن قتل.

وأول ما كان من ذلك خروج عبد اللَّه بن معاوية بن عبد اللَّه بن جعفر بن أبي طالب بالكوفة داعياً إلى نفسه وكان معه من الشيعة عدد عظيم جداً وكان والي العراق عبد اللَّه بن عمر بن عبد العزيز فجد في حربه، وكانت العامة تميل إليه لمحبتهم لأبيه فساعد ذلك على أن غلب عبد اللَّه بن معاوية ونفاه عن العراق.

ثم كان بالشم أفظع من ذلك وهو الخلاف المتوالي على مروان من أهل الأمصار الكبرى فانتفض عليه أهل حمص، وكان له معهم واقعة هائلة انتصر فيها عليهم وقتل منهم مقتلة عظيمة.

ثم خالف عليه أهل الغوطة فحاربهم وانتصر عليهم. ثم خالف عليه أهل فلسطين فكانت له معهم وقائع انتصر فيها عليهم؛ ثم ثار عليه سليمان بن هشام بن عبد الملك فإنه قد حسن له بعض دعاة الشر والفتنة خلع مروان وقالوا له أنت أوضأ عند الناس من مروان وأولى بالخلافة. فأجابهم إلى ذلك وسار بإخوته ومواليه معهم فعسكر بقنسرين وكاتب أهل الشام فأتوه من كل وجه وبلغ الخبر مروان وكان بقرقيسياد فأقبل إليه بالجنود ولاقاه بقرية خساف من أرض قنسرين وكانت النتيجة أن انهزم سليمان وجنده وأسر مروان منهم عدداً عظيماً.

ومضى سليمان في هزيمته حتى وصل حمص فاجتمعت عليه الفلول فقصده مروان، وفي الطريق قابلته جنود سليمان فانهزموا، ولما علم سليمان بهزيمتهم ترك حمص وسار إلى تدمر فأقام بها، وأما مروان فأتى حمص واستولى عليها. فأنتم ترون أن القوة التي كان يرتكز عليها ملك بني أمية وهي جنود الشام فقد انشقت انشقاقاً محزناً تبعاً لانشقاق البيت المالك وهذا أعظم ما يساعد العدو الذي يعرف كيف ينتهز الفرص.

لم تقف الاضطرابات عند هذا الحد بل وجدت بقايا الخوارج الفرصة لإظهار ما في أنفسهم فخرج الضحاك بن قيس الشيباني وأتى الكوفة واستولى عليها من يد أميرها عبد اللَّه بن عبد العزيز فهرب عبد اللَّه إلى واسط فتبعوه ولما اشتدت الحرب سلم عبد اللَّه الأمر إلى الضحاك وبايعه وصار من عداد الحرورية وكذلك دخل في هذه البيعة سليمان بن هشام بن عبد الملك ولما تم ذلك للضحاك عاد إلى الموصل فافتتحها واستولى على كورها وكان مروان إذ ذاك محاصراً حمص فلما بلغه الخبر كتب إلى ابنه عبد اللَّه وهو خليفته بالجزيرة يأمره أن يسير إلى نصيبين فيمن معه ليمنع الضحاك عن توسط الجزيرة، فسار إليها في سبعة آلاف فسار إليه الضحاك وحصره في نصيبين وكان مع الضحاك نحو من مائة ألف ولما انتهى مروان من أمر حمص سار لمقابلة الضحاك فالتقى به في نواحي كفر توتا فحصلت بين الفريقين موقعة عظيمة قتل فيها الضحاك فولى الخوارج عليهم سعيد بن بهدل الخيبري أحد قواد الضحاك وأعادوا الكرة على جند مروان فانهزم القلب وفيه مروان ووصل الخيبري إلى خيمته وثبتت الميمنة والميسرة ولما رأى أهل العسكر قلة من مع الخيبري ثار إليه العبيد بعمد الخيم فقتلوه هو ومن معه وبلغ الخبر مروان وقد جاز المعسكر بخمسة أميال منهزماً فانصرف إلى عسكره ورد خيوله إلى مواقعها وبات ليلته في عسكره.

ولما علم الخوارج بقتل الخيبري ولو بدله شيبان بن عبد العزيز اليشكري فأقام يقاتل مروان ولكنه لما رأى أن الناس يتفرقون عنه انصرف بمن معه إلى الموصل فتبعهم مروان وأقام يقاتلهم ستة أشهر.

في أثناء ذلك سير مروان يزيد بن عمر بن هبيرة إلى العراق بالجنود فأجلى الخوارج عن أمصاره وضبطها ولما تم له ذلك سير جنداً لمساعدة مروان فلما علم شيبان بذلك كره أن يكون بين عدوين فرحل عن الموصل فسير مروان في أثره جنداً وأمر القائد أن يقيم حيث يقيم شيبان وأن لا يبدأه بقتال فإن قاتله شيبان قاتله فلم يزل يتبعه حتى لاقاه بجيرفت وهزمه هزيمة منكرة فمضى شيبان إلى سجستان فهلك لها وذلك سنة 130.

ومن الذين خرجوا على مروان وشغلوه المختار بن عوف الأزدي الشهير بأبي حمزة وكان يوافي الموسم كل سنة يدعو إلى خلاف مروان بن محمد ولم يزل على ذلك حتى وافى عبد اللَّه بن يحيى في آخر سنة 128 فقال يا رجل اسمع كلاماً حسناً آراك تدعو إلى حق فانطلق معي فإني رجل مطاع في قومي فخرج حتى ورد حضرموت فبايعه أبو حمزة على الخلافة ودعا إلى خلاف مروان وآل مروان.

وبينما الناس بعرفة سنة 129 إذا طلعت عليهم أعلام وعمائم سود على رؤوس الرماح وهم سبعمائة ففزع الناس حين رأوهم وسألوهم عن حالهم فأخبرهم بخلافهم مروان وآل مروان فراسلهم عبد الواحد بن سليمان بن عبد الملك وهو يومئذ على مكة والمدينة وطلب منهم الهدنة فقالوا نحن بحجنا أضن وعليه أشح فصالحهن على أنهم جميعاً آمنون بعضهم من بعض حتىينفر الناس النفر الأخير.

فوقفوا بعرفة على حدة ولما كان النفر الأول نفر عبد الواحد فيه وخلى مكة فدخلها أبو حمزة بغير قتال ثم مضى عبد الواحد حتى دخل المدينة فضرب على أهلها البحث وزادهم في العطاء عشرة واستعمل عليه عبد العزيز بن عبد اللَّه بن عمر بن عثمان فمضوا حتى إذا كانوا بقديد لقيتهم جنود أبي حمزة فأوقعت بهم وقتلت منهم مقتلة عظيمة وذلك لسبع بقين من صفر سنة 130 ثم سار أبو حمزة حتى دخل المدينة من غير أن يلقى فيها حرباً.

ثم إن أبا حمزة ودع أهل المدينة وسار نحو الشام وكان مروان قد انتخب من عسكره أربعة آلاف فارس واستعمل عليهم عبد الملك بن محمد بن عطية السعدي وأمره أن يجد في السير ويقاتل الخوارج فإذا ظفر بهم سار حتى يبلغ اليمن ويقاتل عبد اللَّه بن يحيى فسار ابن عطية حتى لقي أبا حمزة بوادي القرى فقاتله حتى قتله وهزم أصحابه ثم سار إلى المدينة فأقام بها شهراً وبعد ذلك سار إلى اليمن وبلغ عبد اللَّه بن يحيى مسيره إليه وهو بصنعاء فأقبل إليه بمن معه ولما التقيا قتل عبد اللَّه وحمل رأسه إلى الشام.

كل هذه المشاغل والفتن التي كانت بالشام والحجاز شغلت مروان عن خراسان وما كان يجري فيها فكان ذلك أعظم مساعد لشيعة بني العباس ورئيسهم المقدام أبي مسلم الخراساني على أخذ خراسان ومبايعة أهلها على الرضا من بني العباس ثم مدوا سلطانهم إلى العراق فاستولوا عليه من عمال بني أمية وسنفصل حديثهم وما كان منهم حينما نشغل بتاريخ الدولة العباسية.

وفي شهر ربيه الأول سنة 132 بويع بالكوفة لأبي العباس السفاح أول الدولة العباسية. وبعد أن تم له الأمر بالعراق فكر في إرسال الجند لمروان حتى يقضي عليه القضاء الأخير، فاختار عمه عبد اللَّه بن علي قائداً لذلك الجند حتى التقى بمروان وجنده على نهر الزاب لليلتين خلتا من جمادي الآخرة سنة 132 وهناك كانت الموقعة العظمى بين الجندين وانتهت بهزيمة مروان بن محمد بعد أن قتل ممن معه مقتلة عظيمة وكانت الهزيمة لإحدى عشرة ليلة خلت من جمادي الآخرة وصار مروان ينتقل من بلد إلى آخر وعبد اللَّه بن علي يتبعه ولما جاز مروان أرض الشام قاصداً مصر أرسل عبد اللَّه في أثره أخاه صالح بن علي فلم يزل وراءه حتى عثر به نازلاً في كنيسة بقرية بوصير وبعد قتال خفيف قتل مروان لليلتين بقيتا من ذي الحجة سنة 132 وبقتله انتهت أيام الدولة الأموية وابتدأ عصر الخلافة العباسي { قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء بيدك الخير إنك على كل شيء قدير } [آل عمران: 26].

أسباب سقوط الدولة الأموية :

1- تولية العهد اثنين، أورثت شقاقاً ومنافسة بين أفراد البيت الأموي.

2- ظهور روح العصبية : مضرية يمنية.

3- انغماس بعض الخلفاء في التَّرف.

4- تعصب الأمويين للعرب.

سقطت الدولة الأموية سنة (132 هـ = 750 م) لتقوم في الأندلس على يد عبد الرحمن الداخل (عبد الرحمن بن معاوية بن هشام بن عبد الملك بن مروان - صقر قريش) سنة 138 هـ.

 

Free Web Hosting