هل الاتحاديون هم الذين أضاعوا البلاد ؟

يتهم كثير من الناس جماعة حزب الاتحاد والترقي بأنهم هم الذين أضاعوا البلاد وقضوا على السلطنة العثمانية وهدموا هذا البناء الإسلامي الشامخ. وعلى الرغم من أن الاتحاديين قد ارتكبوا كثيراً من الأخطاء وعلى الرغم من أن الدولة العثمانية زالت إبان حكمهم فإن الإنصاف يقتضيا أن نقول :

إن الاتحاديين كانوا ثوريين متوثبين يريدون الخير لبلادهم إلا أنهم كانوا مثل كل الشبان متحمسين لغايتهم فأخطأوا الصواب أو أنهم استعجلوا الخير فوقعوا في الشر. لم يكن الاتحاديون هم الذين أضاعوا البلاد بل قد استلموا البلاد وهي في حالة احتضار وكان موتها وشيكاً لا بل كان يجب أن تكون قد ماتت قبل قرن من الزمن أو على أقل تقدير قبل أن يتسلم السلطان عبد الحميد الثاني مقاليد الحكم، وكل ما كانوا يستطيعون فعله هو أن يدفعوا عنها هذه النتيجة المؤلمة لو كانوا أهل خبرة ورأي وحكمة ولم يكونوا أهل حماسة وغرور، لقد كان باستطاعة الاتحاديين أن ينفخوا في البلاد روحاً جديداً لو كان لديهم الحنكة والادارة وأن يعمدوا إلى اللامركزية فيعطوا العرب والأرمن والأكراد وحتى لبنان استقلالاً داخلياً، ولو فعلوا ذلك لكانوا صفعوا كل الأجانب وقضوا على دسائسهم، لا بل لقد كان بالامكان إعطاء كل بلد عربي استقلالاً على حدة كما هو حاصل اليوم، ولو فعلوا ذل لما وجدوا من يجرؤ على طلب الانفصال والاستقلال التام. ولو وقع هذا لكان خيراً مما أصيبت به الدولة من زوال لأن الاتحاديين لم يكونوا يجهلون بأن الغرب كان مقرراً إزالة الدولة العثمانية واقتسامها فلو فعلوا هم ما كان الغرب يريد فعله لقطعوا الطريق عليه ولأبقوا للدولة كيانها ولكنهم ساروا بالعاطفة وبحماسة الشبان وعمدوا إلى القوة والبطش فضاعوا وأضاعوا البلاد. وآفة الشباب الغرور.

لقد تسلم الاتحاديون البلاد وليس فيها شيء سليم : الأعداء متربصون لها من كل جانب، وأجزاء البلاد تنسلخ عنها جزءاً بعد جزء وما لم يكن قد انسلخ كانت البرامج موضوعة لسلخه مثل طرابلس الغرب والبلقان. والبلاد تئن تحت وطأة الديون، والدولة عاجزة عن أن تفرض هيبتها على كثير من أجزاء البلاد. فالجزيرة العربية بأقسامها الثلاثة : اليمن والحجاز ونجد تكاد تكون شبه مستقلة وعُمان وعدن والسلطنات والكويت يسيطر عليها الانكليز سيطرة فعلية وإن كانت اسماً تابعة للدولة، والعراق في حالة اضطراب مستمر ومصر مستقلة فعلاً وسوريا ولبنان في قلق دائم والدسائس الغربية تستهوي شبان البلاد فماذا يستطيع الاتحاديون أن يفعلوا تجاه كل هذه العقبات ؟

الشيء الوحيد الذي كانوا يستطيعون أن يفعلوه هو أن يعطوا بأيديهم وبرضاهم ما كان مقرراً أن يؤخذ منهم غصباً ولو فعلوا لكانوا كسبوا صداقة هذه الأقوام التي يظل لهم بها ارتباط اسمي. ولكن الاتحاديين اختاروا طريق العنف والشدة فخسروا المعركة وكان من المعلوم انهم سيخسرونها.

وبالتالي فإن الاتحاديين لم يضيعوا البلاد بل استلموها وهي ضائعة من سوء حظهم أن كانت تصفية هذه الشركة المفلسة على أيديهم، وكان ذلك نتيجة طبيعية لما كانت عليه البلاد من سوء حال.

إننا لا نستطيع أن نتهم الاتحاديين بأنهم كانوا يريدون تخريب البلاد إذ ليس من المعقول أن يهدم المرء بيته، ولكننا نتهمهم بأنهم لم يكونوا رجال سياسة يستطيعون أن يقفوا أمام دهاء دول الغرب ومؤآمراتها فخدعوا وساروا بغير الطريق التي كان يجب عليهم أن يسيروا فيها فأخطأوا.

ما هي الأسباب التي أدّت إلى انهيار الدولة العثمانية ؟

يجب علينا أن نبحث عن الأسباب التي أدّت إلى زوال الدولة العثمانية بعد أن سيطرت على العالم بضعة قرون كانت فيها ملء عين الزمان وسمعه لا بل كانت فمه القائل ويده الباطشة ولسانه الناطق.

وترجع هذه الأسباب إلى:

1- زواج السلاطين بالاجنبيات وتسلط هؤلاء الاجنبيات على عواطف أزواجهن وتصريفهم في سياسة بلادهن الأصلية وتحكمهن بمقدرات الدولة. فكم من الملوك قتلوا أولادهم أو إخوانهم بدسائس زوجاتهم وارتكبوا أعمالاً تضر بمصلحتهم إرضاء لزوجاتهم.

2- تعدد الزوجات والمحظيات اللواتي كان الأجانب والحكام يقدمونهن هدية للسلطان كأنهن السلع أو التحف واللواتي كان السلاطين إذا رأوا كثرتهن في قصورهم يهدونهن أحياناً إلى قادتهم أو خواصهم على سبيل التكريم. وكان من البديهي أن يحصل بين أولاد الأمهات وأمهات الأولاد. وسواءً أكانت الامهات زوجات أو محظيات، تحاسد وتباغض يؤديان إلى قتل السلاطين أولادهم وإخوانهم وإلى أمور غير معقولة ومقبولة عقلاً وشرعاً.

3- تفكك روابط الأسرة السلطانية بسبب كثرة النساء حتى أصبحت عادة قتل السلطان إخوانه أو أولاده، يوم يتولى العرش، أمراً معروفاً ومألوفاً. وكأنه يضحي بخراف احتفاء بهذا اليوم من غير أن يشعر بوخز ضمير أو لسعة ألم.

ولذا فقد كان أفراد الأسرة السلطانية يعيشون في خوف مستمر ويتربص بعضهم بالبعض الآخر الدوائر ولا يبالون بأن يشقوا عصا الطاعة في وجه السلطان سواء أكان أخاً أم أباً أم ابناً وذلك ليس حباً بالسيطرة فقط بل لانقاذ أعناقهم أحياناً من الغدر.

4- تدخل نساء القصر بالسياسة وشفاعتهن لدى أزواجهن السلاطين برفع الخدم إلى منصب الوزارة أو إيصال المتزلفين إلى مراتب الحل والعقد، كرئاسة الوزارة وقيادة الجيش. وفي كثير من الأحيان لا يكون لهؤلاء الرجال ميزة يمتازون الا تجسسهم لحسابهن.

5- بقاء أولياء العهد مسجونين في دور الحريم فلا يرون من الدنيا شيئاً ولا يعلمون شيئاً، وكثيراً ما كانوا لا يتعلمون شيئاً أيضاً لأنهم لم يكونوا يدرون إلى ما سيصيرون فإما أنهم يذهبون ضحية مؤآمرة قبل أن يصلوا إلى العرش وإما أنهم يصلون إلى العرش لكي يجدوا فئة من الناس تسيطر عليهم وتتحكم بهم أو يسحبون عن العرش ويقتلون أو تسيرهم نساء القصر أو يسيرهم جهلهم. وتسليم أمور الدولة إلى غير الأكفاء من الناس إذ كان طباخ القصر وبستانه وحطّابه والخصي والخادم يصلون إلى رتبة رئاسة الوزارة أو القيادة العامة للجيش. فماذا ينتظر من جاهل أن يفعل.

6- احتجاب السلاطين وعدم ممارستهم السلطة بأنفسهم والاتكال على وزراء جهال. فقد كان سلاطين آل عثمان حتى السلطان سليم الأول يتولون قيادة الجيش بأنفسهم، فيبعثون الحماسة والحمية في صدور الجنود، ثم صار السلاطين يعهدون بالقيادة إلى ضباط فصار الجنود يتقاعسون تبعاً للمثل القائل "الناس على دين ملوكهم".

7- تبذير الملوك حتى بلغت نفقات القصور الملكية في بعض الأحيان ثلث واردات الدولة.

8- خيانة الوزراء، إذ أن كثيراً من الأجانب المسيحيين كانوا يتظاهرون بالإسلام ويدخلون في خدمة السلطان ويرتقون بالدسائس والتجسس حتى يصلوا إلى أعلى المراتب، وقد أبدى السلطان عبد الحميد استغرابه من وفرة الأجانب الذين تقدموا إلى القصر يطلبون عملاً فيه حتى ولو بصفة خصيان وقال : لقد وصلني في أسبوع واحد ثلاث رسائل بلغة رقيقة يطلب أصحابها عملاً في القصر حتى ولو حراساً للحريم،وكانت الرسالة الأولى من موسيقي افرنسي والثانية من كيمائي ألماني والثالثة من تاجر سكسوني. وعلق السلطان على ذلك بقوله : من العجب أن يتخلى هؤلاء عن دينهم وعن رجولتهم في سبيل خدمة الحريم. فهؤلاء وأمثالهم كانوا يصلون إلى رئاسة الوزارة، ولذا فقد قال خالد بك مبعوث أنقره في المجلس العثماني بهذا الصدد : لو رجعنا إلى البحث عن أصول الذين تولوا الحكم في الدولة العثمانية وارتكبوا السيئات والمظالم باسم الشعب التركي لوجدنا تسعين في المئة منهم ليسوا أتراكاً.

9- غرق السلاطين والأمراء في الترف والملذات.

10- الحروب الصليبية التي شنت على الدولة والتي لم تنقطع منذ ظهورها إلى يوم انهيارها.

11- الامتيازات التي كانت تمنح للأجانب اعتباطاً بسخاء وكرم لا مبرر لهما بل كانت تمثل التفريط بحق الوطن في أقبح صوره، فقد منحت الدولة العثمانية، وهي في أوج عظمتها وسلطانها، امتيازات لدول أجنبية جعلتها شبه شريكة معها في حكم البلاد. ولا أرى سبباً لهذا الاستهتار إلا الجهل وعدم تقدير الأمور قدرها الحقيقي وتقدير قوة ودهاء الدول التي منحت هذه الامتيازات والعاقل لا يستهين بعدوه مهما كان صغيراً وضعيفاً.

12- الغرور الذي أصاب سلاطين بني عثمان الذين فتحت لهم الأرض أبوابها على مصراعيها يلجونها كما يشاؤون. وإن من يقرأ كتاب الملك سليمان القانوني إلى ملك فرنسا لا يجد فيه ما يشبه كتاب ملك إلى ملك أو امبراطور عظيم إلى ملك صغير أو حتى إلى أمير، بل يجده وكأنه كتاب سيد إلى مسود. ومن يطالع صيغ المعاهدات، في أوج عظمة الدولة، وما كان يضفى فيها على سلاطين بني عثمان من ألقاب يكادون يشاركون بها الله تعالى في صفاته بينما تكون ألقاب الاباطرة والملوك عادية، أقول إن من يطالع صيغ هذه المعاهدات يدرك إلى أي حد بلغ بهؤلاء السلاطين الجهل والغرور.

13- إدخال الدين في كل صغيرة وكبيرة من أمور الحياة والسير بعكس ما يأمر به الدين، باسم الدين، حتى أصبح الدين ألعوبة في أيدي قبضة من الجهال يحللون ويحرمون على هواهم، ومثال ذلك إدخال أمر تغيير اللباس في نطاق الدين ثم لما أراد أحدهم إنشاء مطبعة في استانبول ووجد معارضة من قبل علماء الدين لجأ إلى السلطان وإلى حاشيته يطلب إليهم أن يقنعوا هؤلاء الجهال بفائدة المطابع فأمر السلطان شيخ الاسلام بأن يفتي بأن المطبعة نعمة من نعم الله وليست رجساً من عمل الشيطان كما أفتى العلماء من قبل فافتى شيخ الاسلام بجواز إنشاء مطبعة شريطة ألا تطبع القرآن الكريم ولا كتب ا لتفسير والحديث والفقه. وقد أنشئت أول مطبعة في استانبول سنة 1712 أي بعد أن كان قد مضى على اختراع المطبعة ما يزيد على قرنين نصف القرن وبعد أن أنشأت فرنسا المطبعة الوطنية بنحو قرنين.

هذه الأسباب التي قضت على الدولة العثمانية وأنزلتها من شامخ عزها إلى حضيض المذلة والهوان. وإن من يدرس، بإمعان نظر، كل سبب من هذه الأسباب المذكورة آنفاً ويرى مدى تأثيره الواسع في المحيط الدولي لا يعجب من انهيار هذه الدولة العظيمة تحت سياط هذه الضربات بل يعجب كيف استطاعت أن تعيش ست مئة سنة وهي تتحمل هذه الضربات القاسية التي نزلت بها والتي لو نزلتعلى جبل لصدعته، ولكنها عاشت بفضل اختلاف اعدائها على تقسيمها فيما بينهم وبفضل أيمان أهلها وتمسكهم إلى حد بالإسلام. ومن المؤسف المحزن أن يهدم أبناء أولئك المؤمنين بتنكرهم للدين وبتخاذلهم ما بناه آباؤهم وأجدادهم بجدهم وجهدهم وربما قدموه من تضحيات بالدماء والأرواح.

هل كان العثمانيون مستعمرين ؟

من الأمور التي أراد الغرب أن يوقروها في نفوسنا هو أن العثمانيين كانوا مستعمرين، وفي كل بلد حلها الغربيون المستعمرون أعلنوا أهلها أنهم إنما أتوا إليهم لإنقاذهم من المستعمر العثماني. فحينما دخل الافرنسيون الجزائر أعلن قائد الحملة أنه جاء لانقاذ الجزائر من الاستعمار وكانت النتيجة أنهم قضوا على استقلال الجزائر واستعمروها 130 سنة أسوأ استعمار، ولما دخل نابليون مصر أعلن أنه جاء لإنقاذ المصريين من استعمار المماليك، ولما استولى المستعمرون على بلاد الدولة العثمانية أخذوا يوقرون في نفوس أهل البلاد أن الدولة العثمانية كانت في بلاد العرب مستعمرة وسار الأطفال الذين تلقوا هذه الدروس عن المستعمرين والمغرضين والحاقدين على النهج وصدقوا هذا القول ولا يزال إلى يومنا هذا يوجد أناس يسمون الحكم العثماني في بلاد العرب استعماراً.

وإذا كان العهد العثماني قد مضى وانقضى فإن واجب الإنصاف يقتضينا أن نزيل من الأذهان هذه التهمة المغرضة التي أراد أعداء الإسلام تثبيتها في نفوس الناشئة لكي يباعدوا بنيهم وبين الأمة التركية المسلمة.

فالعثمانيون لم يكونوا إخواناً للعرب ومساوين لهم في الحقوق والواجبات بل العالم كله يعرف أن تسامح الدولة العثمانية مع العناصر الغربية، عنصراً وقومية وديناً، قد بلغ حداً لم يبلغه أي قوم في العالم. فالعثمانيون مسلمون والمسلمون لا يفرقون بين أبيض وأسود ولا بين عربي وتركي ولا بين مسلم وغير مسلم في المعاملة.

فإذا صح أن نقول بأن العثمانيين كانوا مستعمرين في بلاد العرب يصح أن نقول الأمويين مستعمرين في سوريا والعباسيين مستعمرين في العراق والفاطميين مستعمرين في الشمال الإفريقي والأيوبيين مستعمرين في مصر وسوريا وهلم جرا. وإذا كان هذا باطلاً بالبديهة كان القول بالاستعمار التركي باطلاً أيضاً. فالأتراك كانوا مسلمين والمسلم أخو المسلم أينما كان هذا بالاضافة إلى أن العرب كانوا شركاء الأتراك في الحكم فكان منا الوزراء ومنا الولاة ومنا القادة ولم يكن ما يفرق بيننا وبين التركي، لا بل كانت اللغة العربية هي اللغة الرسمية المستعملة في البلاد العربية في القضاء والادارة إلا ما كان منها ذا علاقة ببلاد الأتراك. وإذا كان الأتراك لم يفرقوا بين تركي وبين العربي والبلغاري والروماني واليوناني وغيرهم وكانوا يولونهم الوزارات والإمارات وهم على دينهم أحياناً أو بعد إسلامهم في بعض الأحيان فكيف يصح أن نقول بأن العثمانيين كانوا مستعمرين؟‍‍.

هل كان عبد الحميد مستبداً ؟

إنه كان ملكاً مثل غيره من الملوك في زمانه، ولكنه يمتاز على غيره بالدهاء وبعد النظر والصلاح. فعبد الحميد لم يكن ملكاً ديمقراطياً مثل ملك انكلترا أو السويد مثلاً بل كان ملكاً أوتوقراطياً يملك ويحكم وإذا كان قد ظهر منه شيء من الاستبداد فتلك كانت شيمة الملوك في ذاك الزمان، وتلك كانت مقتضيات الحكم في دولة تنهشها الذئاب من كل جانب، بيد أننا لو قسنا استبداد عبد الحميد باستبداد بعض حكام اليوم الذين لا يزيدون عن شيوخ قرى بالنسبة إليه نجد استبداده رحمة وحناناً بالنسبة إلى مظالمهم.

ولكي نأخذ فكرة سليمة عن السلطان عبد الحميد ننقل فيما يلي ما قاله زعيم الإسلام المغفور له جمال الدين الأفغاني مما ذكره المخزومي في كتاب: خاطرات جمال الدين الأفغاني، فهي فصل الخطاب قال :

" ان السلطان عبد الحميد لو وزن أربعة من نوابغ هذا العصر لرجحهم ذكاءً ودهاءً وسياسة. فلا عجب إذا رأيناه يذلل ما يقام لملكه من الصعاب من دول الغرب. إنه يعلم دقائق الأمور السياسية ومرامي الدول الغربية. وهي معد لكل هوة تطرأ على الملك مخرجاً وسلماً. وأعظم ما أدهشني ما أعده من خفيّ المسائل وأمضى العوامل كي لا تتفق أوروبا على أمر خطير في الممالك العثمانية. كان يريها عياناً محسوساً أن تجزئة السلطنة العثمانية لا يمكن أن تتم إلا بخراب الممالك الأوروبية بأسرها، وكلما حاولت دول البلقان الخروج على الدولة بحرب كان السلطان يسارع بدهائه العجيب لحل عقد ما ربطوه وتفريق ما جمعوه".

وإذا كنا لا نستطيع أن ندعي أن عهد عبد الحميد كان ديمقراطياً، فإننا لا نستطيع أن نتهمه بأنه كان استبدادياً صرفاً بل كان عهداً يساير زمانه ولم يكن أحد يشعر بالحرج في عهد عبد الحميد أو يشتكي الظلم والاستبداد إلا الذين يشتغلون بالسياسة ويتآمرون على الدولة بحسن نية أو سوء نية.

سياسة عبد الحميد الإسلامية

تبوأ عبد الحميد عرش السلطنة والبلاد، كما ذكرنا، في أسوأ حال، فالدول الغربية أصبحت منذ مؤتمر باريس المنعقد في 1856 تتدخل في أمور الدولة بكل حرية. وتنظر هذه الدول إلى الدولة العثمانية نظرتها إلى مريض على فراش الموت يجب البحث في تقسيم تركته، والخزينة في حالة إفلاس وقد بلغت ديونها حتى عام 1875 ثلاث مليارات وثلاثة عشر مليون فرنك ذهبي، وهو مبلغ كبير جداً بالنسبة لذلك الزمن، حتى أن الدول قد أحجمت عن عقد قرض مع السلطنة على الرغم من الفائدة الباهظة التي كانت تتقاضاها إذ كانت تبلغ 25 %، والقوميات ترفع رأسها، والحروب تشب على الدولة وتزيد نفقاتها على عجزها وإفلاسها، ودول الغرب المسيحية تصر على السلطنة لتحقيق الاصلاحات في البلاد ومعنى الاصلاحات ترك الحبل على الغارب للأقوام المسيحية الموجودة في الدولة.

حاول السلطان عبد الحميد حينما تبوأ العرش أن يعمل على إرضاء الغرب فأعلن الدستور الذي يساوي فيه بين العناصر والأقوام وكان شعاره (حرية، أخوة، عدالة، مساواة) أي أنه زاد على الشعار الافرنسي كلمة العدالة التي هي أساس كل شيء ولكنه رأى أن غاية الغرب ليست إعلان المساواة بل غايته القضاء على السلطنة، وما مطالبتها بالمساواة وغيرها إلا حيل لإنهاكها وتفريق شملها. فلما رأى عبد الحميد هذا أدرك أن لا شيء ينقذ السلطنة إلا القوة ولكن من أين له القوة، والقوة تحتاج إلى المال والخزينة مفلسة ؟‍.

إذن لا بد من الاتكال على قوة معنوية هي قوة الإسلام فاهتم بالدعوة إلى الجامعة الإسلامية وقد نجحت سياسته واستطاع أن يحكم البلاد ثلاثاً وثلاثين سنة كانت السلطنة على ضعفها ووهنها والمؤامرات التي تحاك لها في الداخل والخارج محترمة المكانة مرهوبة الجانب. وفي نطاق هذه السياسة قرب إليه كثيراً من رجالات الإسلام مثل جمال الدين الأفغاني والشيخ أبو الهدى الرفاعي من حماة وأحمد عزة العابد من دمشق والشيخ محمد ظافر من الجزائر والشيخ سعيد من حمص والشيخ أحمد أسعد القيصرلي من المدينة المنورة والسيد فضل الله من مليبار بالإضافة إلى فريق من أشراف مكة المكرمة وعلى رأسهم الحسين بن علي وعلي حيدر وعبد الاله باشا وصادق باشا وغيرهم، وأجرى على الجميع مرتبات كما أجرى مرتبات على غيرهم ممن تخلف في بلده وكان له نفوذ إسلامي. لقد فعل ما فعل من قبيل تأليف القلوب ولكنه لم يكن مخدوعاً بأحد بل ينزل كل واحد على قدره، وكان لا يأمن للشريف حسين وحينما أصر الاتحاديون عليه لتعيينه شريفاً على مكة بدل الشريف علي قال لهم : إني أبرأ من تبعة كل ما سيعمله هذا الرجل لأني أعرف حقيقته.

وقد تجاوز عبد الحميد هذه المرحلة من تقريب العناصر غير التركية وعهد إلى كثير من العرب بأعلى المناصب في الدولة منهم احمد عزة باشا العابد الكاتب الثاني في المابين وقد بلغ نفوذه مبلغاً فاق الصدارة، وشفيق بك المؤيد المفوض في الديون العامة وشفيق بك الكوراني رئيس الشرطة، وعرب حقي باشا وسليم بك ملحمة ونجيب بك ملحمة وسليمان البستاني وقد بلغوا كلهم رتبة الوزارة وكلهم من سوريا ولبنان، وطالب باشا النقيب وأحمد باشا الزهير (من أعضاء مجلس شورى الدولة) وهما عراقيان. وكان الفريق محمد باشا والفريق محيي الدين باشا ولدا الأمير عبد القادر الجزائري وفؤاد باشا المصري من مرافقي السلطان. وكان المشير أركان حرب شفيق باشا وأخوه الفريق وهيب باشا من أركان اساتذة المدارس العسكرية والحكومية وهما لبنانيان من قرية المتن. وكان شكري باشا الأيوبي الدمشقي ناظراً للأعمال العسكرية. والدكتور يوسف رامي من قرية فالوغا في لبنان أمير لواء والدكتور الياس مطر من بيروت أستاذاً للتشريح في الكلية الطبية في استانبول. والأستاذ سليم باز من دير القمر بلبنان أستاذاً في كلية الحقوق وغيرهم كثير.

وبالإضافة إلى ذلك فقد اتخذ السلطان عبد الحميد من العرب حرساً خاصاً أنزلهم حول قصره والبسهم عمائم خضر.

ولم يكتف بذلك بل إنه عمد إلى تزويج أميرات البيت المالك من غير الأتراك ورفع أزواجهن إلى رتبة داماد (أي صهر) وهم : الشريف علي حيدر الذي طمع في عهد الانتداب الافرنسي أن يكون ملكاً على سوريا، وصالح بك خير الدين باشا التونسي، وأحمد نامي شركسي الأصل ولبناني الجنسية وقد صار سنة 1926 رئيساً لدولة سوريا.

وكما قرب السلطان العرب إليه فإنه لم يهمل الأقوام المسلمة الأخرى فجمع حوله طائفة من الأكراد والأرناؤوط أمثال إسماعيل باشا الكردي ودرويش باشا الألباني وغيرهما وعني عناية خاصة بتربية الناشئة من أولاد العشائر فأنشأ مدرسة العشائر في استانبول لتوثيق عرى الاخوة بين العشائر ودار الخلافة.

هذا بعض ما فعله السلطان عبد الحميد في سبيل جمع كلمة رعايا الإمبراطورية العثمانية حول مبدأ واحد وهدف وهو الإسلام وهو عمل عظيم، ولكن بقدر ما كانت هذه السياسة ناجحة ومفيدة في تدعيم أركان الدولة فإنها كانت أشبه بناقوس الخطر بالنسبة إلى دول الغرب التي تخشى كلمة الإسلام وتحاربها بكل قواها لأن انتصار الإسلام يعني في نظرها اندحاراً للمسيحية ولذلك فقد عملت على إزالة عبد الحميد أولاً ثم على القضاء على الإمبراطورية بعد ذلك.

الثورة التركية ومصطفى كمال

وكان السلطان محمد وحيد الدين يدرك أن وجود تركيا لازم لدول الغرب لإقامة التوازن بينها وان انكلترا وفرانسا لنتسمحا بالقضاء على تركيا قضاءً مبرماً لأنهما بذلك تفسحان المجال أمام روسيا للاستيلاء على الأناضول وبالتالي على مضيقي البوسفور والدردنيل مفتاحي العالم، بل كان ما تريدانه هو تشذيب أطراف الدولة العثمانية وجعلها دويلة صغيرة مثل دول البلقان وباقي الدول التي كانتا تنويان خلقها في المنطقة على انقاض الدولة العثمانية. واستناداً على هذا التفكير السليم كان السلطان محمد وحيد الدين يعلم بأن استرجاع بعض ما أخذ لا يتم بالهبة بل لا بد من القتال في سبيله لاسترجاعه وبالتالي لا بد من القيام بثورة في البلاد وحيث إن السلطان كان يعرف مصطفى كمال إذ كان مرافقاً له يوم ذهب، وهو ولي عهد، إلى برلين ليقدم للأمبراطور كيوم سيفاً مهدى إليه من السلطان محمد رشاد، فقد اتخذه يوم عاد من الجبهة الفلسطينية مدحوراً مرافقاً له ثم عهد إليه سراً بأن يقوم بثورة في شرق الأناضول حتى يتسنى لرجال السياسة أن يحاوروا ويناوروا أثناء عقد الصلح ليأخذوا أكثر ما يمكن أخذه من الأعداء. وللتغطية على هذه الثورة عن عيون الأعداء عامة والانكليز خاصة الذين كانوا يسيطرون على استانبول، عينه مفتشاً عاماً لجيوش الأناضول بصلاحيات واسعة وزوده بمبلغ عشرين ألف ليرة عثمانية ذهباً، وهو مبلغ ضخم بالنسبة إلى ذاك الزمن وإلى ما كانت عليه خزينة الدولة من عجز وإفلاس. ذهب مصطفى كمال بمهمة معينة لحساب الدولة العثمانية ولكن خان الأمانة وغدر بالسلطان وعمل لحساب نفسه عملاً بالقول المأثور: أرسلته لي خاطباً فتزوج.

وكان السلطان قد عهد لمصطفى كمال بالوظيفة الكبيرة، التي نوهنا بها، وزوده بامتيازات أخرى من المساعدات المالية والمنشورات السرية. وغادر استانبول، في 17 مايو 1919 عن طريق البحر مصطحباً معه عدداً من العسكريين والمدنيين الذين اختارهم لمساعدته ووصل مدينة صامسون في 19 مايو، وبعد أن جمع حوله فلول الجيش والأهلين بدأ ثورته. وهنا يقول صبري أفندي ما معناه:

اطلع الحلفاء المحتلون على ما يرمي إليه السلطان من إرسال مصطفى كمال إلى الأناضول فاحتجوا إلى الوزارة القائمة في استانبول المحتلة مستندين إلى أحكام الهدنة المعقودة في عهد الوزارة السابقة وطالبوها باستدعاء الرجل، وحيث إن الشكايات قد كثرت ضده من الولاة بسبب ما يتمتع به من صلاحيات واسعة فقد دعوناه إلى استانبول بلسان وزير الحربية ولكنه لم يجب. ثم تكرر الاحتجاج من قيادة الاحتلال وتمادت أصوات الشكاية من الولاة إلى وزارة الداخلية وتكررت منا دعوة مصطفى كمال إلى العاصمة واستمر هو في عدم الإجابة، وإزاء ذلك هدد الحلفاء الوزارة بالرجوع إلى الحرب فاضطرت الوزارة إلى إقالته وأنا يومئذ رئيساً للوزارة بالنيابة بسبب غياب رئيس الوزارة فريد باشا في أوروبا لحضور مؤتمر الصلح.

قررت الوزارة إقالة مصطفى كمال من منصبه وعرضت القرار على السلطان محمد وحيد الدين لكنه لم يوافق عليه موصياً بالاكتفاء بدعوته إلى العاصمة والاستمرار في الدعوة ففعلنا، وتمادى المطل من مصطفى كمال والرفض من السلطان بالتوقيع على الاقالة، كما استمر احتجاج الحلفاء إلى الوزارة طالبين البت بالأمر. وأخيراً قررت الوزارة في 8 يوليو 1919 البت بأمر الرجل وذهبت أنا إلى القصر وقابلت السلطان ومكثت في حضرته من المساء حتى الساعة الواحدة بعد منتصف الليل وهو يماطلني بانتظار الجواب البرقي من مصطفى كمال إذ كان رئيس الديوان يكلمه برقياً من غرفة ثانية في القصر، فلما انقطع الأمل من نزول مصطفى كمال عند طلب الوزارة اضطر السلطان مكرهاً إلى التوقيع على قرار الوزارة بإقالته، فكان جوابه على إبلاغه القرار بالإقالة أن أعلن استقالته من الجيش بعبارة تنم عن التمرد. وعلى الرغم من أن السلطان وافق على قرار الإقالة بعد تعيينه بشهرين وبضعة أيام إلا أنه كان كارهاً ذلك بدليل أنه لم يصدر ضده أي أمر بل أقال في 2 اكتوبر الوزارة التي طلبت إقالته وأنا منها في منصب الرئاسة بالنيابة ... وأتى بوزارتين ملائمتين لحركة مصطفى كمال. وبعد مضي أكثر من سنة على الثورة لم تجن البلاد إلا الدمار والخراب وتقدم اليونان نحو قلب الأناضول حتى كادوا يطرقون أبواب أنقره أعيد تكليف فريد باشا بتأليف الوزارة وعلى الرغم من أن وزارته السابقة هي التي بعثت بمصطفى كمال إلى الأناضول فأنها في هذه المرة أصدرت حكمها عليه بالعصيان والتمرد على السلطان استناداً إلى فتوى أصدرها شيخ الإسلام عبد الله دري زاده، ولكن السلطان ما لبث أن أقال هذه الوزارة وكلف توفيق باشا، وهو من أنصار مصطفى كمال، بتأليف وزارة جديدة دامت في الحكم نحو سنتين خدمت فيهما أغراض مصطفى كمال. فلما قويت شوكة مصطفى كمال تنكر للسلطان وطلب إليه أن يتنازل عن الحكم ويكتفي بالخلافة المجردة من السلطة على أن يظل مقيماً في استانبول وتنتقل السلطة إلى أنقره، فرفض السلطان وتنازل عن العرش سنة 1922 وخلفه عبد المجيد خليفة لا ملكاً ثم خلع سنة 1924 واخرج من البلاد.

وقد ظل السلطان وحيد يحسن الظن بمصطفى كمال رغم التحذيرات وظل مصطفى كمال يستغل إخلاص السلطان وصدق وطنيته والسلطان ليس بغافل بل راض بكل شيء يكون فيه خير البلاد وقد قيل له مرة : "إنه لا يستبعد أن يغتصب هذا الرجل عرشك". فقال : "ليخدم الوطن وليغتصب عرشي" وشاعت كلمة سمعتها وأنا في بلادي تنسب إلى أحد الانكليز وهي: "إن السلطان وحيد الدين أراد أن يكيد الانكليز بمصطفى كمال فكاد الانكليز به للسلطان".

هذا موجز ما قاله سماحة شيخ الإسلام صبري أفندي وأنا أقول - الدكتور إحسان حقي -: إن من يمعن النظر في الثورة الكمالية يجد أن الانكليز قد لعبوا فيها أدواراً رئيسية مع ثلاثة أطراف. الطرف الأول هو مصطفى كمال الذي تبنوه وساعدوه للوصول إلى ما وصل إليه شريطة أن يلغي الخلافة ويفعل في تركيا ما فعل. والطرف الثاني هو اليونان الذين كانوا حلفاءهم في الحرب وخرجوا منها بلا غنيمة فطوحوا بهم في مغامرة كانوا يقدرون لها الفشل فأغروهم بالاستيلاء على أزمير على أن تكون نصيبهم من غنائم الحرب وهم في الواقع لا يريدون أن يمكنوهم من شيء لأنهم يعلمون بأن استيلاء اليونان على شيء من أرض تركيا يعني استيلاء روسيا عليه على اعتبار أن القومين يدينون بالارثوذكسية وروسيا هي حامية الأورثوذكسية في العالم، ولكن الانكليز ارادوا أن يعطوا اليونان درساً بهذه المغامرة لكي يرضوا من الغنيمة بالإياب ثم إنهم يخلقون من مصطفى كمال بطلاً محرراً لبلاده، والطرف الثالث هي الحكومة التركية نفسها التي استعملوها أداة للتفريق بين السلطان وبين مصطفى كمال وقد نجحوا في تمثيل هذه الأدوار الثلاثة نجاحاً تاماً.

أما مصطفى كمال فهو وحده من بين هذه الأطراف الثلاثة الذي كان يعلم ما يراد منه كما أنه كان يعلم النتائج لأنه كان على صلة بالانكليز منذ سنة 1917 يوم كان قائداً عثمانياً في جبهة فلسطين فقد أخبرني - أي أخبر الدكتور إحسان حقي - ابراهيم بك صبري بن صبري أفندي شيخ الاسلام الذي مر ذكره بما يلي : "اتصل الانكليز بمصطفى كمال يوم كان قائداً في فلسطين وطلبوا إليه أن يقوم بثورة على السلطنة ووعدوه أن يساعدوه على ذلك فاتصل مصطفى كمال بقائدين عثمانيين من زملائه كانا يتوليان قيادة جيشين قريبين منه وفاتحهما بالأمر (وقد ذكر لي إبراهيم بك اسمي القائدين المذكورين ولكني انسيتهما لأني لم اسجلهما عندي إذ اني لم أكن أتوقع أن احتاج إلى ذكرهما) فلما سمعا الخبر استعظماه واستنكراه وقالا له : "بما انك لم تحاول العصيان الذي يوجب الاعدام فاننا سنكتم الأمر وننصحك أن تعتبره منسياً وأنك لم تفاتحنا به ولا سمعناه منك".

وانتهى الأمر بالنسبة إلى هذين القائدين عند هذا الحد وأما بالنسبة إلى مصطفى كمال الذي قبل، وهو القائد العثماني، أن يتآمر مع الانكليز لارتكاب مثل هذه الخيانة فإنه لم ينته، ولا شك، بدليل ما وصل إليه، ولا يستبعد أن يكون الانكليز هم الذين دعموه لدى السلطان، بطريقة غير مباشرة، لكي يعينه مفتشاً عاماً لجيوش شرق الأناضول ليسهلوا مهمته.

قد يتساءل المرء : كيف يساعد الانكليز مصطفى كمال على القيام بثورة في بلاد هم يسيطرون عليها ؟ والجواب قد مر معنا وهو أن أمم الغرب كانت منذ زمن بعيد تريد تحطيم الدولة العثمانية وتريد اقتسام تركة (الرجل المريض) وقد عقدت هذه الدول مئة معاهدة لتقسيم هذه التركة ولكنها لم تكن تتفق على ما يصيب كلاً منها كما انها لم تكن قد افترستها. فلما نشبت الحرب العالمية الأولى وانهارت الدولة العثمانية رأت هذه الدول، وعلى رأسها انكلترا وفرنسا، أن بقاء تركية دولة صغيرة غير إسلامية يضمن لها مصالحا أكثر مما لو استولت عليها واستعمرتها كما فعلت بالبلاد العربية لأنها ستبقى حاجزاً بين العالم الحر وبين روسيا، التي وان كانت في تلك الأيام ضعيفة فانها لا بد لها من أن تسترجع قوتها في يوم من الأيام وتقوم فتطالب بإعادة تقسيم الغنيمة، وانها لن تسكت عن سيطرة انكلترا على الممرين المائيين ولذا فإن هذه الدول الغالبة رأت من الأصلح وجود دولة صغيرة ضعيفة وغير مسلمة صديقة للغرب كالدولة التركية الحالية التي صنعتها على يدي مصطفى كمال من أن تكون هي المسيطرة.

وهكذا فقد نال الغرب بغيته وأصبحت تركيا دولة صغيرة علمانية وتنكرت حتى لواقعها فهي قد أعلنت أنها دولة غير إسلامية مع أن 95% من سكانها مسلمون وتنكرت لآسيويتها مع أن مالها في أوروبا من مناطق لا يتجاوز عشر مساحتها، فقد ذكر سماحة شيخ الاسلام صبري أفندي في كتابه المذكور آنفاً أموراً منها أنه لما كان مصطفى كمال على فراش الموت أوصى بألاّ يصلى عليه صلاة الجنازة ولكنهم صلوا عليه إجابة لرجاء أخته. ثم انه لما دعيت تركيا لحضور المؤتمر الإسلامي الذي عقد في القدس سنة 1931 رفضت الحكومة التركية حضوره لأنها غير مسلمة، ولما دعيت لحضور المؤتمر الآسيوي الذي عقد في دهلي رفضت حضوره بحجة أنها ليست بدولة آسيوية.

هذه شذرات عن الثورة الكمالية ونتائجها وعماكان للأيدي الغربية من دور فيها نقلناه بكل تجرد وإخلاص خدمة للتاريخ.

كيف استقبل المسلمون الثورة الكمالية ؟

لما قام مصطفى كمال، بوحي من السلطان وحيد الدين، بثورته التي أرادها السلطان عثمانية إسلامية وجعلها مصطفى كمال غربية علمانية، لم يكن المسلمون يعلمون عن أسراراها وخفاياها شيئاً فخدعوا بظاهرها وبالدعايات التي كانت ترافقها وأولوها كل دعم وتأييد واكبروا همة وإخلاص باعثها وذلك لأن العالم الإسلامي كان قد فقد صوابه بعد انهيار الدولة العثمانية دولة الخلافة الإسلامية وكان على استعداد تام لتأييد أية حركة تقوم في أية ناحية من العالم لنصرة الإسلام وإعادة الخلافة أو أنه كان كالغريق يرفع يديه إلى السماء ليتمسك بحبال الهواء.

لقد عايشت - الدكتور إحسان حقي - الحركة الكمالية منذ يومها الأول وأدركت كل أدوارها وقد أخذت بها وخدعت كما أخذ غيري وخدع من المسلمين إذ ظنناها حركة إسلامية ولم يكن من شيء يعزينا عما نحن فيه، بعد اندحار الدولة العثمانية، إلا الإسلام. فقد أصبحنا غرباء في أوطاننا أشقياء في بلادنا تعساء في مجتمعنا. أو نحن كالأيتام على مأدبة اللئام ليس لنا وطن ندعيه لأن الغريب يستعمره ولا لنا دولة نستند إليها لأن الأغراب يحكموننا. وصرنا نسمع سفهاء الناس يشتمون ديننا في وجوهنا ومن كان منهم مهذباً ولم يشتم قال لنا : لقد ولى زمانكم ونحن اليوم أسيادكم وإن لم يقولوها بألسنتهم قالوها بأفعالهم. وكنا نتطلع يمنة ويسرة فلا نجد على سطح الأرض كلها، وعلى كثرة عدد المسلمين فيها، دولة إسلامية واحدة مستقلة حرة نستطيع أن ندعيها أو ننتسب إليها لنعتز بها بل كان العالم الإسلامي كله مستعمرات غربية أو شبه مستعمرات.

لهذه الأسباب كان سرورنا بالثورة الكمالية عظيماً ولا حدود له لأننا كنا نستطيع أن نقول بأنه قام مسلم من بين المسلمين يقف في وجه الغرب ويعلن ثورته عليه وأنه غداً سيعيد إلى المسلمين الخلافة الإسلامية ويعيد إلينا شأننا وعظمتنا. وكما سررنا وانتعشنا بثورة مصطفى كمال فقد سررنا وانتعشنا بثورة أنور باشا ولكن سرورنا بثورة مصطفى كمال كان أعظم لاسباب كثيرة منها :

1- إن بلاد الأناضول متصلة ببلادنا العربية اتصالاً مباشراً وان وجود دولة إسلامية إلى جوارنا أفضل من وجود دولة غربية عدوة.

2- إن الدولة العثمانية هي أمنا التي غذينا بلبانها وكنا جزءاً منها فرجوع الحياة إليها هو بعث لنا.

3- إن مصطفى كما يعمل للخلافة الإسلامية بينما أنور باشا يعمل لإقامة دولة إسلامية وليس هذه كتلك.

4- إن السلطان يؤيد حركة مصطفى كمال ولم نسمع أنه كان يؤيد حركة أنور باشا.

5- إن هالة الدعاية التي أحيطت بها الثورة الكمالية كانت أعظم وأحكم من هالة الدعاية التي رافقت حرب أنور باشا.

6- إن الثورة الأنورية ماتت سنة 1922 بموت قائدها ولم يبق أمامنا إلا الثورة الكمالية.

7- إن الغربيين أرادوا أن يصرفوا تفكير العالم الإسلامي إلى الثورة الكمالية لكي يستهلكوا آلام المسلمين ويخففوا على نفوسهم أثر الصدمة التي أنزلوها بهم بإزالة الخلافة فأولوا الثورة الكمالية كل عنايتهم ودعموها برعايتهم لأنهم كانوا يعلمون نتائجها مسبقاً على اعتبار أنهم هم الذين صنعوها.

وكما أن الغربيين قد نجحوا في مخططهم وجعلوا العالم الإسلامي كله يسير فخوراً بضع سنوات وراء الثورة الكمالية فقد استغل مصطفى كمال عواطف المسلمين وأموالهم إلى أبعد حدود الاستغلال وكسا ثورته لباساً إسلامياً، سواءً بأحاديثه وتصريحاته وخطبه، أو بمعاملته لزعماء المسلمين. فمن ذلك أنه استعان بالزعيم الليبي الشهير السيد أحمد السنوسي وجعله مستشاراً له وكان يبرق إليه، كما قال لي صديقي الأمير شكيب ارسلان، إذا اراد شن هجوم على مكان ما قائلاً: إننا ننوي الهجوم غداً أو بعد غد على مكان ما فاقرأوا البخاري الشريف على نية النجاح والتوفيق، واستغل أيضاً أعمال وأقوال جميعة الخلافة الهندية التي قامت بزعامة الأخوين شوكة علي ومحمد علي واستغل الشعراء فمدحوه والأدباء فأثنوا عليه ومشايخ الطرق فرفعوه إلى مقام الولاية.

كان مصطفى كمال يبطن غير ما يظهر وينوي أن يفعل غير ما يقول إذ أنه ما كاد ينتصر نهائياً ويطمئن إلى مصيره حتى ألغى الخلافة وطرد الخليفة من البلاد وطرد السيد أحمد السنوسي وتنكر لكل القيم الإسلامية وسار بسيرة ليس فيها أية مصلحة للإسلام ولا للمسلمين لا بل ليس فيها أية مصلحة لتركيا نفسها، فها هي تركيا بعد مضي ستين سنة على هذه الثورة ما زالت بلداً نامياً ضعيفاً لا حول له ولا طول فالحركة العلمية فيها ضعيفة والأمية سائدة والحياة الاجتماعية متأخرة والحالة الاقتصادية في الحضيض، وكل ما فعلته هذه الثورة أنها أشغلت الناس بأمور جانبية تافهة مثل إلقاء الطربوش وسفور النساء ولو كان هذان الأمران تركا للزمن لتكفل بتحقيقهما من غير ثورة كما حدث في كل البلاد الإسلامية حتى في أشدها تعصباً ومحافظة مثل اندونيسيا وباكستان والهند وأفغانستان وحتى إيران حيث كان ذكر المرأة على اللسان في هذه البلدان يعد عورة، فأصبحت المرأة في هذه البلاد وفي بحر سنوات قليلة قد تخطت التركية وهي تماشي الغربية. وإذا كان السفور قد تحقق في بعض المدن التركية الكبيرة حيث لم تكن المرأة متحجبة حجاباً كاملاً فإن المرأة في بعض المدن الكبيرة الأخرى وفي الأرياف ما زالت كما كانت وما زالت متأخرة ولم ينفع السفور في تقدمها.

ما هي نتائج الثورة الكمالية ؟

خرج مصطفى كمال من ثورته منصوراً يكلل هامته تاج العز والفخار لأنه أعاد إلى تركيا حياتها واستقلالها وقد تقبل نصف العالم الإسلامي هذا النصر بسرور عظيم لأنهم خدعوا بظاهره وهذا النصف هو النصف الجاهل أو الغبي أو الذي لا يعرف من الأمور إلا ظاهرها، وأما النصف الآخر العاقل المفكر الذي ينظر إلى خلفيات الأمور بمنظار الحقيقة فقد أدرك مدى الكارثة التي حلت بالعالم الإسلامي كله وليس بتركيا وحدها.

لقد أشغل مصطفى كمال المسلمين بأمور جانبية تافهة أرضى بها الشبان التواقين إلى الأخذ بالمظاهر وأخذ المعول وهدم الكيان التركي من جذوره. واذا جاز لنا أن نسمي ما قام به مصطفى كمال ثورة فهي ولا شك ثورة على الدين وعلى الثقافة وعلى التاريخ وعلى العالم الإسلامي عامة والأمة التركية بصورة خاصة.

لقد أبطل مصطفى كمال الأبجدية العربية وأحلَّ محلها الأبجدية اللاتينية فقطع بعمله هذا صلة الأمة التركية بالعالم الإسلامي وقطع صلتها بماضيها وهدم أمجادها وقضى على ثقافة ترجع إلى ألف سنة فيها الكثير الجيد من العلوم والفنون والأدب والشعر والتاريخ.

لقد قضى مصطفى كمال الأمة التركية وطمس معالمها وعراقتها وخلقها أمة جديدة وكأنها ليست من هذا العالم أو كأنها كما يقول المثل مقطوعة من شجرة. ولم يقدم البلاد ولا أهلها خطوة واحدة إلى الأمام بل أرجعها خطوات إلى الوراء من كل ناحية بدليل تقدم بعض البلاد التي كانت جزءاً من الدولة العثمانية وفصلت عنها وقد تقدمت، بفعل الزمن، خطوات واسعة في الفن والأدب والعلم والعمران. وما دامت تركيا لم تتقدم فهي إذن متأخرة.

ثم إنه بقضائه على الخلافة جردها من سلاح ماض كان في يدها تهزه متى شاءت في وجه الأعداء وكانت الدولة العثمانية حتى في أخريات أيامها، يوم لم يكن لها حول ولا طول، مرهوبة الجانب يخشاها القريب والبعيد ويحترمها العدو قبل الصديق لأنها كانت تحمل صولجان الإسلام الذي كانت تهدد به العالم فأصبحت اليوم بفضل مصطفى كمال دولة ثانوية مثل غيرها من الدول الصغيرة ليس لها وزن سياسي إلا بقدر ما لمركزها الاستراتيجي من أهمية وبقدر حاجة الدول إليه وليس لها مركز علمي ولا اقتصادي حتى ولا سياحي على الرغم من جمال تركيا وما فيها من جبال وبحار وغابات وأنهار لو كانت في بلاد أخرى لاستغلت أحسن استغلال في السياحة والاقتصاد.

إننا إذا أخذنا في تقييم هذه الثورة نجد أنها كانت وبالاً على تركيا وعلى العالم الإسلامي لأنها قضت على كل ثروات تركيا المعنوية وسلبتها عظمتها التي كانت تقوم على الإسلام وعلى اللغة العربية وهي عظمة لن تعود ابداً.

إن ما فعله مصفى كمال كان في مصلحة الغرب وليس في مصلحة تركيا ولا في مصلحة الشعب التركي. لقد قطع مصطفى كمال كل صلة للاتراك باخوانهم المسلمين حتى أنه غير أسماء الناس وغير اسمه. لقد قضى مصطفى كمال على هذه الأمة بالعقم الأبدي وأجهض مقدماً كل حركة إصلاحية يمكن أن تقوم في البلاد لخير البلاد وخير أهلها.

لقد كانت الخلافة، على ضعف الخلفاء، وتخاذلهم وجهل بعضهم لا بل ورذائلهم، سلاحاً ماضياً بيد المسلمين يزعج الغربيين فعملوا حتى قضوا عليه. ولو كان مصطفى كمال أبقى على الهيكل الإسلامي ولم يمس اللغة لكان خلق تركيا خلقاً جديداً سليماً ولكانت اليوم سيدة العالم الإسلامي كما كانت من قبل ولو تقلصت أطرافها.

وإذا نظرنا إلى السياسة التي انتهجها السلطان الظاهر بيبرس والسياسة التي انتهجها مصطفى كمال نجد الفرق بين تفكير الرجلين بعيداً جداً إذ بينما استند بيبرس على الخلافة وأحياها في مصر، بعد أن تلاشت في بغداد فرفع بذلك من شأن نفسه ومن شأن المسلمين في كل مكان وكانت الخلافة له ولخلفائه من بعده قوة ودعماً ودرعاً واقياً، نجد مصطفى كمال قد استند على الانكليز لهدم الخلافة ليرفع نفسه ويهدم تركيا.

لقد كان باستطاعة مصطفى كمال، بعد أن انتصر على اليونان أن يتنكر للغربيين ويقلب لهم ظهر المجن فيخدم بذلك بلده وأمته ولم يكن الغربيين يستطيعون، آنذاك، أن ينالوه بأذى لأن العالم كله كان معه ولكنه لم يفعل لأن الخطة الغربية كانت تسلير هواه وهذا من سوء حظ المسلمين وحظ البلاد التركية في الدرجة الأولى. وما تشاؤون إلا أن يشاء الله.

لماذا دعّم الغرب الثورة الكمالية أو لم يناهضوها ؟

قد يتساءل المرء، حينما يرى دول الحلف الغربي، التي هزمت، في حرب دامت أربع سنوات ونيف، الامبراطورية العثمانية ومعها امبراطوريتين قويتين هما المانيا والنمسا ومملكة البلغار، كيف عجزت عن الانتصار على ثورة قام بها قائد عثماني هو نفسه كان قد انهزم أمام الانكليز في جبهة فلسطين ثم عند جبال طوروس يوم كانت إمكاناته أكثر وقوته أكبر ؟

وهو تساؤل وجيه ومعقول لا سيما وأن مصطفى كمال ظل نحو سنتين في شرق الأناضول وهو لا يستطيع أن يتقدم لمواجهة أعدائه بل كان أعداؤه اليونان هم الذين يتقدمون حتى وصلوا مشارف انقره.

وللجواب على هذا السؤال نقول : إن الفرق بين الحالين كان كبيراً جداً وذلك لأنه الحلف الغربي كان في الحالة الأولى يريد دحر الدولة العثمانية، دولة الخلافة الإسلامية، التي كانت قذى في عيون أهل الغرب وحسكةً في حلوقهم، ولذا فقد وضع، في ميدان المعركة، كل طاقاته وإمكاناته وعمد إلى كل السبل فسلكها وعمل بكل الوسائل حتى بلغ ما يريد، بينما الأمر لم يكن كذلك مع ثورة مصطفى كمال، إن أهل الحلف الغربي وعلى رأسهم انكلترا وفرنسا كانتا حريصتين كل الحرص على انتصار مصطفى كمال على اليونان لأسباب مر ذكرها كما أنهما كانتا حريصتين على بقاء بلاد الأناضول لأصحابها على أن تكون تابعة للغرب بعيدة عن الإسلام والمسلمين وكانتا تعلمان مسبقاً أن مصطفى كمال سيحقق لهما هذه البغية.

كانت دول الغرب حريصة على القضاء على الدولة العثمانية لأنها دولة إسلامية قادرة باسم الإسلام على أن تهدد العالم كله وليس الغرب وحده إذا استعملت هذا السلاح المعنوي استعمالاً صحيحاً وسليماً. ولذا فإن كل الحروب التي شنها أهل الغرب على الدولة العثمانية وكل المعاهدات والاتفاقات التي عقدوها كانت تدور حول هذه النقطة وهذا الهدف.

إن الحروب الصليبية بدأت منذ ظهر الإسلام ولكنها ظهرت بثوب عملي في القرن الحادي عشر الميلادي، يوم ضعفت البلاد الإسلامية، واشتدت يوم بدأت الدولة العثمانية تغزو أوروبا في عقر دارها. ومع أن دول الغرب مجتمعة ظلت أكثر من ثلاثة قرون تعمل للقضاء على هذه الدولة الإسلامية دون أن تبلغ ما تريد، على الرغم مما أصاب الدولة العثمانية من تضعضع، فانها قد ذهلت وارتبكت حينما تم لها هذا النصر بهذا الشكل الذي حدث والذي لم تكن تتوقعه ولا تتصوره أيضاً وذلك بأن ترى الامبراطورية العثمانية ومعها حليفاتها تنهار أمامها في بحر أسابيع أو شهور قليلة، بعد أن ثبتت أمام ضرباتها أربع سنوات لا بل وانتصرت عليها مرات.

قلت في بحر أسابيع لأن الحرب في سنواتها الأولية كانت سجالاً بين المتخاصمين، لا بل كانت في بعض الجبهات انتصاراً للحلف العثماني ولم يكن ما يبعث على الاعتقاد بحدوث هذا الانهيار، ولكن وقوف العرب إلى جانب الحلف الغربي وحماقات ارتكبها بعض رجال الاتحاد والترقي وامكانات الحلف الغربي المادية والمعنوية الواسعة واستسلام البلغار المفاجئ، كل أولئك غيرت وجه الحرب فاسفرت عما اسفرت عنه من انهيار ثلاث امبراطوريات كانهيار قصور الكرتون أو بيوت الرمال.

فهذا النصر الساحق الذي أحرزه الحلف الغربي على الحلف العثماني قد فرّح الغربيين ولكنه ادهشهم وأذهلهم ايضاً لا بل قد كانت دهشتهم أكبر من فرحتهم إذ كان شأنهم شأن الفقير المعدم الذي تهبط عليه ثروة كبيرة فجأة من السماء لم يكن يحلم بها فيحتار في أمره ويحتار فيما يفعل بهذه الثروة الطارئة وكيف ينفقها.

أدرك الغربيون بعد أن تم لهم هذا النصر أن اللقمة التي امامهم أكبر من أفواههم وأنهم لا يستطيعون هضمها وأنه لا بد لهم من إعادة النظر على برامجهم السابقة، وعلى الرغم من أنهم كانوا قد اقتسموا تركة ( الرجل المريض ) فيما بينهم مرات وأنهم باعوا جلد الدب قبل أن يصطادوه الا أن أوضاعهم اليوم تختلف عما كانوا عليه من قبل اذ مات أحد الورثة قبل موت الامبراطورية العثمانية واعني به امبراطورية موسكو بنشوب الثورة الشيوعية فيها، وماتت ايضاً كل من الامبراطورية الألمانية والامبراطورية النمسوية بسبب تحالفهما مع الدولة العثمانية. فاصبحتا في جانب التركة لا في جانب الورثة، ولذا فقد كان من البديهي أن يتغير التقسيم وتتغير الأهداف لا سيما وأنه لم يعد في الميدان إلا انكلترا وفرنسا، وأما إيطاليا واليونان فقد كان بالامكان إرضاؤهما بالقليل لأن إيطاليا كانت في بداية الحرب حليفة للدولة العثمانية ثم تركتها وانضمت إلى الحلف الغربي وهي لم تهضم بعد البلاد الليبية التي استولت عليها سنة 1911 ولم تكن الدولة العثمانية قد اعترفت بعد بتنازلها عنها، واليونان دولة صغيرة لا حول لها ولا طول وبالتالي فليس لها حساب. وأما امريكا، التي كانت السبب في انتصار الحلف الغربي، فانها كانت، بشخص رئيسها ولسن، تريد الحرية للجميع فإذا لم تصل إلى هذه الغاية تركت الدنيا لأهل الدنيا وانصرفت وهذا ما حدث. وكان كليمنصو رئيس وزراء فرنسا يقول : أنا في حيرة من أمري بين رجلين : الأول يظن نفسه المسيح والثاني يحسب نفسه نابليون. ويعني بذلك ولسن رئيس الولايات المتحدة، الذي كان مشبعاً بالروح الانساني، ولويد جورج، رئيس وزراء بريطانيا الذي كان مليئاً بالغرور.

غير أن الذي كان يخيف الغالبين هي روسيا التي وإن كانت قد خرجت من الحرب مغلوبة بسبب نشوب الثورة الشيوعية فيها، تلك الثورة التي كان الفضل الأكبر في نجاحها لألمانيا، التي زودت لينين بالمال والسلاح وأرسلته إلى روسيا ليقلب الحكم فيها، فإن حلفاءها القدامى أي انكلترا وفرنسا ومن معهما، كانوا يعلمون بأن ضعفها لن يطول أمده وأنه لا بد لها من أن تنهض وتقف على ساقيها ثم لا بد لها من أن تطالب بإرثها وأن تسعى إلى تحقيق مطامعها في البحر الأسود وفي الممرين المائيين، ولذا فقد كان لا بد للانكليز وهم سادة البحار، آنذاك، من أن يفكروا بهذه النتيجة وأن يتداركوا عواقبها قبل حلولها. وكان الحل هو إبقاء الأناضول لاصحابها.

فمن جهة كانت انكلترا وفرنسا تخشيان الدب الروسي الرابض على حدود الأناضول. ومن جهة ثانية كانتا قد تقاسمتا البلاد العربية فأخذت فرنسا سوريا ولبنان وأخذت انكلترا العراق وفلسطين بالإضافة إلى ما كانت تسيطر عليه من قبل من شواطئ الجزيرة العربية بدءاً بمستعمرة عدن فالمحميات فمسقط فمشيخات الخليج العربي بما فيها البحرين والكويت.

وفي الوقت الذي اتفقت فيه الدولتان الانكليزية والافرنسية على هذا التقسيم سراً كانتا قد أعطتا فلسطين للصهيونيين لتكون وطناً قومياً لهم، ووعدتا الشريف حسين بامبراطورية عربية تشمل الوطن العربي كله، أو أن الشريف حسين ظن أن رغبته حقيقة واقعة وأن مطالبه أوامر تعطى لحلفائه فتنفذ، فبات خاليالبال مرتاح الخاطر يعيش هو وكل العرب في حلم لذيذ معتمدين على صدق الحلفاء وإخلاصهم ويصدقون كل ما يقال لهم، ويكتفون من العهود بالوعود لا بل بالوعود الغامضة، ولم يكونوا يدرون أن عهود أهل الغرب الكلامية هراء والمكتوبة منها قصاصات ورق يمكن تمزيقها وحرقها في كل وقت حتى اذا كانوا مغلوبين فكيف بهم إذا كانوا غالبين ؟

اقتنع الشريف حسين بحسن نوايا حليفته بريطانيا على الرغم من أن تصرفات رجالها كانت تدل بوضوح على المراوغة والخداع. ولكن أنى للمسلم الشريف أن يسيء الظن بمن يتودد إليه ويظهر له الاخلاص ؟

ظل الشريف حسين ثابتاً على مبدئه محسناً الظن بالانكليز على الرغم من أن رجال الثورة الشيوعية، بعد أن استلموا الحكم في البلاد، فضحوا الاتفاقية السرية ( اتفاقية سايكس ـ بيكو ) المعقودة بين انكلترا وفرنسا وروسيا لتقسيم الامبراطورية العثمانية، وعلى الرغم من أن جمال باشا نبه العرب في الكلمة التي القاها في بيروت بتاريخ 30/11/1917 إلى هذه الحقيقة. وقد أعرب مندوبا انكلترا وفرنسا المقيمان في الحجاز صراحة عن سوء نية حكومتهما حينما رفضا الحفلة التي أقيمت في جدة احتفاءً بمبايعة الشريف حسين ملكاً على البلاد العربية. وقد تمت المبايعة في مكة المكرمة في 4/11/1916 وأقيم الاحتفال في جدة لكي يتسنى لهذين المندوبين حضوره ولكنهما لم يحضرا لأن حكومتيهما لم تعترفا بالشريف حسين ملكاً على البلاد العربية بل ملكاً على الحجاز ورفضتا منحه لقب صاحب الجلالة بل دعته بصاحب السيادة وأحياناً بصاحب السمو.

كانت الأمور، اذن، ظاهرة منذ البداية ولكن الشريف حسين لم يعد قادراً على الرجوع كما أنه كان صادقاً في ثورته وظل يحسن الظن بانكلترا.

فلما انجلت الحرب ورأى العرب أنفسهم أنهم أصبحوا أكثر فرقة وشتاتاً مما كانوا عليه من قبل وانهم أصبحوا محكومين بأسماء مخترعة، منها الانتداب والحماية والتحالف والاستعمار والقوة، بعد أن كانوا شركاء الدولة العثمانية في الحكم، اسقط في أيديهم وكانت ردة فعلهم عنيفة ويأسهم من حلفاء الأمس عظيماً ولكنهم لم يتحركوا بل ظلوا يعيشون بالآمال، اللهم إلا ما قيل عن مراسلات جرت بين الشريف حسين وبين مصطفى كمال ومراسلات جرت بين بعض رجالات سوريا وبين مصطفى كمال أيضاً ولكنها دفنت في المهد. وبدهي أن هذه المراسلات لم تكن تنفع شيئاً لأن مصطفى كمال نفسه كان بحاجة إلى المعونة من جهة ثم إنه لم يكن من الناس الذين يحبون العرب أو يعطفون عليهم من جهة ثانية.

ولعل السبب في عدم قيام العرب بحركة هو تقطيع أوصالهم وانعدام القيادة الموحدة فيهم وفقدان التنظيم السياسي وعدم وجود جيوش نظامية ثم وجود جيوش فرنسية وانكليزية في البلاد وهي لم تعد جيوشاً حليفة بل أصبحت جيوشاً غازياً.

وبينما كان العرب غارقين في بحور تأملاتهم يستجدون عطف حلفائهم تنبه السلطان وحيد الدين للأمر وأدرك أن بقاء الأناضول بلداً مستقلاً أمر لازم لأعداء الدولة العثمانية كما أن أدرك بأن الحصول على الاستقلال لن يتم إلا بالسعي إليه فاوعز إلى مصطفى كمال بأن يقوم بثورة مسلمة وكان ما كان مما أسلفنا ذكره.

هذا ما كان من أمر المغلوبين وأما ما كان من أمر الغالبين فقد ادركت انكلترا، وهي التي تحتل استانبول، انها لا تستطيع ابتلاع البلاد العثمانية كلها وان حصتها من البلاد العربية كافية لها وأن تماديها في استفزاز الشعور الإسلامي قد ينقلب عليها ويضر بمصالحها ولا سيما في شبه الجزيرة الهندية والباكستانية، التي كان يهمها امرها كثيراً، وأن الثورة التركية انما هي الخطوة الأولى وربما تبعتها ثورات وبالتالي فإنه لا بد من الهاء العالم الإسلامي بهذه الثورة، التي علق عليها المسلمون كل آمالهم في إحياء الخلافة، وعلق الغربيون عليها آمالهم بأن تكون هدماً للخلافة واجتثاثاً لجذور الإسلام من البلاد حتى لا تقوم لها قائمة، ولذا فان نجاحها كان يهم الانكليز أكثر مما يهم المسلمين، لأنها بهذه الثورة تصرف العرب عن التفكير بانفسهم وتعلق آمالهم على الثورة التركية، من جهة، وتكون، من جهة ثانية، قد ثبتت أقدامها وأقدام حليفتها فرنسا في البلاد العربية فإذا صحا العرب لا يجدون لأنفسهم مخرجاً مما وقعوا فيه.

عمل الانكليز جهدهم لإنجاح الثورة التركية بدليل أنهم لم يساعدوا اليونان بشيء، وبما قاموا به من دعاية للثورة ذاتها ولشخص مصطفى كمال حتى جعلوا الناس يظنون أن الخلافة الإسلامية أصبحت في متناول أيديهم وأنها قد استعادت مجدها وأن مصطفى كمال هو نور الدين زنكي أو صلاح الأيوبي أو حتى عمر بن الخطاب ونسي المسلمون مصائبهم فرحاً بانتصارات مصطفى كمال التي اعتبروها الخطوة الأولى نحو تحقيق آمالهم الإسلامية. غير أن ما حدث بعد ذلك خيب آمال المسلمين، ولكن الفرصة كانت قد فاتت ولم يعد بمقدورهم أن يفعلوا شيئاً بعد أن تفرق شملهم، وبعد أن انتزع عبد العزيز بن السعود الملك من الحسين، خليفة المسلمين المنتظر، فأخذه الانكليز وسجنوه في قبرص إلى أن توفي وجازوه جزاء سنمار.

كان الغرب عامة والانكليز خاصة يفضلون وجود دولة تركية ضعيفة مشذبة الأطراف بعيدة فكراً ومبدأ وروحاً عن البلاد العربية المجاورة على أن يسيطروا هم على الأناضول لأن وجود أية دولة أوروبية في الأناضول باسم الاستعمار أو الحماية أو الانتداب سيجعل الاحتكاك مع الروس مستمراً بينما وجود دولة تركية ضعيفة سائرة في ركاب الغرب أضمن للغرب وأنفع له.

وإذا كان الانكليز قد نكثوا عهودهم مع العرب لأنهم أدركوا ضعفهم وشتات كلمتهم وعدم اتفاقهم على رأي ولأنهم كانوا يعلمون بأنهم لن يتنازلوا عن دينهم ولا عن قوميتهم الإسلامية فإنهم قد ساعدوا مصطفى كمال، أو إن شئت فقل أنهم لم يناهضوه، لأنهم كانوا يعلمون أنه سيعطيهم كل ما يطمعون به وذلك لأن الاستعمار لم يعد، في أيامنا هذه، استعمار أرض وسماء وسيطرة عسكرية وحكماً مباشراً بل أصبح استعمار أفكار ومبادئ وأهداف، وقد أصبحت تركيا مستقلة في ظاهرها وفيما لا يضر الغرب ولكنها مستعمرة في أفكارها ومبادئها.

لقد جرب الانكليز العرب وامتحنوا إخلاصهم فوجدوهم لا يصلحون لصداقتهم لأنهم صادقون مع أنفسهم وإذا كان الملك حسين قد رضي بالسجن والنفي ولم يرض بأن يسجل التاريخ عليه أنه رضي بالوطن القومي اليهودي، مع أن رضاه أو عدمه لم يكن ليقدم ولا ليؤخر شيئاً، فمن البدهي الا يكون أداه طيعة في أيدي أهل الغرب ولذا فقد لاقى منهم العداوة والبغضاء.

لقد فرح المسلمون في العالم كله بنجاح الثورة التركية ولكن فرحتهم لم تطل بعد أن أدركوا ابعادها ومراميها ورأوا نتائجها ولمسوها في أنفسهم وفيما يعانون من أوضاع. ويحاول اليوم كثير من الأتراك المخلصين الرجوع إلى ماضيهم ولكنهم لا يستطيعون لأن الثورة قد ضربت بينهم وبين ما يبتغون سداً منيعاً لا يقدرون على النفوذ منه بعد أن قطعتهم الثورة من جذورهم وأبعدتهم عن تاريخهم ولغتهم وثقافتهم.

لقد ربح أهل الغرب بهذه الثورة شيئاً كثيراً لم يكونوا يحلمون به ولكن هذا الربح لم يأتهم مجاناً وهم نائمون بل لقد علموا له قروناً "وأن ليس الإنسان إلا ما سعى".

Free Web Hosting