منشأ آل عثمان وظهور دولتهم

ظهور آل عثمان.

اعلم أنه لما أغار جنكيز خان سلطان المغول سنة هـ م على بلاد آسيا الغربية آتياً من الشمال خرج سليمان شاه بن قيا ألب من سبط قايي خان وكان نازلا في أواسط آسيا بصحراء ماهان بجهات مرومها جرامع نحو 50 ألفاً من قبيلته وماز زالوا يسيرون يتخيرون المنازل والأعشاب حتى استقروا بجهات أذربيجان وبعد أن أقاموا تلك الجهات نحو ست سنوات هاجم السلاجقة خراسان وخوارزم وفتحوهما فقفل سليمان شاه راجعاً إلى وطنه ولما وصلوا إلى نهر الفرات وأرادوا عبوره غرق سليمان شاه بالنهر المذكور قضاء وقدراً هـ م فأخرجوه ودفنوههـناك عند قلعة جعبر ولا يزال قبره يوجد للآن ويدعى (ترك مزارى) .

وكان لسليمان شاه المذكور أربعة أولاد وهم سنقور زنكي وكون طوغدي وأرطغرل وكوندوز وقع بينهم الاختلاف في الرحلة أو المقام بعد موت والدهم فمنهم من اختار متابعة المسير إلى بلاده ومنهم من فضل البقاء مع أرطغرل الذي قصد بلاد الأناضول مع أربعمائة بيت من قومه منهم نحو 440 فارساً فساروا حتى نزلوا غرباً بجهة سرمهلووياسين وضربوا بها خيامهم ولما كانت تلك الجهات غير موافقة لسكناهم بالمرة أرسل أرطغرل سنة 630 هـ ولده صاروباتي بك إلى سلطان الروم علاء الدين السلجوقي يطلب منه الحماية ويستعطفه في أن يمنح عشيرته بعض الأراضي الخصبة فدله السلطان جناح الرأفة وأقطعهم أراضي قرهجهطاغ قرب أنقرة وكان بها ما يلزمهم من الدفء شتاء والمراعي صيفاً فأقاموا هناك قريري العين.

وبينما كان أرطغرل يرود بعض الجهات يوماً مع فرسان من قبيلته إذ صادفوا جيشين في حومة الميدان يستعدان للقتال وكان أحدهما أقل عدداً من الآخر فانضم أرطغرل بقومه إلى الجانب الضعيف لأنه كان يميل دائماً لمساعدة الضعفاء ويقال إنه وجدهما يتقاتلان وكان أقلهما عدداً أشرف على الهرب فحركته حينئذ الغيرة على الضعيف فانضم إليه مساعداً له وكان أحد هذين الجيشين وهو الضعيف للسلطان علاء الدين كيقباد بن كيخسرو السلجوقي، والثاني لهولاكوخان من أعقاب جنكيز خان ملك المغول، فلما قامت الحرب بينهما ويسّر الله الظفر للسلجوقيين بمساعدة أرطغرل وعشيرته وانقضى القتال وعلم السلطان السلجوقي بذلك استدعى إليه أرطغرل رئيس أولئك الغرباء وبعد أن وقف منه على حالته وحالة عشيرته أظهر له عظيم ارتياحه ومزيد شكره وخلع عليه وعلى أخيه وأقطعهم الأراضي الواقعة بجهتي طومانيج واسكيشهر 663 هـ 264م .

وبعد ذلك أخذ أرطغرل في مساعدة علاء الدين السلجوقي في أكثر وقائعه الحربية ضد المغول ودولة بوزنطية فكان له أثر مشهور ولهذا زاد السلطان علاء الدين في الاقطاعات لأرطغرل وتنازل له عن قطعة من بلاده الأصلية وقطعة مما فتحه من دولة القسطنطينية وهي الجهة المسماة الآن سلطانية أو (صيراجق) من ولاية قونية فكانت تلك الأراضي بما فيها جهة سكود مهّد الدولة العثمانية، ولما وقعت الحرب بعد ذلك بين السلطان علاء الدين والمغول لتعرضهم لبلاده فوض أمر المحافظة على قلعة كوتاهية التي استولى عليها المغول للأمير أرطغرل فاستردها بعد قتال شديد فَعَلتْ منزلة أرطغرل عند السلطان علاء الدين ولم يزل أرطغرل يقارع أعداء علاء الدين مؤيداً منصوراً حتى توفي سنة680هـ بسكود وسنّه يتجاوز 90 سنة.

ولما بلغ السلطان علاء الدين خبر وفاته جزع لذلك جدّاً وعين ولده الغازي عثمان مكانه ولما رآه السلطان علاء الدين من حزمه واجتهاده واتباعه خطة أبيه في الغزو والجهاد مدّة بالإعانة والإمداد وأرسل إليه شارات السلاجقة وهي الراية البيضاء والخلعة والطبل وكتاباً تركي العبارة معلناً باستقلال عثمان بك وبأن يكون له فيما بعد كل ما فتحه من الأراضي 688 هـ ولما ضرب الطبل بين يدي الأمير عثمان نهض قائماً على قدميه تعظيماً للسلطان علاء الدين وقد جرت العادة بعد ذلك بأن يقوم السلطان عند سماعه الطبلة تعظيماً وتذكاراً ولقبه علاء الدين بلقب بك وسمح له بأن يضرب السكة باسمه وبذكر اسمه على المنابر بعد ذكر السلطان.

ولقد كانت عوامل الفساد والضعف دبت إذ ذاك في جسم المملكة الرومية وكانت أحوال ولاياتها غير منتظمة فكان كل حاكم من حكامها المسمى بالتكفور يستبد في ولايته حسب رغبته ومشتهاه ولما شاهد الغازي عثمان ذلك أخذ في التضريب بينهم وإلقاء بذور العداوة والشحناء بين مجموعهم لأن الحرب خدعة ولما تمكن من مراده أخذ في الاستيلاء على ولاياتهم حتى أن حاكم (خرمن قيا) المدعو كوسه ميخال وأمثاله من المتفقين شرعوا في إلقاء المفاسد بين الحكام وكوسه ميخال هذا هو الذي أطلع الغازي عثمان على ما دبره له بقية الحكام من الايقاع به لما بينهما من الصداقة في يوم عرس حصل عند بعضهم وقد تدارك الأمير عثمان هذا الخطر بحيلة حربية.

وبينما كان كوكب العثمانيين في صعود وأمرهم في ارتقاء إذ أغار غازان خان سنة 699هـ على مدينة قونية وأزال دولة السلاجقة.

السلطان الغازي عثمان خان (699-726) هـ:

لما أعلن السلطان عثمان الغازي استقلاله أتاه كثير من علماء وأعيان وأمراء الدولة السلجوقية المنقرضة ودخلوا تحت حمايته واستمر يجاهد بعد الاستقلال نحو سبع سنوات واستولى من دولة الروم على كثير من الجهات ولما رأى من نفسه عدم القدرة على تحمل مشاق الأسفار لتقدمه في السن نصب ابنه أورخان بك قائداً للجنود وكان القسم الذي خص الأمير الغازي عثمان يتركب من جزء من إقليم بروسه ومن كافة البلاد الواقعة حوالي جبل أولمبة بالأناضول ولاذ أيضاً كثير من أعيان الروم بعدالة الغازي عثمان معترفين بسيادته وبذلك تأسست الدولة العلية العثمانية في التاريخ المذكور وقت الحادثة المذكورة وكانت في مبدأ أمرها حكومة صغيرة كما علمت، ثم أخذت تنمو شيئاً فشيئاً بمساعي هذا السلطان وشجاعته وعدالته حتى صارت قبلة الإسلام ونقطة آمال الموحدين ولما كانت هذه المملكة الصغيرة متاخمة لمملكة القسطنطينية الآخذة في الاضمحلال كانت الحروب لا تنقطع تقريباً بين البلدين فكانت هذه المملكة الحديثة العهد الممتلئة قوّة وحماساً تريد محو جارتها الهرمة التي كان يعز عليها أن ترى مملكة صغيرة حديثة النشأة تخالفها في المعتقد والعوائد تجاريها في مضمار الفتوحات.

ثم إن السلطان عثمان وجه التفاته لتوسيع دائرة أملاكه فحاصر مدينة كبري حصار عدّة مرات حتى اضطر عاملها للتسليم، ثم حاصر قلعة أزنيق الشهيرة وأنشأ في جانب قلعتها على الجبل من جهة يكيشهر القلعة المسماة سردار طارطغان وفي أثناء ذلك اتفق عامل بروسه مع حكام أطره نوس أوادربانوس وكستل وكته على مهاجمة مدينة يكيشهر مقام العثمانيين فقابلهم السلطان عثمان على رأس جيشه بجوار قلعة قيون حصار وهزمهم ثم اقتفى أثرهم حتى المكان المدعو ديمبوز وأوقع بهم فيه وقتل في هذه الواقعة أمير مدينة كستل وآي طوغدي ابن أخي السلطان ثم أركن أمير أطره نوس وبروسه إلى الفرار أما تكفوركته فإنه بعد التجائه إلى تكفور مدينة أولوباد أصر السلطان الغازي عثمان على تسليمه إليه فامتثل أمير أولو باد للأمر.

وفي سنة717 هـ شيد السلطان عثمان بالقرب من مدينة بروسه على مسافة ربع ساعة منها عند ينبوع الماء المعدني الحار قلعتين جعل في إحداهما ابن أخيه آق تيمور وفي الأخرى البطل بلبانحبق أحد مماليكه وبعد أن تمكن من حصار بروسه بهذه الكيفية وأسلم القائد كوسه ميخال الشهير ترك ولده السلطان أورخان وكوسه ميخال وصالتق ألب للمحافظة على البلاد وأنزلهم بقلعة قره حصار ثم سار هو بنفسه يقصد قلعة لبلبنجي ولفكه جادرلق فاستولى عليها بلا حرب وأخضع بعد ذلك يكيجه حصار وآق حصار وتكفور بكاري بلا حرب أيضاً وضم الجميع لأملاكه ثم أرسل الغازي أورخان والغازي عبد الرحمن وغيرهما إلى قلعة قره جيش الشهيرة وبعد حصارها أسروا حاكمها واستولوا عليها مع الجهات المجاورة لها ثم استمرت الفتوحات واستولى على مدينة طوز بازاري بعد أن أخضع قلعة قره تكبه ثم أن فرقة أقجه قوجه فتحت جملة جهات في أطراف أزميد ولهذا السبب كان يطلق على سنجق أزميد في ذلك الوقت قوجه ايلي وفي خلال ذلك فتح الغازي عبد الرحمن مدينة أزنيق.

ولما عزم السلطان عثمان الغازي على فتح بروسه أنشأ لذلك قلعتين حولها كما سبق وعين لهذه المهمة الغازي أورخان 726هـ وبعد خروجه من مدينة يكيشهر مر بأطره نوس ولما تقابل مع حاكمها أراد القبض عليه ففر من وجهه إلى أن وقع من صخرة فمات وأرسل الغازي أورخان خبر ذلك إلى السلطان مع كوسه ميخال وبذلك أمكن الاستيلاء على مدينة بروسه بلا كبير مشقة وفي أثناء تلك الفتوحات المتعاقبة بلغ الغازي أورخان مرض والده فسافر إليه مسرعاً ولما صار بين يديه نصحه بنصائح عظيمة منها حسن المحافظة على الرعية وسياستهم بالعدل والإنصاف.

وفاته:

ثم توفي يوم 17رمضان سنة 726هـ وكان سنه 70سنة ونقلت جثته من داخل قلعة بروسه إلى تربته المخصوصة وكانت ولادة هذا السلطان بمدينة يكيشهر سنة 656 هـ ومدّة سلطنته 20 سنة ولم يقع بينه وبين دولة من الدول الأجنبية حروب خلاف دولة القسطنطينية أو بينه وبين الأمراء التابعين لها وترك من الذكور اثنين وهما الأمير أورخان والأمير علاء الدين.

السلطان الغازي أورخان ابن السلطان الغازي عثمان خان 726-761هـ:

اعلم أنه عند جلوس السلطان الغازي أورخان على سرير السلطنة كانت شبه جزيرة الأناضول منقسمة بين ملوك الطوائف الذين قاموا بعد انقراض دولة السلاجقة فكان بخشى بك بن محمد بك من أولاد قرمان متغلباً على مدينة قونية وتوابعها أي جالساً مكان الدولة السلجوقية وكان آيدين بك وصاروخان بك ومنتشا بك وكرميان بك وحميد بك وتكه بك وقره سى بك وهم من أولاد أمراء السلاجقة حكاماً على ممالك صغيرة أخرى إلا أنهم لم يكونوا تحت طاعة أمير قونية المذكور وكان أولاد أسفنديار حكاماً مستقلين بجهات قسطموني.

وكانت بقية الممالك الأخرى تحت تسلط بعض عشائر التركمان فكان بمرعش أولاد ذو القدرية وباطنة أولاد رمضان وكان من بين هؤلاء حكومة السلطان أورخان التي ورثها من أبيه ولما لم تكن قوية في أول استقلالها كما مر ولم يكن في إمكانها الدخول في المنازعات التي كان يثيرها أولاد قرمان للمطالبة بميراث الدولة السلجوقية أمكنها فيما بعد بما أظهره السلطان عثمان الغازي من الإقدام والجسارة أن تكتسب قدرة ومكانة خصوصاً بعد استيلائها على مدينة بروسه لأن السلطان أورخان بعد أن اتخذ تلك المدينة مقر السلطنة التي كانت عديمة القرار قبل ذلك تمكن بمساعيه من إظهار شوكة الدولة وسطوتها بالفتوحات الآتية.

ولما جلس هذا السلطان على سرير الملك كان سنه يبلغ أربعين سنة وبعد أن نقل تخت المملكة إلى مدينة بروسه بعد أن كان بمدينة يكيشهر مدّة خمس وثلاثين سنة التفت إلى التنظيمات الضرورية وسن القوانين والنظامات بمساعدة رجال حكومته الذين نخص بالذكر منهم قاضي بروسه جندره لوقره خليل فكان أول شيء بدأ به أن ضرب السكة العثمانية وجعل للمأمورين والأمراء وأصناف العساكر وطبقات الأهالي ملابس مخصوصة.

ولما رأى أن جيوشه المؤلفة من فرسان التركمان وممن قدر من الرعية على الحرب لا نظام لهم ولا معرفة بقوانين الضبط والربط ولا هم مجمكون أخذ يرتب عساكر نظامية ووضع لهم قانوناً للتربية فأنشأ لذلك طائفة اليكجرية الانكشارية وصار حسب ما رآه وزيره يأخذ كل سنة العدد الممكن من أولاد النصارى ويجمعونهم ثم يعلمونهم آداب الإسلام ويعتنون بتربيتهم ومتى بلغوا السن اللائق للعسكرية أدخلوهم ضمن أوجاق اليكجرية.

وكان لكل واحد منهم يومياً وظيفة مقدرة وقد استمر هذا النظام أي ادخال مثل هؤلاء الأولاد في الجيش العثماني لسنة 1050هـ وقد نبغ من هؤلاء كثير من الرجال تولوا الوزارة والإمارة والأعمال الجليلة حتى صار النصارى فيما بعد يطلبون من تلقاء نفسهم إدخال أولادهم ضمن اليكجرية ومن النظامات التي أوجدها هذا السلطان منصب الوزارة عين له أخاه علاء الدين باشا فكان أول وزير في الدولة العثمانية.

ولما أتمّ التنظيمات السابقة التفت إلى أراضي البلاد المفتتحة فقسمها إلى قسمين وهما خاص وتيمار فكانت إيرادات الخاص للخزينة السلطانية ولأمراء العائلة الملوكية ولأعيان الحكومة وإيرادات التيمار لرجال الحرب.

ولما استقرت قواعد الدولة بهذه النظامات الحديثة التفت إلى الفتوحات فأشهر في سنة 727هـ حرباً على بلاد الروم وفي خلالها صادف وفاة حاكم أزميد مركز إقليم قوجه ايلي فآلت إدارة المدينة إلى ابنته وكانت ترد لها الإمدادات من القسطنطينية ولما حاصر تلك المدينة الغازي عبد الرحمن كاتبته البنت المذكورة سراً فاستولى على قلعتها وأرسل البنت المذكورة مع الغنائم إلى السلطان الذي عقد نكاحها على الغازي عبد الرحمن لكونها خدمت وأعانت الدولة وكانت النساء اللاتي يتظلمن للسلطان أورخان يلاطفهن بالكلام وينعم عليهن بما يسر خواطرهن فمالت إليه قلوب الناس.

وما زال يتقدّم في فتوحاته حتى حضر بنفسه في سنة 728هـ 1327 م وحاصر أزميد وأرسل القائدين قره على وايغور ألب مع جنود إلى فتح قيون حصار وفي أثناء المحاربة أصيب قلايون حاكم قيون حصار برصاصة فسقط ميتاً من سور القلعة وبذلك استولت الجيوش العثمانية على القلعة المذكورة وفي خلالها سلمت بلا قونية حاكمة أزميد نيقوميديا المدينة إلى السلطان أورخان فأركبها هي وجنودها ومن يريد من أهالي المدينة السفن وأرسل الكل إلى القسطنطينية وذلك بناء على رغبتها وبذلك صارت حدود الدولة قريبة من خليج القسطنطينية.

وفي سنة 731هـ فتحت مدينة أزنيق أو أزنيك وغنم العثمانيون منها مغانم وافرة جداً بعد أن اجتهد قيصر القسطنطينية في خلاصها وكان فتحها على يد الأمير سليمان ابن السلطان ولما تم فتحها وأصلح ما تهدم من مبانيها حول السلطان بعض كنائسها إلى مدارس ومساجد وعين للتدريس بإحدى تلك المدارس العالم الشهير داود القيصري وجعل على قضائها العالم العامل خليل جندارلي ولما كانت هذه المدينة في الوقت المذكور من أعظم مدائن تلك الجهات اتخذها السلطان أورخان عاصمة له.

ولما توفي الوزير علاء الدين سنة 732 صار الأمير سليمان باشا وزيراً للدولة وفتحت بلاد مدرني وكمليك وفي خلالها أرسل قيصر الروم جملة هدايا للسلطان أورخان وعقد بين الطرفين مهادنة في السنة نفسها لمدّة عشرين سنة وبموجبها صارت جهات مايناس وأيدنجق وباليكسري وبرغمه وقره سي وميخاليج وكرماستي من أملاك الدولة العثمانية ولم يبق بعد ذلك لقياصرة بالأناضول غير مدينة آلاشهر وقلعة بيغا وضم العثمانيون أيضاً إلى ممالكهم سنة 737هـ مملكة قره سي وهي أول مملكة إسلامية من الأناضول عند وقوع الاختلافات بين أولاد عجلان بك حاكمها بعد وفاته وفي مدّة المهادنة المذكورة تفرّغت الدولة للإصلاحات الداخلية وسنة 746 هـ جدّدت المعاهدة السلمية مع قيصر الروم وفي التي بعدها ذهب السلطان مع حاشيته إلى مدينة اسكدار وتقابل هناك مع قيصر الروم وتأيدت بذلك المصافاة بين المملكتين.

إلا أن دولة الروم لما كانت تبطن العداوة للعثمانيين كانت تنتهز الفرص للإيقاع بهم فخالفت شروط المعاهدة بعض مضي عشر سنوات من امضائها واتحد القيصر مع البنادقة الذين كانوا في أغلب الأوقات يهاجمون حدود المملكة العثمانية من جهة البحر فلذلك أصدر السلطان أورخان أمراً إلى ولده الأمير الغازي سليمان باشا بالاستعداد والزحف على بلاد الرومللي فجهز الجيوش وتقدّم بها في سنة 757هـ 1356 م حتى وصل إلى مدينة جناق قلعة بساحل غربي آسيا على مضيق الدردنيل ثم عقد هناك مجلساً مع أشهر قوّاده وهم حاجي إيل وآجه وغازي فاضل وأرنوس وكان حاكماً قبل لمدينة بروسه ثم اعتنق الإسلام فاتفقوا على عمل صالات (أكلاك) للعبور بها وبعد انشائها ركبوا عليها ليلاً من بلدة أيد نجق أبيدوس وعبروا بها الدردنيل إلى ساحل الرومللي وعقب عبورهم بقليل استولى الأمير سليمان باشا على قلعة جنك Tzympe سنة 758هـ 1357 م .

وهذا العبور هو مبدأ التاريخ البحري للدولة العثمانية وبعد أن عبر سليمان وجنوده بالكيفية المذكورة أخذ في إخضاع البلاد التي تقرب من كليبولي وفي تلك الأثناء ظهرت اضطرابات ومنازعات ومناقشات بين أعضاء العائلة الإمبراطورية بالقسطنطينية لأنه بعد وفاة اندرو نيقوس الثالث إمبراطور الروم 741هـ كان الوارث لسرير السلطنة يوانيس أو يوحنا اليولوغوس ولكونه كان حديث السن قام ناظر سراي الإمبراطور المدعو قانتا قوزينوس وأمثاله يطلبون لأنفسهم الاستبداد بالملك حتى أن قانتاقوز ينوس المذكور طلب من السلطان الغازي أورخان المساعدة وزوّجه بابنته تيودورا وعلى ذلك أرسل السلطان الجيوش عدّة مرات لمساعدة المستجير به وإسعافه ليتمكن من قهر أخصامه.

ولما شرع الأمير سليمان باشا في إجراء ما عهد إليه به السلطان قام الروم واتفقوا مع أهالي المجر والصرب والبلغار والأفلاق والبغدان بقصد قتال سليمان باشا لفتوحاته بأوروبة ومداخلته في أحوال الدولة الرومية فاستعد سليمان باشا لملاقاة قوّتهم المتحدّة ثم انقض عليهم من جبال البلقان وأوقع بجمعهم ثم تجوّل في جهات بلاد البلغار مسكناً اضطراباتها وفي خلال ذلك حصلت منافسات كبيرة بين ملوك المجر والصرب والبلغار والأفلاق والبغدان أدّت إلى منازعات التزم فيها امبراطور القسطنطينية أن يطلب من آل عثمان الإعانة ثانية فأمدّوه وتقدّم الأمير سليمان باشا حتى عسكر تحت أسوار القسطنطينية وسكن ذلك الاضطراب ثم حصلت زلازل جسيمة 759هـ دمرت جملة بلاد وقلاع من تلك الجهات.

وفي سنة 760 هـ 1358 م نهض الأمير الغازي سليمان باشا بجيش يبلغ عدده 700من شجعان العثمانيين إلى قلعة كليبولي المعتبرة مفتاحاً للبحر المتوسط الأبيض فحاصرها مدّة أيام حتى تمكن من فتحها ثم استولى بعدها على بولاير وخيره بولي وتكفور طاغ بكل سهولة وبهذا الفتح أظهر الأمير المذكور لجميع الدول الأخرى ما للدولة العثمانية الحديثة العهد من السطوة والاقتدار وبينما كان الروم يطلبون من العثمانيين أن يعيدوا لهم هذه الأماكن في مقابلة مال يدفعونه لهم كانت عساكرهم مهتمة بالفتوحات المتواصلة بأراضي الرومللي لاشتغال الروم بالمنازعات الداخلية إذ ذاك ففتحت إبصاله ومعلقرة وما جاورهما بكل سهولة وبينما كان الأمير سليمان في القنص يوماً 761هـ جمح به جواده وصدمه بقوّة في بعض الأشجار فكان في ذلك حتفه ومات وهو في ريعان الشباب مأسوفاً عليه من جنوده الذين كانوا يحبونه جدّا لما اتصف به من حميد الخصال ودفن بالجامع الذي شيده بمدينة بولاير.

ولما بلغ هذا الخبر المؤلم والده السلطان أورخان الغازي حزن عليه حزناً مفرطاً ولم يمكث بعده إلا زمناً يسيراً وتوفي من كدره في السنة المذكورة ودفن بمدينة بروسه وخلف ولدين الأمير مراد والأمير سليمان.

وكان هذا السلطان كوالده محباً للعلماء والفضلاء شديد الاعتناء والميل إلى أصحاب الاستحقاق من الأمراء عظيم الشغف في عمارية واصلاح الممالك التي استولى عليها ولما كانت خزائن الدولة ملأى بالأموال التي اكتسبتها من الغنائم اهتم في تشييد المدارس والمساجد والقناطر والآبار وغير ذلك من أنواع المبرات وقد قوي رحمه الله بنيان الدولة التي شرع في تأسيسها السلطان عثمان وتمكن من تحويل أمتها التي كانت قبل ذلك تسكن الخيام وادخالها ضمن الممالك العظيمة.

Free Web Hosting