الفتوحات :

- الجبهة الفارسية :

فتوح الشام :

لم تكن الدعوة لتقف في أرض معينة، فالأرض كلها ساحتها وميدانها، وإذا توقفت قليلاً بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم فذلك بسبب الردة، فلما انتهت الردة كان لابد من أن تعاود نشاطها، وتسير بشكل طبيعي، ويقاتل كل من يقف في وجهها وذلك هو الجهاد.

__________________

(1) الأشعث بن قيس الكندي : أمير كندة في الجاهلية والإِسلام، وفد على رسول الله وأسلم، ولما ولي أبو بكر الخلافة امتنع الأشعث وبعض كندة من تأدية الزكاة، ولكنه هزم وسيق موثوقاً إلى أبي بكر في المدينة، فأطلقه أبو بكر وزوجه أخته أم فروة، وحسن إسلامه، وحضر اليرموك وفقد عينه، وحضر فتح العراق مع سعد، وكان مع علي في صفين والنهروان، وتوفي عام 41 هـ.

(2) المنذر بن ساوى بن الأخنس العبدي : أمير في الجاهلية والإِسلام، كان صاحب البحرين، أرسل له رسول الله رسالة مع العلاء بن الحضرمي يدعوه فيها إلى الإِسلام فأسلم، واستمر في عمله، وتوفي قبل ردة أهل البحرين أي قبل وفاة رسول الله بشهر واحد.

وانتهت حروب الردة، وكان لا بدّ من الجهاد، فالفرس يقفون في وجه الدعوة، ويحاولون دعم أعدائها، ومدّ المرتدين عليها، والروم يحاربون الدعوة، وينصرون خصومها، ويحرضون القبائل المتنصرة ضدها، وكان لا بدّ من قتال الطرفين، والاستعانة بالله عليهما وبالإيمان القوي بأن النصر من الله يؤتيه من يشاء ممن استقام على منهجه، وإذن كان على المسلمين أن يقاتلوا على جبهتين لم تكونا متفقتين وهذا ما ساعدهم على القتال وحرية الحركة دون الخوف من الطرف الآخر.

أ- الجبهة الفارسية :

كان الفرس يسيطرون على مناطق واسعة تبدأ من بادية الشام في الغرب، وشمال جزيرة العرب من الجنوب، وتتوسع منطقتهم في الغرب وتتناقص حسب انتصارهم على الروم، أو هزيمتهم أمامهم، فتارة يتوسعون وقد وصلوا إلى سواحل البوسفور ثم ارتدوا حتى حدود الفرات، وكان عدد من القبائل العربية تقيم في المناطق التي يسيطر عليها الفرس سواء في منطقة السواد أم على ضفاف الفرات والجزيرة، ومن هذه القبائل تغلب وبكر وشيبان وربيعة وطيء، وبعضها كانت مُتنصرّة في أغلبها كتغلب، وكانت طيء تعلو ويقيم رئيسها في بلدة الحيرة على مقربة من الفرات، ويعمل للفرس على توطيد سلطانهم في تلك الأنحاء، وكان من بني شيبان فارس مقدام قد دخل في الإِسلام هو المثنى بن حارثة الشيباني (1) ، وقد طلب من أبي بكر بعد أن انتهى من حروب المرتدين في البحرين أن يؤمره على قومه وعلى من دان بالإِسلام في تلك الجهات ليجاهد الفرس، ويقاتل أعداء الله، فأمره أبو بكر فصار يناوش الفرس، وينتصر عليهم وقعة بعد وقعة إلا أنه في عدد قليل من المجاهدين، والفرس كثير، ومعهم عدد كبير من العرب المُتنصّرة، والقوة ستتناقص مع الأيام أمام الكثرة فكان لا بدّ من إرسال المدد للمثنى.

وانتهى خالد من حرب اليمامة، فجاءه الامر من أبي بكر بالتوجه إلى العراق ليدعم المثنى بن حارثة الشيباني وليكن دخوله من الجنوب على حين يدخلها عياض بن غنم (2) من جهة الشمال، وليكن لقاؤهما في الحيرة ومن سبق إليها كانت له الامرة على صاحبه. وكان ذلك في مطلع العام الثاني عشر للهجرة. وأمد خالداً بالقعقاع بن عمرو التميمي (3) ، وأنجد عياض بن غنم بعبد ابن عوف الحميري.

___________________

(1) المثنى بن حارثة الشيباني : صحابي فاتح، من كبار القادة، أسلم عام 9 هـ، غزا بلاد فارس أيام أبي بكر، أمده أبو بكر بخالد بن الوليد، وأمده عمر بابي عبيد، وجرح في معركة الجسر، ثم أمده بسعد بن أبي وقاص، ولكنه توفي قبل وصول سعد إليه.

(2) عياض بن غنم بن زهير الفهري : قائد من شجعان الصحابة، شهد المشاهد مع رسول الله، وفتح الجزيرة الفراتية، وتوفي بالشام عام 20هـ.

(3) القعقاع بن عمرو التميمي : أحد فرسان العرب المشهورين وأبطالهم في الجاهلية والإِسلام، له صحبة، قال فيه أبو بكر : صوت القعقاع في الحرب خير من ألف فارس، شهد اليرموك وفتح دمشق، والقادسية وأكثر وقائع العراق، وسكن الكوفة، وشهد صفين بجانب سيدنا علي، وتوفي عام 40 هـ.

سار خالد بن الوليد مباشرة باتجاه الحيرة، والتقى في طريقه ببعض القريات (ألّيس) وما جاورها فصالح صاحبها (بَصْبَري بن صلوبا)، ثم اتجه نحو الحيرة، وكان عليها من قبل الفرس هانئ بن قبيصة الطائي (1) ، فقال له خالد : إن أدعوكم إلى الله وإلى عبادته، وإلى الإِسلام، فإن قبلتم فلكم ما لنا وعليكم ما علينا، وإن أبيتم فالجزية، وإن أبيتم فقد جئناكم بقوم يحبون الموت كما تحبون أنتم شرب الخمر. فقالوا : لا حاجة لنا في حربك، فصالحهم على تسعين ومئة ألف درهم. وكان المثنى بن حارثة الشيباني يقاتل تارة في جهات كسكر وأخرى في جهات الفرات الأسفل، يقاتل الهرمزان في تلك البقاع، فاستدعى خالد المثنى ونزلوا إلى جهات الأُبُلّة لتجميع قوات المسلمين، وكانوا في ثمانية عشر ألفاً، وقد سار المثنى قبل خالد بيومين، وسار عدي بن حاتم وعاصم بن عمر التميمي (2) بعد المثنى بيوم، وأعطاهم خالد موعداً في الحفير. وقد التقوا بهرمز في أرض الأُبُلّة، وكانت المعركة وأراد هرمز أن يغدر بخالد إلا أن القعقاع بن عمرو قتل هرمز، والتحم مع حماته الذين أرادوا أن يغدروا بخالد، وركب المسلمون أكتاف أعدائهم حتى غشاهم الليل، وكان الفرس قد ربطوا أنفسهم بالسلاسل لذلك سميت هذه المعركة ذات السلاسل ... وأرسل خالد بن الوليد المثنى بن حارثة في أثر القوم، وبعث معقل بن مُقرّن (3) إلى الأَبلّة ليجمع المال والسبي، وسار المثنى حتى بلغ نهر المرأة، فحاصرها في الحصن الذي كانت فيه وكان على مقدمته أخوه المعنّى، فصالحت المرأة المثنى، وتزوجها المعنّى، أما المثنى فقد استنزل الرجال من الحصون، وقتل مقاتلتهم، وأقر الفلاحين الذين لم ينهضوا للقتال مع الفرس.

كان أردشير قد أمر بجيش كبير بقيادة (قارن بن قريانس) فلما وصل إلى (المذار) (4) وصل إليه خبر هزيمة هرمز ومقتله، فتجمع هناك، فسار إليه خالد، ونشبت معركة قتل فيها معقل بن الاعشى القائد الفارسي (قارن)، وقتل عاصم بن عمرو خصمه (الانوشجان) وقتل عدي بن حاتم عَوه (قُباذ) وقتل يومذاك من الفرس عدد كبير وصل إلى ثلاثين ألف مقاتل. وبعدها وزع خالد الغنائم وقسّم الفيء.

وتجمع الفرس ثانية في (الولجة) مع ما جاءهم من مدد قوامه جيشان الأول بقيادة (الأندرزعر) والثاني بإمرة (بهمن جاذويه) فسار إليهم خالد، وقد خلّف سويد بن مقرن في الحفير، وقد هزمت الفرس هزيمة منكرة أيضاً في هذه الجولة.

وتأثر نصارى العرب من هذه الانتصارات فكاتبوا الفرس وتجمّعوا في ألّيس، فأسرع إليهم .

____________________

(1) هانئ بن قبيصة الطائي : وهو أخو إياس بن قبيصة الذي تولى أمر الحيرة بأمر كسرى بعد استدعاء النعمان بن المنذر إلى فارس، وجعل ودائعه عند هانئ بن مسعود الشيباني، وجرت معركة ذي قار بين جيوش كسرى بقيادة اياس وهانئ بن مسعود الشيباني الذي يقود بني بكر.

(2) عاصم بن عمرو التميمي : أخ القعقاع، شاعر، له صحبه، أبلى في القادسية البلاء الحسن توفي عام 16 هـ.

(3) معقل بن مقرن : أحد إخوة النعمان بن مقرن.

(4) المذار : على ضفة نهر دجلة اليسرى تقع شمال القربة ب 37 كلم، بين البصرة وواسط، وهي قصبة ميسان.

خالد وانتصر عليهم انتصاراً مبيناً وقتل منهم ما يقرب من سبعين ألفاً، ثم اتجه نحو الحيرة ثانية.

ولما انتهى خالد من الحيرة ولّى عليها القعقاع بن عمرو، وخرج يريد دعم عياض بن غنم الذي كلف بشمال العراق، فنزل خالد إلى الفلّوجة ومنها إلى كربلاء فولى عليها عاصم بن عمرو، وكان على مقدمته الأقرع بن حابس (1) ، أما المثنى فكان يناوش الفرس على شواطئ دجلة. وسار خالد إلى الأنبار ففتحها ثم استخلف عليها الزبرقان بن بدر، وقصد عين التمر، فهزم جموع أهلها الذين هم من العرب المُتنصّرة والعجم، ثم حصرها فنزلوا على حكمه، فقتل من قتل منهم وأسر وسبى. واستخلف على عين التمر عويم بن الكاهل، وسار باتجاه عياض بن غنم الذي علم أنه لا يزال في دومة الجندل (2) وقد كتب إليه يستنجده، فكتب إليه خالد "من خالد إلى عياض إياك أريد".

ولما علم أهل دومة الجندل مسير خالد إليهم استنجدوا بالقبائل المُتنصّرة من العرب من كلب وغسان وتنوخ والضجاعم فأمدوهم. ولما اقترب خالد من دومة الجندل اختلف رئيساها وهما : أكيدر بن عبد الملك، والجودي بن ربيعة، فاعتزل الأكيدر، وهَزم الجودي ومن معه ومن جاءه من الدعم الذين لم يتسع لهم الحصن. وأقام خالد بدومة الجندل، وأرسل الأقرع بن حابس إلى الأنبار، وبعد مدة لحق خالد بالحيرة.

وخرج خالد من الحيرة وولّى عليها عياض بن غنم، وكان على مقدمة خالد الأقرع بن حابس... ثم بعث وهو بالعين أبا ليلى بن فركي إلى الخنافس والقعقاع إلى حُصيد. فانتصر القعقاع في حصيد، وفر من بالخنافس إلى المصَيّخ إذا لم يجد أبو ليلى، بالخنافس كيدا. وسار خالد وأبو ليلى والقعقاع إلى المصيخ وكان قد اجتمع فيه من هرب من الخنافس والحصيد، وهناك انتصر المسلمون انتصاراً مبيناً. ثم ساروا إلى (الثني) (4) و (الزُّمَيْل) (5) فانتصروا على أعدائهم، ثم ساروا إلى (الرضاب) (6) ، وبها هلال بن عَقَة، وقد انفض عنه أصحابه عندما سمعوا بدنو خالد وجيشه، ثم ساروا إلى (الفراض) (7) وهي على تخوم الشام والعراق والجزيرة وذلك في شهر رمضان، وتعاون الفرس والروم ضد المسلمين، والتقت الجموع على نهر الفرات فقتل من الفرس والروم والعرب المُتنصّرة أكثر من مئة ألف...

أقام خالد بن الوليد عشرة أيام بالفرائض، ثم اذن بالرجوع إلى الحيرة لخمس بقين من ذي .

____________________

(1) الأقرع بن حابس بن عقال المجاشعي الدارمي التميمي : صحابي، من سادات العرب في الجاهلية، وفد على رسول الله مع وفد قومه وأسلم وشهد فتح مكة وحنين والطائف، وكان من المؤلفة قلوبهم، استشهد بخراسان بالجوزجان عام 31 هـ أيام سيدنا عثمان.

(2) دومة الجندل : وهي في شمال جزيرة العرب، ومكانها اليوم مدينة الجوف.

(3) أكيدر بن عبد الملك الكندي : ملك دومة الجندل في الجاهلية، بعث رسول الله خالد بن الوليد إليه، فاسره وقدم إلى المدينة فأسلم وأعيد إلى بلاده، فلما توفي رسول الله نقض العهد، ومات عام 12 هـ.

(4) الثني : مكان بالجزيرة الفراتية يقع إلى الشرق من الرصافة، تجمعت فيه بنو تغلب.

(5) الزميل : موقع إلى الشرق من الرصافة.

(6) الرضاب : موقع إلى الشرق من الرصافة، أو مكانها قبل أن يعمرها هشام بن عبد الملك.

(7) الفراض : موضع بين إلى الشرق من البو كمال على بعد 40 كيلاً منها، قريبة من الحدود بين العراق وسوريا اليوم.

القعدة، وأمر عاصم بن عمرو أن يسير بالناس، وأظهر خالد أنه في الساقة، وسار مع عدة من أصحابه إلى مكة يؤدي الحج، ورجع من الحج، فوصل إلى الحيرة ولم تدخل الساقة البلدة بعد، ولم يدر الخليفة أبو بكر رضي الله عنه بما فعل خالد إلا بعد مدة، فعتب عليه، وصرفه عن العراق إلى الشام.

وصل كتاب أبي بكر إلى خالد وهو بالحيرة وفيه : أن سر حتى تأتي جموع المسلمين باليرموك، فإنهم قد شجوا وأشجوا، وإياك أن تعود لمثل ما فعلت، فإنه لم يشْجِ الجموعَ من الناس بعون الله شجاك، ولم ينزع الشجى من الناس نزعك، فليهنئك أبا سليمان النية والخطوة، فأتمم يتمم الله لك، ولا يدخلنك عجب فتخسر وتخذل، وإياك أن تدل بعمل، فإن الله له المن، وهو ولي الجزاء.

وجاء فيما كتب أبو بكر لخالد : أما بعد فدع العراق وخلّف فيه أهله الذين قدمت عليهم، وهم فيه، وامض مختفياً في أهل القوة من أصحابك الذين قدموا معك العراق من اليمامة وصحبوك في الطريق، وقدموا عليك من الحجاز، حتى تأتي الشام فتلقى أبا عبيدة ومن معه من المسلمين، فإذا التقيتم فأنت أمير الجماعة والسلام.

سار خالد من الحيرة في العراق، وقد استخلف المثنى به حارثة الشيباني على جند العراق، وسار هو إلى الشام، وكتب إلى أبي عبيدة (1) : أما بعد فإني أسأل الله لنا ولك الأمن يوم الخوف والعصمة في دار الدنيا من كل سوء، وقد أتاني كتاب خليفة رسول الله يأمرني بالمسير إلى الشام وبالقيام على جندها والتولي لأمرها، والله ما طلبت ذلك قط ولا أردته إذ وليته فأنت على حالك التي كنت عليها لا نعصيك ولا نخالفك ولا نقطع دونك أمراً، فأنت سيد المسلمين، لا ننكر فضلك، ولا نستغني عن رأيك تمم الله بنا وبك من إحسان ورحمنا وإياك من صلي النار والسلام عليك ورحمة الله.

سار خالد من الحيرة إلى دومة الجندل، وخرج منها من جهة وادي السرحان إلى الشمال.

ب- فتوح الشام :

بعد أن رجع خالد بن سعيد بن العاص من اليمن أمره أبو بكر أن ينزل بتيماء وأمره ألا يبرحها، وأن يدعوا من حوله بالانضمام إليه، وألا يقبل إلا من لم يرتد، ولا يقاتل إلا من قاتله، حتى يأتيه أمره. فأقام فاجتمعت إليه جموع كثيرة، وبلغ الروم عظم ذلك العسكر، فاستنفروا العرب الذين بالشام على المسلمين، فاستنفرت كلب وتنوخ ولخم وجذام وغسان، فكتب خالد بن سعيد .

__________________

(1) أبو عبيدة الجراح : عامر بن عبدالله بن الجراح بن هلال الفهري القرشي فاتح الديار الشامية وأحد العشرة المبشرين بالجنة، أمين الأمة وهو من السابقين إلى الإِسلام شهد المشاهد كلها مع رسول الله وتوفي بطاعون عمواس سنة 18 هـ .

إلى أبي بكر بذلك، فكتب إليه أبو بكر : أن أقدم ولا تحجم واستنصر الله، فسار إليهم خالد بن سعيد، فلما دنا منهم تفرقوا، فاتخذ موقعه مكانهم، وكتب إلى أبي بكر بذلك، فكتب إليه أبو بكر : أقدم ولا تقتحمن حتى لا تؤتى من خلفك. وحدث قتال، وطلب خالد ابن سعيد من أبي بكر المدد، فأمده بالوليد بن عتبة وعكرمة بن أبي جهل، وانتصر على (ما هان) قرب القدس، وانتقل ماهان إلى دمشق فلحق به خالد بن سعيد، فلما كان بمرح الصفر جاءت جموع كبيرة من الروم لتنظم إلى قيادة (ماهان) الأمر الذي جعل خالد بن سعيد يتراجع إلى ذي المروة على حين وقف عكرمة ابن أبي جهل يحمي المتراجعين، ووصل المجاهدون من اليمن، وكانت قد دخلت السنة الثالثة عشرة، فطلب أبو بكر استبدال عمال الصدقات. ومنهم عمرو بن العاص الذي كان قد سيره في السنة الحادية عشرة إلى قضاعة، ثم استدعاه فولاه ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد ولاه على صدقات عُمان ثانية، وكتب إليه أبو بكر رضي الله عنه : إني كنت قد رددتك على العمل الذي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ولاكه مرة، وسماه لك أخرى، ومبعثك إلى عُمان إنجازاً لمواعيد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد وليته ثم وليته، وقد أحببت - أبا عبدالله - أن أفرغك لما هو خير لك في حياتك ومعادك منه، إلا أن يكون الذي أنت فيه أحب إليك. فكتب إليه عمرو : إني سهم من سهام الإِسلام، وأنت بعد الله الرامي بها، والجامع لها، فانظر أشدها وأخشاها وأفضلها فارم به شيئاً إن جاءك من ناحية من النواحي.

وصل خالد بن سعيد بن العاص إلى ذي المروة هرباً من جند (ماهان)، ووصل الخبر إلى أبي بكر فكتب إليه : أقم مكانك، فلعمري إنك مقدام محجام، نجّاء من الغمرات، لا تخوضها إلا إلى حق، ولا تصبر عليه. ولما كان بعد، وأذن له في دخول المدينة - كما سنرى - .

عبأ أبو بكر الصديق الجيوش إلى الشام في مطلع السنة الثالثة عشرة فسار :

1- يزيد بن أبي سفيان (1) في سبعة آلاف بعد عزل خالد بن سعيد، وكانت وجهته دمشق، وكان أول الأمراء الذين ساروا إلى الشام، وكان في جنده سهيل بن عمرو. ثم أمد أبو بكر يزيد بن أبي سفيان بأخيه معاوية بجند كثير، ولما مرّ معاوية بذي المروة أخذ من بقي من جند خالد بن سعيد، وسمح بعدها الصدِّيق لخالد بالعودة إلى المدينة.

2- عمرو بن العاص وكانت وجهته فلسطين.

3- شرحبيل بن حسنة وسار إلى الأردن، وقد استعمل على جند الوليد بن عقبة (2) ، وأخذ عندما مر بذي المروة جمهور جند خالد بن سعيد.

________________

(1) يزيد بن أبي سفيان، أبو خالد، أسلم يوم فتح مكة، وبقي على صدقات بني فراس، وكان أحد قادة فتح الشام، ولاه عمر فلسطين، ثم دمشق، توفي في طاعون عمواس عام 18 هـ .

(2) الوليد بن عقبة بن أبي معيط، أبو وهب : من فتيان قريش وشعرائهم، أخو عثمان بن عفان لأمه، أسلم يوم فتح مكة، وبعثه رسول الله على صدقات بني المصطلق، ولاه عمر صدقات بني تغلب، ولاه عثمان الكوفة ثم عزله، توفي عام 61 هـ.

4- أبو عبيدة بن الجراح، وكانت وجهته حمص.

وبقي عكرمة في ستة آلاف من الجند ردءاً لجيوش المسلمين.

وعلم الروم بما عبأه المسلمون، فانتقل هرقل إلى حمص، وجمع جموعاً غفيرة من جنده، وأرسل أخاه (تذارق) ليواجه عمرو بن العاص، وبعث (جرجة ابن توذرا) نحو يزيد بن أبي سفيان، ووجه (الدُّراقص) نحو شرحبيل بن حسنة، وأعطى أوامره لـ (الفيقار بن نسطوس) أن يسير نحو أبي عبيدة بن الجراح، وصل عدد الروم يومذاك إلى 240 ألف مقاتل على حين كان المسلمون واحداً وعشرين ألفاً و6 آلاف مع عكرمة بن أبي جهل في المؤخرة دعماً لجموع المسلمين.

هاب المسلمون الروم لما رأوا كثرتهم فكتب قادتهم إلى عمرو بن العاص يستشيرونه، فاقترح أن يجتمع المسلمون في مكان يلتقون فيه مع الروم، ولن يهزموا من قلة حينذاك، كما كتبوا إلى الخليفة أبي بكر وطلبوا منه المدد، فكان رأيه الاجتماع كما رأى عمرو، وأضاف أن يكون مكان المعركة في موقع يسهل الاتصال فيه مع المدينة قاعدة الحكم، ووافق على اللقاء باليرموك، وكتب إلى خالد بالعراق أن يقدم إلى اليرموك لدعم المسلمين هناك وأن يكون هو الأمير.

سار خالد بن الوليد من الحيرة إلى قراقر حيث شيعه إليها المثنى بن حارثة، ومنها إلى سوى، ثم تحرك إلى دومة الجندل، وأغار خالد على مصيخ بهراء ثم تحرك نحو الشمال مع وادي السرحان إلى شرقي جبل حوران (الدروز) حتى وصل إلى (أرك) (1) ومنها إلى تدمر فالقريتين (2) . ولما علمت غسان بذلك، اجتمعوا له بمرج راهط (3) ، فسار إليهم، وعليهم الحارث بن الأيهم، فانتصر عليهم، ثم سار إلى بصرى الشام (4) ، وكانت أول مدينة افتتحها من بلاد الشام، ثم ذهب إلى اليرموك فوصل إلى المسلمين في تسعة آلاف وغدا جند المسلمين ستة وثلاثين ألفاً. وفرح المسلمون بوصول خالد لأن الروم كانوا قد وصلتهم إمدادات بإمرة ماهان ومعه القساوسة والمطارنة والرهبان من أجل تشجيع المقاتلين. وربما يتساءل المرء لماذا هذه الطريق الطويلة التي قطعها خالد بن الوليد ؟ إنه أراد ألا يصطدم مع الروم قبل الالتقاء بالمسلمين وبخاصة أنه أصبح أمير المقاتلين في الشام فلا بد من الوصول إلى جنده ليقودهم في القتال، وإن خطة المسلمين كانت تقضي أن يكون القتال مجتمعين لا متفرقين ليتمكنوا من قتال الروم الذين يملكون أعداداً كبيرة تفوقهم بعشرة أمثال، وللروم ثغور وسط البادية حيث كانت من قبل مسرحاً للمعارك الدائرة بينهم وبين الفرس، فلو سار من الحيرة مباشرة نحو

____________________

(1) أرك : مدينة صغيرة قرب تدمر، وهي ذات نخل وزيتون، وكل أهلها كانوا من النصارى.

(2) القريتين : قرية كبيرة من أعمال حمص، وهي التي تدعى حوارين.

(3) مرج راهط : يقع إلى الشمال من دمشق، والمسافر من دمشق إلى حمص ما كان على يساره فهو مرج راهط، ومن كان على يمناه فهو مرج عذراء حتى الثنايا (ثنية العقاب).

(4) بصرى الشام : مدينة بحوران، من قواعد الغساسنة، وكانت مدينة رومانية، وفيها سوق دائمة للعرب. ولا تزال فيها آثار رومانية، منها المدرج الروماني الشهير.

الغرب لاصطدم بتلك الثغور، ولأضاع على المسلمين تجمعهم في اليرموك وقيادته لهم، ولهذا اضطر أن يسير نحو الجنوب ليتجاوز تلك الثغور عن طرق دومة الجندل ثم اتجه شمالاً، وعندما وصل إلى الشرق من بصرى الشام وجد نفسه أما جبل حوران (الدروز اليوم) البركاني الصعب الاجتياز، فأراد الالتفاف حوله فوجد نفسه بسرعته المعروفة في منطقة تدمر، لذا عاد فرجع إلى الغرب عن طريق القريتين فثنية العقاب (الثنايا) فشرقي دمشق إلى بصرى ففتحها ومنها سار إلى اليرموك. هذا من جهة ومن جهة ثانية فإن لخالد بن الوليد طريقته الخاصة في القتال وهي التحرك بسرعة في عمق العدو والاغارة على مواقع خصمه المتأخرة، ثم الانسحاب للخوض في معركة حاسمة، وعندها يشعر العدو أن مجموعات من خصمه لا تزال تعمل خلف خطوطه الأمامية، وستداهمه في الوقت المناسب الأمر الذي يضعف معنوياته، ويبقى جزء من جنوده خارج المعركة لصد أي هجوم مرتقب من الخلف، وهذا ما رأيناه في قتاله في العراق إذا وصل إلى نقاط بعيدة من أرض العدو على حين لم تطهر أرض السواد بعد بل ولا منطقة الحيرة نفسها، ولم يأمن جانب المصالحين بشكل صحيح إذا سنراهم ينقضون العهد بعد ذلك. كما أن حركته كانت خلف ثغور الروم الأمر الذي يجعل الروم لا يستطيعون ترك مواقعهم خوفاً من أن يكون هناك اتفاق بين المسلمين والفرس وبخاصة أن خالداً كان في أرض فارس، كل هذا يجعل حركة خالد سهلة ويتنقل بحرية كأنه يقوم بمناورة معروفة الخطة.

وصل خالد بن الواليد إلى اليرموك، وصلى في اليوم الأول بجنده الذين قدموا معه من العراق، ورأى الروم مجتمعين فجمع المسلمين وخطب فيهم قائلاً بعد أن حمد الله وأثنى عليه : إن هذا يوم من أيام الله، لا ينبغي فيه الفخر ولا البغي. أخلصوا جهادكم، وأريدوا الله بعملكم ؛ فإن هذا يوم له ما بعده ؛ ولا تقاتلوا قوماً على نظام وتعبية، على تساند وانتشار، فإن ذلك لا يحل ولا ينبغي. وإن من وراءكم لو يعلم علمكم حال بينكم وبين هذا، فاعملوا فيما لم تؤمروا به بالذي ترون أنه الرأي من واليكم ومحبته، قالوا : فهات، فما الرأي ؟ قال : إن أبا بكر لم يبعثنا إلا وهو يرى أنا سنتياسر، ولو علم بالذي كان ويكون، لما جمعكم، إن الذي أنتم فيه أشد على المسلمين مما قد غشيهم، وأنفع للمشركين من أمدادهم، ولقد علمت أن الدنيا فرقت بينكم، فالله الله، فقد أفرد كل رجل منكم ببلد من البلدان لا ينتقصه منه إن دان لأحد من أمراء الجند، ولا يزيده عليه إن دانوا له. إن تأمير بعضكم لا ينقصكم عند الله ولا عند خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم. هلموا فإن هؤلاء تهيئوا، وهذا يوم له ما بعده، إن رددناهم إلى خندقهم اليوم لم نزل نردهم، وإن هزمونا لم نفلح بعدها. فهلموا فلنتعاور الإمارة، فليكن عليها بعضنا اليوم، والآخر غداً، والآخر بعد غد حتى يتأمر كلكم، ودعوني إليكم اليوم.

قسم خالد المسلمين إلى كراديس يتراوح عددها بين 36 ـ 40 كردوساً ويضم الكردوس الواحد ما يقرب من ألف مقاتل. وكان أبو عبيدة في القلب، وعمرو بن العاص وشر حبيل بن حسنة في الميمنة، ويزيد بن أبي سفيان في الميسرة، ومن أمراء الكراديس يومذاك القعقاع بن عمرو، ومذعور بن عدي، وعياض بن غنم، وهاشم بن عتبة بن أبي وقاص (1) ، وسهيل بن عمرو (2) ، وعكرمة بن أبي جهل، وعبدالرحمن بن خالد بن الوليد، وحبيب بن مسلمة (3) ، وصفوان بن أمية (4) ، وسعيد بن خالد بن العاص، وخالد بن سعيد بن العاص (5) ، وعبدالله بن قيس (6) ، ومعاوية بن حديج (7) ، والزبير بن العوام (8) ، وضرار بن الأزور.

وكان قاضي الجيش أبو الدرداء (9) ، والقاص أبو سفيان بن حرب (10) ، وعلى الغنائم عبدالله بن مسعود، وعلى الطلائع قباث بن أشيم، وكان المقرئ المقداد بن عمرو (11) ، وقد كان عدد الصحابة في اليرموك أكثر من ألف صحابي بينهم مائة من أهل بدر. وكان أبو سفيان يسير فيقف على الكراديس، فيقول : الله الله! إنكم ذادة العرب، وأنصار الإسلام، وإنهم ذادة الروم وأنصار الشرك ! اللهم إن هذا يوم من أيامك! اللهم أنزل نصرك على عبادك!

ونشب القتال، والتحم الناس، وتطارد الفرسان، ولم يلبث الأمر قليلاً حتى جاء البريد

____________________

(1) هاشم بن عتبة بن أبي وقاص : صحابي، خطيب من الفرسان، ابن أخي سعد بن أبي وقاص، أقام بالشام بعد فتحها، فقد عينه باليرموك، وذهب مدداً لعمه سعد في القادسية، شهد صفين مع علي وكان قائد الراجلة فيها، وقتل في آخر أيامها.

(2) سهيل بن عمرو العامري القرشي : من الذين وقفوا في وجه الإِسلام، أسلم يوم فتح مكة، حسن إسلامه، خرج مجاهداً إلى الشام وهو خطيب قريش، توفي بالطاعون بالشام عام 18م.

(3) حبيب بن مسلمة بن مالك الفهري : قائد فاتح، خرج مجاهداً أيام أبي بكر، وشهد اليرموك وفتح دمشق، ولاه أبو عبيدة انطاكية، توغل في أرمينية، تولى أمر الجزيرة وأرمينيا واذربيجان توفي عام 61 هـ.

(4) صفوان بن أمية بن وهب الجمحي القرشي، أبو وهب : من السادات في الجاهلية والإِسلام، وقف ضد الدعوة، أسلم بعد الفتح، شهد اليرموك، توفي عام 41 هـ، بمكة المكرمة.

(5) خالد بن سعيد بن العاص بن أمية بن عبد شمس : صحابي، من الولاة الغزاة، من أوائل الذين أسلموا، ونال العذاب من أبيه (أبو أحيحة)، هاجر إلى الحبشة، غزا مع النبي، حضر فتح مكة، وغزوة تبوك، كتب لرسول الله وبعثه مع ملأ على اليمن، استدعاه أبو بكر، وخرج مجاهداً استشهد في مرج الصفر عام 14 هـ.

(6) عبدالله بن قيس الحارثي، حليف فزارة : أمير البحر في صدر الإِسلام، استشهد عام 53 هـ، وهو يطوف متخفياً في أحد الموانئ.

(7) معاوية بن حديج بن جفنة بن قنبر، أبو نعيم الكندي : الأمير الصحابي، شهد صفين مع معاوية، وتولى له مصر بعد أن أخذها له، وولي غزو المغرب عدة مرات، توفي عام 52 هـ.

(8) الزبير بن العوام الأسدي القرشي، ابن عمة رسول الله، أبو عبدالله : الصحابي الشجاع، أول من سل سيفه في الإِسلام، من أوائل الذين أسلموا، شهد المشاهد كلها مع رسول الله وحضر اليرموك، وهو أحد رجال الشورى، قتل غيلة عام 36 هـ. بعد معركة الجمل.

(9) أبو الدرداء : عويمر بن مالك بن قيس بن أمية الأنصاري الخزرجي : صحابي، من الحكماء الفرسان القضاة، اشتهر بالشجاعة والعبادة، وفي الحديث "عويمر حكيم أمتي" و"نعم الفارس عويمر" ولاه معاوية قضاء دمشق بأمر عمر بن الخطاب، توفي عام 32 هـ.

(10) أبو سفيان بن حرب : صخر بن حرب الأموي القرشي ، وقف في وجه الإِسلام، وقاد قريش في ذلك، أسلم يوم الفتح وهو وأولاده من الشجعان، قاتل تحت راية ابنه يزيد، فقد عينه الأولى في حنين والثانية في اليرموك، توفي عام 31 هـ .

(11) المقداد بن عمرو ويعرف بابن الأسود، ابو عمرو : صحابي، من الأبطال، من أوائل الذي أظهروا الإِسلام، كان من سكان حضرموت فر منها إلى مكة، توفي عام 33 هـ.

يحمل موت أبي بكر، وتولية عمر، وعزل خالد وتأمير أبي عبيدة رضي الله عنهم. وكان الرسول محمية بن زنيم، ولكن خالداً عندما سئل عن البريد، قال: السلامة وقرب وصول الأمداد.

Free Web Hosting