جمع أمراء الأمصار في موسم الحج :

جمع الخليفة عثمان بن عفان أمراء الأمصار في موسم الحج عام 34 هـ وهم : معاوية بن أبي سفيان، وعمرو بن العاص، وعبدالله بن سعد بن أبي سرح، وسعيد بن العاص، وعبدالله بن عامر، واستشارهم في أمر هؤلاء المنحرفين، وما يتكلمون به، فأشير عليه بأن ينقل هؤلاء المنحرفين إلى الثغور فينشغلوا بأنفسهم كما اقترح عليه إعطائهم الأعطيات حتى يرضخوا للأمر ويُطيعوا. ولكنه لم ير هذا الرأي ولا ذاك. ولما كثر الكلام عن سعيد ابن العاص أمير الكوفة، والمطالبة بأبي موسى الأشعري بدلاً عنه، استجاب الخليفة للطلب فعزل سعيداً وولىّ أبا موسى مكانه، وكتب لأهل الكوفة "أما بعد، فقد أمرت عليكم من اخترتم، وأعفيكم من سعيد، والله لأفرشنكم عرضي، ولأبذلن لكم صبري، ولأستصلحنكم بجهدي، فلا تدعوا شيئاً أحببتموه لا يُعصى الله فيه إلا سألتموه، ولا شيئاً لا يُعصى الله فيه إلا استعفيت منه، أنزل فيه عندما أحببتم حتى لا يكون لكم علي حجة". وفي الوقت نفسه سار حذيفة بن اليمان غازياً إلى باب الأبواب.

لم تفد المخربين أعمال الخليفة ولينه لهم بل استمروا في تصرفاتهم وكلامهم، فأرسل الخليفة بعض الصحابة إلى الأمصار يستطلعون آراء الناس، ويعرفون أخبار المسلمين وموقفهم، فقد بعث محمد بن مسلمة إلى الكوفة، وأسامة بن زيد إلى البصرة، وعبد الله بن عمر إلى الشام، وعمّار بن ياسر إلى مصر، ورجالا آخرين سواهم، فرجع الجميع ولم ينكروا شيئاً، إلا عمّار بن ياسر فقد تأخر واستمع إلى ما كان يشاع.

وجاء وفد من مصر في رجب عام 35 هـ إلى الحجاز يظهرون أنهم يريدون العمرة، وفي نيتهم مناظرة الخليفة ومناقشته في المدينة لبلبة الآراء وإشعال نار الفتنة، وتمت مقابلة الخليفة، وأبدى رأيه، واقنع الوفد خارج المدينة بنفسه أو بواسطة بعض الصحابة منهم علي بن أبي طالب ومحمد بن مسلمة، ودخل بعضهم المدينة، وحضر خطبة للخليفة أثنى فيها على الوفد، واستغفر الله، وبكى وأبكى الناس، وانصرف المصريون راجعين إلى بلادهم.

إلا أن أهل مصر عندما رجعوا بدؤوا يحرّضون الأمصار على التوجه إلى المدينة وإظهار الشكوى والتأفف من العمال والأوضاع العامة لأن المدينة أحرى بالفوضى أن تؤثر فيها، إذ أنها مقر الدولة ومركز الخليفة ومكان الصحابة ومدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم اتفقوا على أن يسيروا إلى المدينة في شهر شوال في ذلك العام، وأن يكون مسيرهم مع الحجاج لمغافلة الصحابة، وإمكانية نشر الفساد على نطاق أوسع. وانطلق أهل مصر وعددهم 600-1000 رجل، وفي الوقت نفسه انطلق أهل الكوفة وأهل البصرة، وقد خرجت كل جماعة على شكل فرق أربع، وعلى كل فرقة أمير، وعلى الجميع أمير، فالأمر يبدو على تخطيط وتنظيم واحد دقيق، وكان على أهل مصر الغافقي بن حرب العكي، ومعهم ابن السوداء، وهم يريدون البيعة لعلي بن أبي طالب، وعلى أهل الكوفة عمرو بن الأصم، ومعهم زيد بن صوحان العبدي، وعلى أهل البصرة حرقوص ابن زهير السعدي، ومعهم حكيم بن جبلة العبدي. وبمسيرهم مع الحجاج لم يعلم الأمراء عدد الناقمين، ولم يكونوا ليتصوروا أن هذه الشرذمة قادرة أو تفكر بقتل الخليفة أو تجرؤ على القيام بهذا العمل في دار الهجرة، لذا لم يبذلوا جهداً بإرسال قوة تحول دون خروجهم، أو تسير إلى المدينة لتمنع أمير المؤمنين، ووصل المنحرفون إلى مقربة من المدينة، فنزل المصريون بذي المروة، ونزل أهل الكوفة بالأعوص، واستقر أهل البصرة بذي الخشب.

وسمع أهل المدينة بما يحدث، وأبوا أن تقتحم عليهم المدينة، وتكلموا في الأمر، وحدّث الخليفة عليا في أن يركب ويركب معه المسلمون ليمنعوا المنحرفين من دخول المدينة عنوة ففعل وخرج معه طلحة والزبير ومحمد بن مسلمة وكبار الصحابة، ولما رأى المنحرفون استعداد الصحابة للدفاع عن دار الهجرة وقع الخوف في نفوسهم، فعندما كلمهم علي أظهروا الطاعة والخضوع، وأبدوا الرغبة في العودة إلى أمصارهم والهدوء فيها، وبالفعل فقد رجعوا أدراجهم، وظنَّ علي والمسلمون أن الخطر قد زال عن دار الهجرة فعادوا إليها، ولم يستقروا فيها حتى أروعهم التكبير داخل أزقتها، ومحاصرة دار سيدنا عثمان، وعندما سألهم سيدنا علي عن سبب رجوعهم قالوا : إن الخليفة قد أرسل كتاباً لقتلنا، وأظهر أهل مصر كتابا فيه قتل محمد بن أبي بكر، قال علي : فما بال أهل الكوفة قد عادوا ؟ فقالوا : تضامنا مع رفاقنا، وكذا أهل البصرة، لكن من الذي أخبر كل فريق بما حدث مع الآخر ؟ وهنا يبدو الاتفاق المسبق والتخطيط لدخول المدينة على حين غفلة من أهلها، وهنا يظهر تلفيق الكتاب الذي أظهره المصريون.

كان حصار دار عثمان يسيراً حيث كان يخرج الخليفة ويصلي بالناس، ويأتي الصحابة إليه، ويأتي إليهم. ثم بعث إلى العمال في الأمصار يأمرهم أن يرسلوا إليه الجند لينصروه، ويخرجوا من المدينة هؤلاء الطارئين، وعندما عرف المنحرفون هذا الخبر، وأن حبيب بن مسلمة قد سار من الشام، ومعاوية ابن حديج من مصر، والقعقاع بن عمرو من الكوفة، ومجاشع السلمي من البصرة، وكل على رأس قوة لنصرة الخليفة تغيّر حصار الدار واشتد عمل المنحرفين.

وخرج عثمان كعادته إلى الصلاة، يوم الجمعة، وخطب، وخاطب المخربين، فقام محمد بن مسلمة فشهد على قوله فاسكته حكيم بن جبلة وتكلم زيد بن ثابت فأسكته محمد بن أبي قتيرة، وثار الناس، وحصب بعضهم بعضاً، وأصيب عثمان، وأغمي عليه، ونقل إلى داره، وثار الصحابة وأبناؤهم ومنهم الحسن بن علي، وسعد بن أبي وقاص، وأبو هريرة، وزيد بن ثابت وغيرهم، وأرادوا قتال المنحرفين إلا أن الخليفة قد منعهم، وأراد ألا يحدث شيء بسببه، وزار بعد ذلك عثمان كلا من علي وطلحة والزبير، ثم عاد فدخل بيته، وشُدّد عليه الحصار فلم يعد يخرج أبداً حتى كان يوم استشهاده رضي الله عنه.

وأقام المنحرفون رجلا منهم يصلي بالناس وهو زعيم المصريين الغافقي بن حرب العكي، وإذا وجد علي أو طلحة صلى بالناس أحدهما. ومنع الماء عن الخليفة، فأرسل إلى علي وطلحة والزبير وعائشة وأمهات المؤمنين فأسعفه علي وأم حبيبة رملة بنت أبي سفيان. وزجر علي الثائرين فلم يرعووا، وكان بين الحين والآخر يطل الخليفة بنفسه على أولئك المنحرفين المحاصرين له فيعظهم، ولكن لا يأبهون لأحد حتى أن أم حبيبة لم تستطع الوصول إليه لإسعافه بالماء، إذ ضربوا وجه بغلتها وكادت تسقط عنها، وهذا ما ألزم الناس بيوتهم لا يخرج منهم أحد إلا ومعه سيفه، إذ اختل نظام الأمن في دار الهجرة، ودخل دار عثمان بعض أبناء الصحابة فيهم : عبدالله بن عباس وعبدالله بن عمر وعبدالله بن الزبير والحسن والحسين أبناء علي، ومحمد بن طلحة وغيرهم، وطلب منهم عثمان ألا يقاتلوا، وعزم عليهم في ذلك أشد العزيمة.

سارت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها إلى الحج، وطلب عثمان من ابن عباس أن يحج بالناس هذا العام، وكان على الباب مع أبناء الصحابة، فأراد أن يبقى مجاهداً إلا أن عثمان أصرّ عليه فخرج إلى الحج.

وصلت الأخبار إلى المدينة بأن الامداد قد دنت من المدينة، وأن من جاء منها من الشام قد وصل إلى وادي القرى فخاف المنحرفون، وأرادوا دخول الدار على عثمان فمنعهم من فيها : الحسن بن علي، وعبدالله بن الزبير، ومحمد بن طلحة، ومروان بن الحكم، وسعيد بن العاص وغيرهم، فتسوروا الدار من خوخة بينها وبين دار عمر بن حزم، ثم أحرقوا باب الدار، وسيدنا عثمان يقسم على أبناء الصحابة أن يلقوا سيوفهم حتى ألقاها بعضهم، وهجم المنحرفون على الخليفة فضربه الغافقي بن حرب العكي بحديدة، ثم ضرب قتيرة بن حمران زوج الخليفة نائلة التي رفعت يدها تدافع عن زوجها فقطع أصابعها ثم ضرب الخليفة أخوه سودان بن حمران السكوني، وكذلك كنانة بن بشر بن عتاب التجيبي فقتل رضي الله عنه، وقيل بل قتله عمرو بن الحمق، وقتل غلام لعثمان سودان بن حمران فقتل قتيرة الغلام، ثم قتل غلام آخر لعثمان قتيرة، ونُهبت الدار، كما نُهب بيت المال، وكان أمر الله قدراً مقدوراً. وكان قتل الخليفة الراشدي الثالث سيدنا عثمان بن عفان رضي الله عنه في 18 ذي الحجة من عام 35 من هجرة المصطفى صلى الله عليه وسلم، وبذا تكونه مدة خلافته اثنتي عشرة سنة إلا اثني عشر يوماً، وكان عمره إذ ذاك اثنتين وثمانين سنة.

وعاد الحجاج فوجدوا خليفتهم مقتولا رضي الله عنه، والأمن غير مستتب.

وسيدنا عثمان هو الذي اشترى بئر أرومة وجعلها للمسلمين، وجمع القرآن الكريم، وأول من وسع مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، استجابةً لرغبة رسول الله حين ضاق المسجد بأهله، وله من الفضائل الكثير رضي الله عنه.

مقتل الخليفة عثمان بن عفان رضي الله عنه

رواية أبي سعيد مولى أبي أسيد الساعدي التي نقلها الطبري في "تاريخه" 3/390-414

الجزء الأول: سيدنا عثمان يجتمع بالوفد القادم من مصر محتجاً عليه:

"سمع عثمان أن وفد أهل مصر قد أقبلوا عليه، فاستقبلهم وكان في قرية له خارجة عن المدينة، فلما سمعوا به أقبلوا نحوه إلى المكان الذي هو فيه، وكره أن يقدموا عليه المدينة، فآتوه فقالوا له: أدع بالمصحف: فدعا بالمصحف، فقالوا له: افتح السابعة، وكانوا يسمون سورة يونس السابعة، فقرأنها حتى أتى هذه الآية: {قل أرأيتم ما أنزل الله لكم من رزق فجعلتم منه حراماً وحلالاً قل الله أذن لكم أم على الله تفترون}[يونس: 59]. فقالوا له قف: أرأيت ما حميت من الحمى؟ آلله أذن لك به أم على الله تفتري؟ فقال: أمضه نزلت في كذا وكذا، فأما الحمى فإن عمر حمى الحمى قبلي لإبل الصدقة، فلما وُلِّيتُ زادت في إبل الصدقة فزدت في الحمى لما زاد في إبل الصدقة. أمضه. فجعلوا يأخذونه بالآية فيقول: أمضه نزلت في كذا وكذا. والذي يتولى كلام عثمان… ابن ثلاثين سنة. ثم أخذوه بأشياء لم يكن عنده منها مخرج فعرفها فقال: استغفر الله وأتوب إليه، وقال لهم: ما تريدون؟ فقالوا: نأخذ ميثاقك وكتبوا عليه شرطاً، وأخذ عليهم ألا يشقوا عصا، ولا يفارقوا جماعة ما قام لهم بشرطهم أو كما أخذوا عليه. وقال لهم: ما تريدون؟ قالوا: نريد ألا يأخذ أهل المدينة عطاء. قال لا! إنما هذا المال لمن قاتل عليه ولهؤلاء الشيوخ من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرضوا بذلك وأقبلوا معه إلى المدينة راضين. فقام فخطب فقال: إني والله ما رأيت وفداً في الأرض هم خير لحوباتي من هذا الوفد الذين قدوا علي. وقال مرة أخرى: خشية من هذا الوفد من أهل مصر، ألا من له زرع فليلحق بزرعه، ومن كان له ضرع فليحتلبه. ألا إنه لا مال لكم عندنا، إنما هذا المال لمن قاتل عليه ولهؤلاء الشيوخ من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فغضب الناس، فقالوا: هذا مكر بني أمية".

هذا ما يستخلص من الجزء الأول من رواية أبي سعيد:

1- تحكيم كتاب الله بين سيدنا عثمان الوفد القادم من مصر، وهذا يظهر من نص آخر عن محمد بن سيرين، حيث يقول: "فعرض عليهم كتاب الله فقبلوه" وَبقِيَّت الشروط تظهر في رواية محمد بن سيرين حيث يقول: "واشترطوا جميعاً أن المنفي يُقلب، والمحروم يعطى، ويوفر الفي ويعدل في القسم، ويستعمل ذو القوة والأمانة".

2- لم يستطيع سيدنا عثمان أن يبرر كل أعماله لوفد مصر.

3- القضية الهامة والأساسية هي توزيع مال الفتوح.

الجزء الثاني: عثور الوفد على كتاب مهور بخاتم سيدنا عثمان يأمر بقتل بعض أفراد الوفد:

"ثم رجع الوفد المصريون راضين، فبينا هم في الطريق إذا هم براكب يتعرض لهم، ثم يفارقهم، ثم يرجع إليهم، ثم يفارقهم ويسبقهم. قالوا له:ما لك؟ إن لك لأمراً، ما شأنك؟ فقال: أنا رسول أمير المؤمنين إلى عامله بمصر. ففتشوه، فإذا هم بكتاب على لسان عثمان، عليه خاتمه، إلى عامله بمصر: أن يصلبهم أو يقتلهم أو يقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف. فأقبلوا حتى قدموا المدينة، فأتوا علياً، فقالوا: ألم تر إلى عدو الله؟ إنه كتب فينا بكذا وكذا وأن الله قد أحل دمه، قم معنا إليه. قال علي: والله لا أقوم معكم، فقالوا: فَلِمَ كتبت إلينا؟ فقال: وما كتبت إليكم كتاباً قط. فنظر بعضهم إلى بعض ثم قال بعضهم لبعض: ألهذا تقاتلون، أو لهذا تغضبون؟ فانطلق علي فخرج من المدينة إلى قرية، فانطلقوا حتى دخلوا على عثمان، فقالوا: كتبت فينا بكذا وكذا، فقال: إنما هما اثنتان: أن تقيموا عليّ رجلين من المسلمين، أو يميني بالله الذي لا إله إلا هو: ما كتبت ولا أمللت ولا علمت. وقد تعلموا أن الكتاب يكتب على لسان الرجل، وقد ينقش الخاتم على الخاتم، فقالوا فقد والله أحل الله دمك، ونقضت العهد والميثاق. فحاصروه".

وهذا ما يُستخلص الجزء الثاني من رواية أبي سعيد، فهو غاية الأهمية حيث إنه كشف حقائق مطموسة.

1- الرسول المرسل من قِبل عثمان -كما زعموا- أمره عجيب حين إنه تعَّرض للوفد ثم فارقهم ثم رجع إليهم، وكأنه يريد أن يقول لهم شيئاً أو يريد أن يلفت نظرهم إليه ليسألوه عما به، فهو ليس برسول عادي أرسل بمهمة سرية -كما هو شأن المرسلين- ويريد أن يبلغ هدفه دون لفت أنظار الناس إليه، بل هو يقصد أن يثير الشبهة، وكأنه يقول لهم: أسألوني ما بي وما معي؟ وهذا ما حصل فعلاً أن أوقف وسئل عما معه.

2- الكتب التي تلقاها الوفد من سيدنا على بن أبي طالب تحثهم على المجيء للمدينة المنورة ومعاداة عثمان، فسيدنا علي ينكر بعثه لهذه الكتب ويقول: "والله ما كتبت إليكم كتاباً قط". فهذا الأمر يظهر أن هناك مزورين كتبوا هذه الكتب، ولا يستبعد أنهم هم الذين أرسلوا الكتاب المزعوم بقتل بعض وفد المصريين.

3- نفي سيدنا عثمان الكتاب المزعوم، مما يدل أن الخاتم الذي مهر به الكتاب خاتم مزور يشبه خاتم سيدنا عثمان.

يظهر لنا من هذه الحقائق الثلاث أن وراء هذه الأحداث مؤامرة تحاك، ويختبىء ورائها رجال مزورون يريدون وقوع الفتنة.

الجزء الثالث: مناقشة سيدنا عثمان للوفد، ومنعهم الماء عنه:

"وأشرف عثمان ذات يوم فقال: السلام عليكم، فما سمع أحداً من الناس رد عليه إلا أن يرد رجل في نفسه، فقال: أنشدكم بالله هل علمتم أني اشتريت بئر رومه من مالي يستعذب بها، فجعلت رشائي منها كرشاء رجل من المسلمين؟ قيل: نعم. قال: فَعَلامَ تمنعونني أن أشرب منها حتى أفطر على ماء البحر؟ وقال: أنشدكم الله هل علمتم أني اشتريت كذا وكذا من الأرض فزدته في المسجد؟ قيل: نعم. فقال: فهل علمتم أن أحداً من الناس منع أن يصلي فيه قبلي؟ وقال: أنشدكم الله هل سمعتم نبي الله صلى الله عليه وسلم يذكر كذا وكذا -أشياء في شأنه- وذكر الله إياه أيضاً في كتابه المفصّل، ففشا النهي فجعل الناس يقولون: مهلاً عن أمير المؤمنين. وفشا النهي وقام الأشتر يومئذ أو في يوم آخر فقال: لعله قد مُكر به وبكم. فوطئه الناس حتى لقي كذا كذا.

ثم يقول أبو سعيد مولى أبي أسيد الذي يقص هذه القصة: فرأيته أشرف عليهم مرة أخرى فوعظهم وذكّرهم، فلم تأخذ فيهم الموعظة، وكان الناس تأخذ فيهم الموعظة في أول ما يسمعونها فإذا أعيدت عليهم لم تأخذ فيهم".

هذا الجزء الثالث من رواية أبي سعيد:

وفيه إشارة إلى المؤامرة التي دبرت لسيدنا عثمان.

الجزء الرابع سيدنا عثمان يرى رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام وانتظاره الموت

"ثم إنه فتح الباب ووضع المصحف بين يديه، وذاك أنه رأى من الليل أن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: أفطر عندنا الليلة".

يُستخلص من الجزء الرابع من رواية أبي سعيد التالي:

رؤية سيدنا عثمان للنبي صلى الله عليه وسلم في المنام وقوله له: "أفطر عندنا الليلة" واعتقاد سيدنا عثمان بالمنام الذي رآه، وتسليمه له. وهذا يوضح أمر سيدنا عثمان الصحابة والمدافعين بالذهاب إلى بيوتهم.

الجزء الخامس: مقتل سيدنا عثمان وبيان من قتله:

ودخل على عثمان رجل، فقال: بيني وبينك كتاب الله، فخرج وتركه. ثم دخل عليه آخر فقال: بيني وبينك كتاب الله، والمصحف بين يديه، فأهوى إليه بالسيف، فاتقاه بيده فقطعها -لا أدري أبانها أم قطعها ولم يَبِنْها- فقال: أما ولله إنها لأول كف خطت المفصَّل وأخذَت ابنة الفرافصة حليلها فوضعته في حجرها، وذلك قبل أن يقتل فلما اُشعر أو قتل تجافت عنه، فقال بعضهم: قاتلها ما أعظم عجيزتها، فعلمت أن أعداء الله لم يريدوا إلا الدنيا".

رواية سهم الأزدي التي رواها ابن عساكر في تاريخ دمشق:

قال ثور بن يزيد الرحبي: " أخبرني سهم أنه كان مع عثمان بن عفان يوم حُصر في الدار، فزعم أن ركب الشقاء من أهل مصر أتوه قبل ذلك فأجازهم، وأرضاهم، فانصرفوا.

"حتى إذا كانوا ببعض الطريق انصرفوا وخرج عثمان بن عفان فصلى إمّا صلاة الغداة وإمّا صلاة الظهر، فحصبه أهل المسجد، وقذفوه بالحصا والنعال والخفاف.

"فانصرف إلى الدار ومعه طلحة بن عبيد الله، والزبير بن العوام، ومروان بن الحكم، وأبو هريرة، والمغيرة بن الأخنس، في أناس لا أحفظ من ذكر منهم إلا هؤلاء النفر، فأشرفوا على ظهر البيت، فإذا هم بركب أهل الشقاء قد دخلوا المدينة، وأقبل ناس حتى قعدوا على باب الدار، عليهم السلاح. فقال عثمان لغلام له يقال له وثاب: خذ مكتلاً من تمر.. فانطلق بها إلى هؤلاء القوم، فإن أكلوا من طعامنا فلا بأس بهم، وإن شفقت منهم فدعهم وارجع، فانطلق بالمكتل، فلما رأوه رشقوه بالنبل، فانصرف الغلام وفي منكبه سهم، فخرج عثمان ومن معه إليهم ، فأدبروا وأدركوا رجلاً يمشي القهقرى فقلت له: ما القهقرى؟ قال: ينكص على عقبيه كراهية أن يُولى، فأخذناه أخذاً فأتيناه به عثمان بن عفان فقال: يا أمير المؤمنين إنَّا والله ما نريد قتلك، ولكن نريد معاتبتك، فأعتب قومك وأرضهم، قال: يا أبا هريرة فلعلهم يردون ذلك؛ فخلوا، قال: فخلينا سبيله.

"وخرجت عائشة أم المؤمنين فقالت الله الله يا عثمان في دماء المؤمنين؛ فانصرف إلى الدار.

فلما أصبح صلى بنا الغداة، فقال: أشيروا عليّ، فلم يتكلم أحد من القوم غير عبد الله بن الزبير فقال: يا أمير المؤمنين أشير عليك بثلاث خصال فاركب أيهن أحببت: إما أن نهل بعمرة فتحرم عليهم دماؤنا. ويكون إلى ذلك قد أتانا مددنا من الشام -وقد كان عثمان كتب إلى أهل الشام عامة وإلى أهل دمشق خاصة: إني في قوم قد طال فيهم عمري واستعجلوا القدر، وقد خيروني بين أن يحملوني على شوارف إلى جبل الدخان، وبين أن أنزع لهم رداء الله الذي كساني، وبين أن أُقيدهم، ومن كان على سلطان يخطىء ويصيب، وأن يا غوثاه، ولا أمير عليك دوني- وإما أن نهرب على نجائب سراع لا يدركنا أحد حتى نلحق بمأمننا من الشام، وإما أن نخرج بأسيفنا ومن شايعنا، فنقاتل فإنا على الحق وهم على الباطل.

قال عثمان: أما قولك أن نهل بعمرة فتحرم عليهم دماؤنا؛ فوالله لم يكونوا يرونها اليوم عليهم حراماً لا يحرِّمونها إن أهللنا بعمرة. وأما قولك أن نخرج نهرب إلى الشام؛ فوالله إني لأستحي أن آتي الشام هارباً من قومي وأهل بلدي. وأما قولك نخرج بأسيافنا ومن تابعنا، فنقاتل فإنا على الحقوهم على الباطل؛ فوالله إني لأرجو أن ألقى الله ولم أهرق محجمة من دم المؤمنين.

فمكثنا أياماً صلينا الغداة، فلما فرغ أقبل علينا فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: إن أبا بكر وعمر أتياني الليلة، فقالا لي: صم يا عثمان، فإنك مفطر عندنا، فإني أشهدكم أني قد أصبحت صائماً وأعزم على من كان يؤمن بالله وباليوم الآخر إلا خرج من الدار سالماً مسلماً.

فقلنا: يا أمير المؤمنين إن خرجنا لم نأمنهم على أنفسنا، فائذن لنا فلنكن في بيت من الدار يكون فيه حماية ومنعة؛ فأذن لهم فدخلوا بيتاً، وأمر بباب الدار ففتح، ودعا بالمصحف فأكب عليه، وعنده امرأتاه ابنة الفرافصة الكلبية وابنة شيبة.

"فكان أول من دخل عليه محمد بن أبي بكر الصديق، فمشى إليه حتى أخذ بلحيته فقال: دعها يا ابن أخي فوالله إن كان أبوك ليلهف لها بأدنى من هذا، فاستحى فخرج وهو يقول: أشعرته وأخذ عثمان ما امتعط من لحيته فأعطاه إحدى امرأتيه، ثم دخل رومان بن وردان -عداده في مراد- رجل قصير أرزق مجدور هو في آل ذي أصبح، معه جرْز من حديد فاستقبله فقال: على أي ملة أنت يا نعثل؟ فقال عثمان: لست نعثل ولكني عثمان بن عفان، وأنا على ملة إبراهيم حنيفاً مسلماً وما أنا من المشركين، فقال: كذبت، فضربه بالجرْز على صدغه الأيسر، فقتله. وأدخلته بنت الفرافصة بينها وبين ثيابها".

رواية الأحنف بن قيس التي رواها الطبري في "تاريخه" 3/510-512:

قال الأحنف: "قدمنا المدينة ونحن نريد الحج، فإنا لبمنازلنا نضع رحالنا إذا أتانا آت فقال: قد فزعوا وقد اجتمعوا في المسجد، فانطلقنا، فإذا الناس مجتمعون في نفر في وسط المسجد، وإذا علي والزبير وطلحة وسعد بن أبي وقاص، وإنَّا كذلك إذ جاء عثمان بن عفان فقيل: هذا عثمان قد جاء وعليه مليئة له صفراء قد قنّع بها رأسه، فقال: أههنا علي؟ قالوا: نعم، قال: أههنا الزبير؟ قالوا: نعم، قال: أههنا طلحة؟ قالوا: نعم، قال: أنشدكم بالله الذي لا إله إلا هو أتعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: من يبتع مربد بني فلان غفر الله له،

فابتعته بعشرين أو بخمسة وعشرين ألفاً، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله قد ابتعته. قال: اجعله في مسجدنا، وأجره لك، قالوا: اللهم نعم.

وذكر أشياء من هذا النوع.

قال الأحنف: فلقيت طلحة والزبير، فقلت: من تأمراني به وترضيانه لي؟ فإني لا أرى هذا الرجل إلا مقتولا. قالا: علي، قلت: أتأمراني به وترضيانه لي؟ قالا: نعم. فانطلقت حتى قدمت مكة، فبينا نحن بها إذ أتانا قتل عثمان، وبها عائشة أم المؤمنين فلقيتها، فقلت: من تأمرينني أن أتابع قالت: علي، قلت: تأمرينني به وترضينه لي؟ قالت: نعم، فمررت على علي بالمدينة فبايعته ،ثم رجعت إلى البصرة، ولا أرى الأمر إلا قد استقام، فبينا أنا كذلك إذ أتاني آت فقال: هذه عائشة وطلحة والزبير، قد نزلوا جانب الخريبة فقلت: ما جاء بهم؟ قالوا: أرسلوا إليك يدعونك يستنصرون بك على دم عثمان، فأتاني أفظع أمر أتاني قط، فقلت: إن خذلاني هؤلاء، ومعهم أم المؤمنين وحواري رسول الله صلى الله عليه وسلم لشديد، وإن قتالي رجلاً ابن عم رسول الله صلى الله علي وسلم قد أمروني ببيعته لشديد، فلما أتيتهم، قالوا: جئنا لنستنصر على دم عثمان رضي الله عنه قتل مظلوماً، فقلت: يا أم المؤمنين أنشدك بالله أقلت لك: من تأمرينني به، فقلت: علي، فقلتُ: أتأمرينني به وترضينه لي؟ قلت: نعم؟ قالت: نعم، ولكنه بدل، فقلت يا زبير يا حواري رسول الله صلى الله عليه وسلم، يا طلحة أنشدكما الله أقلت لكما ما تأمراني؟ فقلتما: علي، فقلت: أتأمراني به وترضيانه لي؟ فقلتما: نعم، قالا: نعم ولكنه بدلْ، فقلت: والله لا أقاتلكم ومعكم أم المؤمنين وحواري رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أقاتل رجلاً ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرتموني ببيعته".

ما يستخلص من الروايات الثلاث

1- رد سيدنا عثمان بن عفان كثيراً من التهم الموجهة إليه، واستغفر عن بعض أعماله التي أقر بأنها خطأ عمله، وبذلك رضي عنه الثائرون، حيث إنه وعدهم بتصحيحها.

2- لم يرسل عثمان إلى عامله في مصر أي كتاب يحرضه على قتل الثوار، وذلك لأن عثمان لم يغير وعده لهم.

3- كان باستطاعة عثمان مقاتلة الخارجين وردهم، ولكنه لم يُرد إهراق الدم في الدفاع عن نفسه، ولم يرد ترك المدينة، بل رضي أن يقتل لرؤية رأها في المنام.

4- كان بجانب عثمان الصحابة الأولين يوالونه ويشدون أرزه، وأبناؤهم أيضاً.

5- لم يكن يطمع طلحة والزبير في الاستيلاء على الخلافة بعد عثمان، لأنهما كانا يريان أن علياً هو الأصلح لها. وهذا هو رأي السيدة عائشة.

6- خروج السيدة عائشة وطلحة والزبير يطالبون بدم عثمان لاعتقادهم أنه قتل مظلوماً.

7- هناك عدد من أهل المدينة ينقمون على عثمان لأمور مادية، لأنه أراد أن يمنعهم من المشاركة في الفتوح.

8- إن بين الثائرين على عثمان من هم مدفوعون بالغيرة على الدين.

9- هناك أيدٍ خفية تحرك الأمور من وراء الستار لتوقع الفرقة بين المسلمين، فهي التي صاغت الكتب على لسان الصحابة، وهي التي زورت الكتاب المرسل إلى عامل عثمان في مصر، وهي التي كانت تستعجل الأمور.

10- كان بين هؤلاء الثوار رجال من الصحابة كمحمد بن أبي بكر، ولعل منهم: عمار بن ياسر، ولكن الأمر لم يبلغ بهم حد الاشتراك في القتل.


Free Web Hosting